غزة... انكشاف زيف نظرية الرأي العام العالمي

العدوان على غزة والظروف التي أدت إلى وقف إطلاق النار قد كشفت مدى هشاشة الرأي العام العالمي، وضعف تأثيره في القرار السياسي والدولي.

0:00
  • طوفان الأقصى ونظرية الرأي العام العالمي.
    طوفان الأقصى ونظرية الرأي العام العالمي.

بعيداً من الاحتفالية التي بدأ الرعاة والوسطاء التحضير لها منذ ما قبل دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والكيان الإسرائيلي حيّز التنفيذ، وما يرافق حالياً هذه الاحتفالية من تجاذبات سببها مواقف الأطراف من الاتفاق ومن المقاومة ومن الكيان الإسرائيلي أيضاً، يطرح واقع الرأي العام العالمي ومدى قدرته على إدارة حراك شعبي مؤثر نفسه بقوة على طاولة البحث لناحية واقعية الدور المنوط به أو حقيقة وزنه المعنوي وقدرته على التأثير في آليات القرار الدولي.

فبعد أكثر من سنتين من العدوان المتواصل على قطاع غزة مع تقدير سقوط أكثر من 65000 شهيد وأكثر من 200000 جريح وتدمير شبه كامل للقطاع، لم يستطع الرأي العام العالمي أن يفرض نفسه كمؤثر فاعل في مسار أزمة صنفتها لجنة تحقيق دولية مستقلة تابعة للأمم المتحدة بأنها إبادة جماعية بحق الشعب الفلسطيني في القطاع.

في هذا الإطار، يمكن التفريق بين فاعلية الرأي العام العالمي والعربي حيث يظهر الأخير خاملاً غير متحفز أو قادر على التفاعل مع الأحداث الدولية بشكل عام.

وبطبيعة الحال، لم تكن الحرب على غزة حالة استثنائية في هذا الإطار، إذ بقي التفاعل الشعبي مع العدوان على غزة محدوداً في إطار التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي، وبعض التجمعات الخجولة في أوقات متفرقة في بعض هذه الدول، مع الإشارة إلى اعتبار بعض الشعوب العربية نفسها غير معنية بما يحدث في القطاع؛ استناداً إلى قناعة تم العمل على تكريسها في الوعي العربي عنوانها خدمة المقاومة في غزة أو لبنان أو باقي جبهات المقاومة لأجندات بعيدة عن حقها الشرعي في مقاومة الاحتلال.

 في كثير من الحالات، يمكن اعتبار مستوى الحرية والديمقراطية في بلد معين معياراً يمكن الركون إليه في تقدير مدى حيوية الرأي العام فيه. وبالتالي، قد يستند البعض إلى غياب معايير الديمقراطية ومساحة الحرية السياسية والاجتماعية في أكثر الدول العربية لتعليل سبب خمول الرأي العام فيها، وعدم قدرته على إنتاج حراك شعبي قادر على التأثير.

غير أن واقع الرأي العالم الغربي ومستوى تفاعله مع العدوان الإسرائيلي على غزة لناحية الموقف الممنهج في إطار حق الكيان في الدفاع عن نفسه في الأشهر الأولى للعدوان، وعدم القدرة على بلورة فهم حقيقي لتعقيدات المشهد في فلسطين وارتباطاته بـ"طوفان الأقصى"، مع الإشارة إلى أن ما حدث في الأشهر الأخيرة في بعض الدول الغربية من تظاهرات وتحركات شعبية لا يعبّر عن فهم واقع الشعب الفلسطيني وإنما يمكن قراءته من خلال عدم القدرة على تحمّل مشاهد القتل والتدمير التي كانت تبثّها مواقع ومحطات إعلامية كبيرة، يؤكد أن الإشكالية لا تتعلق بمساحة حرية التعبير والديمقراطية، وإنما بدور الرأي العام الذي تعمل المنظومة الغربية على تضخيمه في محطات معينة أو تهميشه في محطات أخرى بغية تحقيق أهداف محددة.

انطلاقاً من هذا الواقع، وبعيداً من الإطار الشكلي الذي تتسم به، يمكن القول إن السمات الديمقراطية التي تدّعيها الأنظمة الغربية لا تقدم اختلافاً في مقاربتها للرأي العام عن تلك الأنظمة التي يمكن القول إنها لا ديمقراطية. فإذا كان احتكار الدولة لوسائل الإعلام إحدى أهم سمات الأنظمة اللا ديمقراطية، فإن الأنظمة الغربية وإن كانت لا تستخدم أساليب الهيمنة أو الاحتكار المباشر التي تستخدمها الأنظمة اللا ديمقراطية، فإنها من خلال قدرتها على توظيف التشريعات والقوانين المنظمة لوسائل الإعلام، بالإضافة إلى قدرتها على التحكم في توجهاتها من خلال الرقابة الرسمية والتحكم بالمعلومات الرسمية والتأثير عبر التمويل والدعم المالي، سيؤدي في نهاية المطاف إلى فرض هيمنتها على هذه الوسائل بطريقة غير مباشرة. وعليه، سيكون من السهل التقدير أن الحراك الشعبي في هذه الدول، الموصوفة بأنها ديمقراطية، موجّهاً بما يخدم مصالح القوى السياسية التي تحكمها.

