جنرال التطبيع يهنئ نتنياهو!

جنرالات العسكر في السودان يهربون من مأزقهم ومن خوفهم ورعبهم مما ينتظرهم من شعب السودان العريق في عشقه للحرية جراء التطبيع مع الكيان الصهيوني.

  • جنرال التطبيع يهنئ نتنياهو!
    جنرال التطبيع يهنئ نتنياهو!

كان والدي رحمه الله يردد: الجنود السودانيون شجعان مقدامون، وأنا أشهد بما رأيت، فقد حضروا عام 1948، أي عندما تصاعدت حرب العصابات الصهيونية على الشعب الفلسطيني، وأعلن الكيان الصهيوني "حرب الاستقلال"، أي حرب طرد الفلسطينيين من مدنهم وقراهم التي عاشوا فيها وزرعوا أرضها وبنوا بيوتها على امتداد ألوف السنين، وتوارثوا حضارتها ومدنيتها في قلب وطن كبير تجلّت فيه مدنيات وحضارات هي الأعرق في العالم، في مصر والعراق وبلاد الشام، وقلبها وصلة الوصل بينها: فلسطين.

ضاعف محبتي للسودان وشعبه العريق شيخ النقّاد العرب الدكتور إحسان عبّاس، الذي علّم في الخرطوم في الجامعة الأميركية، والذي لطالما ردّد على مسمعي: عشت أحلى سنوات عمري وأجملها في السودان، مع السودانيين الطيّبي المعشر، والشعب السوداني هو الشعب الديمقراطي حقاً، فبين أفراده صلات نادرة في وطننا العربي الكبير، فأنت تجد الشيوعيين والإخوان المسلمين والناصريين في جلسات صداقة ومودة ومحبة تجمعهم في نقاشاتهم رغم خلافاتهم، والخلافات بينهم لا تنافر فيها، ولا حدّة، ولا عصبية، ولا حقد، ولا كراهية، ولا مقاطعة عدائية.. وهم يتمتعون بخفة الدم وطيبون.

عندما كبرت، أحببت الغناء السوداني، وكنت أسمعه من إذاعة "بي بي سي". لم أكن أتبيّن الكلمات، لكنني كنت أسرح مع الأنغام، بحيث أرتحل معها إلى الغابات في ذلك الركن البعيد من وطننا العربي الكبير.

شاءت الأقدار أن ألتقي في مؤتمر الأدباء والكتّاب العرب عام 1973 في تونس الروائي الطيب صالح، وأصغي إليه محدثاً ساخراً وجاداً ومتواضعاً، ثم ألتقيه كثيراً فيما بعد. طبعاً، كنت قد قرأت له "موسم الهجرة إلى الشمال" و"عرس الزين"، وكانت شهرته قد ملأت أرجاء بلاد العرب، فازدادت محبتي للسودان وأهله، وتحسّرت لأنني زرت الصين البعيدة جداً قبل أن أزور السودان؛ البلد العربي الأفريقي، ثم تحققت أمنيتي وزرت السودان، لمناسبة جائزة الطيّب صالح.

وفي العاصمة الخرطوم، التقيت أصدقاء من الوطن العربي الكبير وسودانيين طيبين لم يخيبوا ظني بنبلهم وطيبتهم، وزرت أم درمان، وشاركت في النقاش والجدل في الندوات، وتعرفت إلى سودانيين مثقفين رائعين. وقد دعوني بإلحاح للسفر معهم إلى ولاياتهم، وكانوا صادقين بكرم لم أستغربه.

وفي الفندق الذي نزلت به في العاصمة، حضرت صحافية وإعلامية معروفة في السودان، لكونها تقدم برنامجاً تلفزيونياً وبرنامجاً إذاعياً. ما إن جلسَتْ وهمَّت بأن تشغّل آلة التسجيل لتبدأ الحوار الموعود معي، حتى وقف إلى جانبنا رجل طويل عريض ونظر باستعلاء إلى السيدة الإعلامية، وأشار إليها بإصبعه بأن تلحقه. وعندما لحقت به، أخذ ينظر إليها بعنجهية ويرمقني بطرف عينه كأنه يقول: انظر كيف أتحكم في هذه المرأة التي حضرت لتحاورك، ثم يستدير متباهياً بأنه يفعل ما يريد (ولا على باله!).

قلت لنفسي: هذا من مخلوقات زمن عسكر جنرالات الاستبداد. وعندما أقبلت السيدة عائدةً من اللقاء القصير المفتعل، نهضت وابتسمت وأنا أرمقه بنظرة تليق بشخص تافه، وكنت قد قررت أن ألقنه درساً فيما لو فتح فمه معي في كلمة ما.

لمست حجم المرارة التي يعانيها شعب السودان الطيّب المناضل من "حكم العسكر" وقهرهم واستبدادهم، بعدما كنت قد سمعت عن قسوة استبدادهم. أُحجم عن ذكر أسماء الأصدقاء السودانيين المنخرطين في المقاومة المستمرة الرافضة لاستبداد "الجنرالات" الذين أجّروا ألوف الجنود وصغار الضبّاط السودانيين لحكّام مملكة آل سعود ليحاربوا بهم في اليمن، وليموتوا بعيدين من سودانهم الحبيب، خدمةً لعدوان آل سعود في الحرب التي يشنونها على شعب اليمن العربي العريق.. والجنرالات يقبضون الملايين، ويرابون ثرواتهم من دماء شعب اليمن والجنود السودانيين الذين يزجهم جنرالات البطش والارتزاق في حرب ليست حربهم.

أولئك الجنرالات يهربون من مأزقهم ومن خوفهم ورعبهم مما ينتظرهم من شعب السودان العريق في عشقه للحرية جراء التطبيع مع الكيان الصهيوني، ومن لهم غيره وغير أميركا؟

واليوم، يمعن "برهانه" في الخضوع والذلّ لنتنياهو، فيرسل إليه تهنئة بفوزه في الانتخابات، في حين تتفاعل هتافات وصيحات شعب السودان المطالبة باستعادة الحكم من جنرالات الاستبداد والقمع وتأجير الألوف من جيش السودان، الذي يعدّ أبناؤه أحفاد الجنود الذين حاربوا في فلسطين، والذين يحفظ لهم شعب فلسطين أجمل الذكريات. وقد كانوا آنذاك مع جنود مصر يشكلون جيشاً واحداً يهتف للملك فاروق (ملك مصر والسودان): يعيش فاروق ملك مصر والسودان.

شعب السودان العريق سيكنس التطبيع وجنرالاته، والمطبعون الساقطون المكروهون المحتَقَرون في بلاد العرب من ملايين العرب سيسقطون، ولن يحميهم نتنياهو ولا أميركا وأدواتها.