رسالة من غزة إلى الشعوب الأفريقية
تحية لكم شعوب أفريقيا من شعبٍ يعرف جيداً معنى النضال، ويقدّر من وقف معه حين صمت كثيرون من غزة… من أرض الجراح والكرامة، نبعث لكم حباً وامتناناً.
-
نشكركم لأنكم لم تنظروا إلى غزة من وراء الشاشات فقط.
عندما دخل اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية في غزة و"جيش" الاحتلال حيّز التنفيذ؛ اتصل بي صديقي الجزائري "سلطان" في الساعة الثانية فجراً تقريباً، كان يبكي فرحاً ويحمد الله ويبارك لي أن الحرب انتهت، كان وقع الاتصال في نفسي أكبر ربما من خبر وقف الحرب، سلطان زميل دراسة في جامعة باتنة قبل عقدين، وطوال الحرب كان حريصاً على الاتصال والاطمئنان.
الحاجة "عائشة" سبعينية من أوراس الجزائر الأشم حيث انطلقت شرارة الثورة الجزائرية، كانت جارتي أثناء الدراسة طوال فترة الحرب، حرصت على الاتصال أسبوعياً تقريباً تطمئن وترسل السلام والتحية إلى أهل غزة، وتسأل عن كل شيء وعندما أردّ على الهاتف تقول لي: "الحمد لله راك لا زلت حي".
محمد من تونس وعباس من السودان وإبراهيم من تشاد والقائمة تطول لأصدقاء جدد عرفتهم خلال الحرب من السنغال وجيبوتي وأثيوبيا والصومال الذي فوجئت أن شعبه قد تعهد وتكفل بإقامة ودعم وتمويل تكية توزّع الطعام على النازحين في مواصي خان يونس، ولم أعلم بذلك إلا عندما استهدفت التكية وارتقى 6 شهداء من الطاقم القائم عليها. والنماذج أكبر من أن تُعد أو تُحصى عن الواجب قدر الممكن والمستطاع الذي قدمته شعوب أفريقيا لغزة من دعم عيني ومادي وسياسي وإعلامي وتضامني.
عطفاً على تلك النماذج والتضامن غير المسبوق والموقف الإنساني الممتد الفاعل والمؤثر للشعوب الأفريقية، والذي ترك أثراً طيباً وداعماً للشعب الفلسطيني في غزة طوال الحرب الإسرائيلية على القطاع، فإن الواجب يقتضي رد الجميل؛ وعليه ترسل غزة رسالتها إلى الشعوب الأفريقية وتقول فيها:
من قلب الحصار، من تحت الركام، من بين أنقاض البيوت ومآذن المساجد المحطمة، نرسل إليكم شعوب أفريقيا الحرة رسالة محبة وامتنان واعتزاز.
كنتم صوتنا في زمن عزّ فيه الموقف، وندر فيه الصوت الحر، كنتم أنتم صوت الضمير الإنساني، ووقفتم إلى جانبنا، نحن المحاصَرين في غزة، كما لم يقف غيركم. خرجتم في الشوارع، رفعتم الأعلام الفلسطينية، نددتم بالعدوان، ورفضتم الرواية الزائفة التي حاولت "إسرائيل" نشرها وتمريرها. في زمنٍ تواطأ فيه كثيرون بالصمت، وانزوى البعض الآخر؛ تكلمتم أنتم بالحق. وفي زمنٍ اختلطت فيه الحقيقة بالدعاية، اخترتم أنتم جانب الإنسانية.
رغم بُعد المسافة، وقلة التأثير المباشر في موازين القوى، لم تكن غزة غائبة عن موقفكم وضميركم، وقدمتم موقفاً أفريقياً شعبياً جماعياً، خبر الاستعمار والعنصرية والهيمنة، وقرأ ما يحدث في غزة بمنظار الذاكرة الجماعية، فكان دعمكم عابراً للحدود وعميقاً في مضمونه ومواقفه. شكراً لأنكم لم تسألونا عن لوننا ولا ديانتنا ولا موقعنا على الخريطة، بل نظرتم إلينا كأناسٍ نُباد ونُظلم، فقلتم: لا.