في هذا الإطار، يمكن القول إن المسار الذي تبنّته الشعوب تجاه "طوفان الأقصى" والعدوان على الشعب الفلسطيني، من دون أن نهمل العدوان الذي شنّه الكيان على باقي الجبهات، في لبنان واليمن وإيران وحتى قطر، لا يعبّر عن حقيقة وعي سياسي شكّلته الشعوب بحرية.

فالرواية الإسرائيلية التي فسّرت العدوان على غزة وباقي الجبهات على أنها حرب وجودية يتم خوضها ضد إرهاب متوحش، كما يدّعي، قد تلقفته المنظومة الغربية وعملت على تسويقه وتحويله إلى معيار يتم من خلاله التمييز بين أفراد المجتمع على أسس وضعها اللوبي الصهيوني، أي ما يسمى بمعاداة السامية.

أما عن التحوّل الذي طرأ على موقف الرأي العام العالمي والذي تحوّل في الأشهر الأخيرة إلى حراك شعبي مناهض للحرب على غزة، فإن ذلك لم يكن تعبيراً عن موقف حقيقي يرتقي إلى الدور الذي أراده بعض المفكرين، كفولتير وجون لوك وألكسي دو توكفيل وهارولد لازويل وغيرهم، أي التحوّل من مجرد مزاج شعبي يمكن التلاعب به إلى قوة مؤثرة في القرار السياسي والدولي.

وعليه، رغم كل ما تمت الإشارة إليه من رفض شعبي لسلوك إسرائيلي متفلت من مبادئ القانون الدولي الإنساني والأمن الجماعي، لم يكن وقف إطلاق النار في غزة قراراً فرضته تأثيرات حراك شعبي عالمي، وإنما أمكن اعتباره نتيجة تقدير أميركي متفلت من أي تأثيرات أو ضغوط يمكن للرأي العام العالمي أن يمارسها. فالكلمة التي ألقاها دونالد ترامب في الكنيست بالإضافة إلى سلوكه في العريش والإشادات التي حصل عليها من كل القادة الذين حضروا، أظهرت استناد قرار وقف إطلاق النار في غزة إلى متطلبات الرؤية الإستراتيجية الأميركية في ظل عدم قدرة الكيان على تحقيق الأهداف التي تبنّاها نتنياهو منذ بداية العدوان. فالقرار الأميركي كان نتيجة حتمية لصمود المقاومة في غزة، وقدرة الشعب الفلسطيني على تقديم التضحيات، ورفض كل منهما متطلبات المشروع الأميركي الإسرائيلي الذي يفترض ضرورة إنهاء مقاومة الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته.

وعليه، يمكن القول إن العدوان على غزة والظروف التي أدت إلى وقف إطلاق النار قد كشفت مدى هشاشة الرأي العام العالمي، وضعف تأثيره في القرار السياسي والدولي.

فالعدوان على غزة بشكل خاص وفهم الرأي العام الغربي الخاطئ والمضلل لحقيقة القضية الفلسطينية ومشروع نضال الشعب الفلسطيني العسكري سيطرحان أسئلة معقدة حول مدى إمعان الدولة العميقة في الغرب في استغلال الرأي العام العالمي كإحدى أدوات حربها الناعمة التي تستخدمها حين يكون ذلك مناسباً لمصالحها.

وبالتالي، انطلاقاً من الضمير العالمي الذي من المفترض أن يشكل انعكاساً لمفاهيم الإنسانية والعدالة الدولية، يجب أن تشكل جريمة الإبادة البشرية التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي في غزة والعدوان السافر على دول وشعوب المنطقة فرصة حقيقية لإعادة تقييم وتفعيل الدور المفترض للرأي العام العالمي في كتابات المفكرين، إذ يجب أن يكون مؤثراً في إطلاق مشروع إحلال نظام عالمي على أسس الأمن الجماعي المرتكز على قواعد القانون الدولي، وذلك تحت طائلة السقوط في فخ نظرية هوبز التي ترى أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، وأن المجتمع الدولي ليس إلا غابة تتصارع فيها الدول كما الحيوانات المفترسة.