سوريا... السيادة وتحدّيات الهيمنة والنفوذ

المخاوف من أن تصبح سوريا ساحة للمواجهة بين "إسرائيل" وتركيا يبدو أنها مشروعة، خاصة وأنّ الاعتداءات الصهيونية على سوريا لم تتوقّف، بل ازدادت وتيرتها وبشكل كبير بعد سقوط النظام فيها. 

0:00
  • لماذا تعد تركيا اللاعب الأبرز على الساحة السورية؟
    لماذا تعد تركيا اللاعب الأبرز على الساحة السورية؟

لم يعد مفهوم السيادة الذي تحدّث عنه جان بودان هو ذاته الذي نتحدّث عنه اليوم، في ظلّ التداخل الكبير بين الاقتصادات الدولية والتطوّر المذهل في وسائل الاتصال، وعدم قدرة الدولة على العيش منعزلة عن غيرها على الساحة الدولية.

فالسيادة وفقاً لبودان تعني السلطة المطلقة للدولة في التحكّم بأراضيها وأجوائها ومياهها الإقليمية، وهو ما لم يعد ممكناً في عالم اليوم. فوفقاً لهذا المفهوم لا توجد دولة كاملة السيادة في عالم اليوم، وكلّ حديث في هذا الإطار يأخذ الطابع النسبيّ لا المطلق.

فالأقمار الصناعية تمرّ في أجواء جميع الدول، والغوّاصات لا يمكن رصدها في كثير من الأوقات بينما هي تجتاح المياه الإقليمية حتى للدول الكبرى. فالصحيح أن نقول إنّ الدولة (س) تتمتع بالسيادة أكثر من الدولة (ع)، وكلّ تعميم يبعدنا عن المعنى السياسي للمصطلح، ويدخلنا في حوارات إعلامية أكثر منها علمية سياسية. 

وفي الحديث عن سوريا يمكننا القول إنّ ما كان يزيد من منعتها وسيادتها وقدرتها على مواجهة الإملاءات والتدخّلات الخارجية هو متانة جبهتها الداخلية وعدم الحاجة للخارج، سياسياً واقتصادياً، بل وحتى عسكرياً.

تركة ما بعد الأسد...

لا شكّ أنّ الحكومة الانتقالية في سوريا ورثت اقتصاداً متهالكاً، ومجتمعاً أقلّ ما يقال عنه إنه يعيش شرخاً نفسياً وتسيطر عليه غريزة الثأر والانتقام.

أما على الصعيد السياسي، فلم يعد القرار السياسي حرّاً، في ظلّ حاجة سوريا لغيرها من الدول، وبات جلّ طموحنا أن لا نتحوّل إلى أداة بيد غيرنا. فالدول الكبيرة لا تتقاتل، ولكنها تقاتل بنا نحن الدول الصغيرة، عبارة تنطبق على الكثير من الدول العربية لا سوريا وحدها.

القيادات السياسية الناجحة هي التي تستطيع التخفيف من حجم الضغوط والإملاءات الخارجية، عبر نسجها شبكة من التحالفات، وقدرتها على تأمين "البدائل". إنّ "وضع البيض في سلة واحدة" هو مقتل السياسة، والقدرة على الانتقال من ضفة إلى أخرى هو المعيار على حنكة القيادة السياسية وبراعتها.

تاريخياً كانت سوريا أقرب إلى المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفياتي)، ومحطات قصيرة فقط استطاعت فيها الاقتراب من الغرب، وهي المحطات التي شهد فيها الاقتصاد السوري بعض النمو.

إقليمياً، أقامت سوريا علاقات متطوّرة مع إيران، فكانت محطّ انتقاد من قبل الدول العربية، وخاصة الدول الخليجية التي ترى في إيران عدوّها الأول.

استطاع الرئيس حافظ الأسد خلق نوع من التوازن في علاقة سوريا بإيران، مع الحفاظ على العمق العربي لسوريا، هذا التوازن أسهم في تحقيق المصلحة لسوريا، مع التقليل ما أمكن من الغضب العربي، وإقناع العرب بأهمية الاستثمار في علاقة سوريا بإيران.

في عهد الرئيس السابق بشار الأسد خسرت سوريا عمقها العربي وجعلتها ظروف الحرب أكثر احتياجاً لكلّ من إيران وروسيا، فباتت كلتا الدولتين تتمتعان بنفوذ كبير في سوريا.

القيادة السورية الجديدة ما زالت ترى في إيران وروسيا أعداء الأمس، ويبدو من المبكر توقّع تحوّلهما إلى أصدقاء اليوم، لكنّ السياسة تحتّم أن يكونوا كذلك غداً. 

روسيا والرغبة في تصحيح العلاقة مع سوريا...

سعت روسيا إلى التواصل مع حكومة دمشق حفاظاً على مصالحها في سوريا، والرغبة في عدم الظهور بمظهر المهزوم، وما يترتّب على ذلك من تأثير سلبي على شعبية الرئيس بوتين شخصياً.

الديون الخارجية لروسيا على سوريا غير واضحة، خاصة وأنّ موسكو قبلت الدخول في قنوات غير شرعيّة في تعاطيها مع النظام السابق.

الامتيازات الاقتصادية التي حصلت عليها موسكو في الساحل السوري وغيره من المناطق، يبدو أنها لن تكون ملزمة للحكومة السورية الجديدة، باعتبارها لم تمرّ ضمن القنوات الشرعية والقانونية بين البلدين.

فدمشق تنظر إلى الديون الروسية باعتبارها نوعاً من "الديون البغيضة"، وبالتالي فهي غير ملزمة بسدادها.