لستم غرباء عنا وعن قضيتنا ومظلوميتنا؛ ولسنا غُرباء عنكم، ففلسطين وأفريقيا تلتقيان في التاريخ ذاته؛ تاريخ مقاومة الاستعمار، وتاريخ الإيمان بالحرية والكرامة، وتاريخ الشعوب التي ترفض أن تُكسر إرادتها. ومثلما قاومت أفريقيا نظام الفصل العنصري وكسرت قيوده، تقاوم غزة اليوم حصاراً وظلماً لا يقلّ قسوة.
إننا نستمدّ من قصصكم من مانديلا، ولومومبا، ونكروما، ومن كل شهيد أفريقي ناضل لأجل كرامة الإنسان القوة على الاستمرار والصمود. إن بيننا وبينكم خيطًا من النور لا تقطعه المسافات، خيطاً من الحرية التي تؤمنون بها، والعدالة التي نعيش لأجلها. فلتبقَ قلوبنا متصلة، ولتكن قضايانا المشتركة جسراً بين شعوب أفريقيا وغزة، بين نهر النيل والبحر المتوسط، بين كل إنسانٍ حرٍّ وآخر ما زال يبحث عن حريته.
رأيناكم في الشوارع والساحات، ترفعون علم فلسطين إلى جانب أعلامكم الوطنية. رأينا وجوهكم في جنوب أفريقيا، كينيا، نيجيريا، غانا، تنزانيا، السودان، والسنغال؛ رأينا الأيادي المضيئة تهتف للعدالة، والقلوب التي لم تخشَ قول الحق. كل مظاهرة خرجت، كل بيان تضامن، كل صلاة دُعيت باسم غزة، كانت بلسماً على جراحنا.
سمعنا أصواتكم فشعرنا أنكم معنا وأننا معكم رغم بُعد المسافة لكن القلوب والمواقف قريبة، رأينا في وجوه أطفالكم التي خرجت في المسيرات، وجوه أطفالنا؛ وفي صرخاتكم وهتافكم سمعنا صدى صوتنا وأصوات الأمهات الثكالى في غزة.
أنتم تعرفون معنى الاحتلال، وتدركون ثمن الحرية. فكما قاومتم الاستعمار، وواجهتم العنصرية والفصل، تفهّمتم ما نعانيه نحن اليوم من حصار وقصف وتشريد. لذلك، كان موقفكم نابعاً من تجربة ووجع وكرامة، لا من دبلوماسية باردة أو حسابات مصالح.
نشكركم لأنكم لم تنظروا إلى غزة من وراء الشاشات فقط، بل شعرتم بها في وجدانكم. نشكركم لأنكم علّمتم العالم أن التضامن ليس رفاهية، بل موقفاً أخلاقياً. نشكركم لأنكم تذكروننا بأن الإنسانية لا لون لها، ولا حدود.
إن غزة تعدكم أن تبقى كما عهدتموها رمزاً للكرامة والصبر والإصرار على الحياة. نعدكم أننا سنبني من تحت الركام وطناً يُشبه إيمانكم، ويستحق محبتكم. لن ننسى من وقف معنا ونحن ننزف؛ لن ننسى من هتف باسمنا وهو يعلم أن ذلك قد يكلّفه الكثير؛ لن ننسى من آمن بأن الإنسان يستحق الحياة، حتى لو كان فلسطينياً.
شكراً شعوب أفريقيا لا مجرد كلمات أو رسالة عابرة إنما عهد ووعد؛ لقد كنتم معنا حين احتاج العالم إلى أن يسمع صوت العدالة، سنذكركم دائماً كما تذكرتمونا عندما نسينا الجميع. إن ما بيننا ليس علاقات دبلوماسية بل تحالفاً بين ثوار، وعلاقاتنا ليس ظرفية طارئة بل هي تحالف أخلاقي وثوري مؤمن بتحرير فلسطين.
إن موقفكم وتضامنكم وصوتكم كان أقوى من دوي القذائف ومن القصف والنسف؛ لقد أيقظتم ضمير العالم وغيّرتم ميزان التعاطف، وصدقية الرواية، إن موقفكم أعاد رسم خريطة التضامن، وأكدتم للعالم أن غزة ليس وحدها، بل في قلوب شعوب تعرف تماماً كيف يولد النور من تحت الظلام والركام.
تحية لكم شعوب أفريقيا من شعبٍ يعرف جيداً معنى النضال، ويقدّر من وقف معه حين صمت كثيرون من غزة… من أرض الجراح والكرامة، نبعث لكم حباً وامتناناً، ونقول: أنتم لستم فقط أشقاء في التضامن، بل شركاء في الأمل والنصر القادم.