أموال الرئيس السابق وأسرته وحاشيته التي تمّ تهريبها إلى روسيا، تعمل الحكومة السورية على استعادتها، نظراً لحاجتها الماسّة إلى تلك الأموال، ولما لذلك من تأثير كبير على شعبية القيادة الجديدة في دمشق.

استعادة الرئيس السابق من موسكو لمحاكمته في دمشق قد لا يكون في سلّم أولويات سوريا اليوم، لما لذلك من تعقيدات وتأثير على سمعة روسيا الدولية في حال قرّرت تسليمه. فموافقة موسكو على تسليمه لن تكون قبل التوصّل إلى تشكيل محاكم مستقلة، وهذا يحتاج إلى بعض الوقت، ويدخل في نطاق التفاهمات السياسية بين البلدين.

سوريا أيضاً بحاجة إلى موسكو، نظراً للعلاقات التاريخية بين البلدين، والحاجة إليها في دعم مطالب سوريا في رفع العقوبات عنها.

تركيا... اللاعب الأبرز على الساحة السورية

كانت تركيا الداعم الأبرز للحراك السوري، فاحتضنت ملايين اللاجئين السوريين، وقدّمت الدعم المالي والعسكري، وسهّلت مرور المقاتلين عبر الحدود.

يبدو أنّ تركيا كانت مؤمنة بحتميّة التغيير في سوريا، وأنّ ذلك سيتحقّق طال الزمان أو قصر. فعملت على خلق المناطق الآمنة في الشمال السوري، لتكون الجماعات الموجودة فيها بمأمن من قصف طيران النظام والطيران الروسي.

أنفقت تركيا أموالاً طائلة في بناء البنية التحتية في الشمال السوري، وهو ما يؤكّد ثقتها بأنه سوف يأتي اليوم الذي تستطيع فيه استرداد تلك الأموال من خلال الحصول على بعض الامتيازات في سوريا.

حديث الرئيس إردوغان في العام 2012 وإعلان رغبته في الصلاة في الجامع الأموي، وزيارة قبر صلاح الدين ومحطة الحجاز والتكية السليمانية، تحقّقت اليوم خلال زيارة نجله لدمشق وزيارته تلك المناطق. فحديث إردوغان حينها بدا وكأنه ضرب من الخيال، لكنّ الأيام تثبت أنه كان يتحدّث بعقل رجل الدولة الواثق من طموحه والمؤمن بقدرته على تنفيذه.

هذا الموقف يذكّرنا بتصريحات إردوغان في العام 1993 حين وقف في ساحة تقسيم معلناً رغبته في بناء مسجد في تلك الساحة، وهو ما اعتبره البعض حينها حلماً صعب المنال، وهو ما تحقّق بعد عشرين عاماً.

إردوغان يتقن رسم الأهداف بعيدة المدى، ويتصرّف بعقل رجل الدولة القادر على قيادة الدولة العميقة، وهو ما يخيف "إسرائيل" من تصريحاته حول استعادة فلسطين. 

إحياء الذاكرة التاريخية وتعزيز الروابط الثقافية بين تركيا والمنطقة، كانت الهدف الأهم لزيارة بلال إردوغان إلى دمشق، والتي عكست براعة أنقرة في توظيف قوتها الناعمة خدمة لتوجّهاتها السياسية.

المكاسب السياسية التي سيحقّقها إردوغان من نجاحه في سوريا ستزيد من شعبيته وتعزّز طموحه في حفظ مكانته زعيماً أبرز في التاريخ التركي المعاصر. فالاستفادة التركية من الواقع السوري الجديد تتوقّف على مدى قدرتها في اتباع سياسة براغماتية بعيداً عن عقلية الهيمنة والوصاية.

الحضور التركي في سوريا هامّ جداً، شريطة أن لا يتحوّل إلى نوع من النفوذ والهيمنة، لكنّ ذلك سيواجه بعدد من التحديات التي يتوجّب على أنقرة مواجهتها. 

القوات الأميركية الموجودة في الشمال السوري تقلق أنقرة، خاصة وأنها تهدف إلى الدفاع عن "قسد" التي تصنّفها تركيا كتنظيم إرهابي تسعى لمواجهته والقضاء عليه. فالولايات المتحدة الأميركية ترى أنّ تركيا باتت اليوم تمتلك "فائض قوة"، ومحاطة بعدد من الدول الضعيفة، وبالتالي فإنّ القوات الأميركية تؤدّي دور الموازن للحدّ من طموح تركيا.

"إسرائيل" باتت تعلن صراحة قلقها من الحضور التركي في سوريا، في ظلّ الحديث عن بناء قاعدتين عسكريتين لتركيا في سوريا، والدور المتوقّع لأنقرة في بناء الجيش السوري الجديد. وفي هذا الإطار جاءت الدعوة الإسرائيلية لضرورة بقاء القوات الروسية في سوريا، وإعلان نتنياهو نيّته التدخّل دفاعاً عن الدروز جنوب سوريا.

"ممرّ داود" الذي تحلم "إسرائيل" بإنشائه، والذي يربط "تل أبيب" بأماكن وجود قوات "قسد" في الشمال السوري، مروراً بالمحافظات السورية الجنوبية، لن تسمح به تركيا بكلّ تأكيد.

المخاوف من أن تصبح سوريا ساحة للمواجهة بين "إسرائيل" وتركيا يبدو أنها مشروعة، خاصة وأنّ الاعتداءات الصهيونية على سوريا لم تتوقّف، بل ازدادت وتيرتها وبشكل كبير بعد سقوط النظام فيها.