في غزة.. صمود في وجه الكارثة!

الحياة في غزة ستستمر حتى من دون بيوت او مدارس أو مستشفيات، حتى من دون أسواق ومركبات وطاقة وكهرباء، لأن غزة أكبر من مجرّد مدينة، وأعظم من مجرّد مكان للسكن أو الإقامة.

  • في غزة حوّل الفلسطينيون قطع البلاستيك إلى وقود للمركبات.
    في غزة حوّل الفلسطينيون قطع البلاستيك إلى وقود للمركبات.

في غزة المجوّعة يفتقر معظم الناس لما يسدّ رمق أطفالهم، ولما يروون به ظمأهم، إذ تسبب تشديد الاحتلال لحصاره الظالم على مئات آلاف المواطنين ممن آثروا البقاء في مناطقهم التي أنهكتها الحرب، وحولتها إلى أشباه مدن، وقرى تنعق فوق أسوارها البوم، وتتجوّل في شوارعها المخرّبة الحيوانات الضالة التي تقتات على أجساد الشهداء المُلقاة في معظم الطرقات، تسبب في حالة من الجوع غير المسبوق، والعطش غير المشهود ،إذ لم يسبق أن مرّت غزة كمدينة عريقة وجميلة بمثل ما تمرّ به حالياً من إفقار وتجويع وتعطيش، فالمعابر التي كانت تُدخل بعض المساعدات قد أُغلقت، والطائرات التي كانت تُلقي القليل من الفتات قد غادرت، ومحطّات المياه التي كانت توفّر ما تيسّر من مياه صالحة للشرب قد تركت المدينة بآلاتها وموظّفيها، أما آبار المياه التي كانت تعمل يوماً في الأسبوع بفعل نقص الوقود فقد نضبت مياهها بفعل القصف والتدمير والتخريب الذي تعرّضت له، حتى المبادرون أو الغالبية العظمى منهم قد آثروا النجاة بأرواحهم ومشاريعهم ،وفضّلوا استكمالها في مناطق الوسط والجنوب بعيداً عن غارات الاحتلال وأحزمته النارية المكثّفة.

في غزة لا مكان صالحاً للسكن أو النوم، إذ جرى تدمير أكثر من ثمانين في المائة من مناطقها العمرانية ،في شرقها وغربها، وشمالها وجنوبها، بل إن كامل مناطقها الشرقية في التفاح والزيتون والشجاعية باتت مناطق مُخلاة بفعل اعتداءات الاحتلال، أما معظم مناطقها الجنوبية في الزيتون وتل الهوى والصبرة والشيخ عجلين، والشمالية في الشيخ رضوان ،والغربية في النصر والشاطئ فهي مناطق قتال وعدوان، لا تكاد تمر ساعة إلا وتشهد فيها تلك المناطق غارات وقصفاً وانفجارات يسمعها القاصي والداني، بل وتصل أصواتها إلى وسط فلسطين المحتلة في اللد والرملة وتل الربيع وجنوبها في الخليل وما يجاورها.

حتى ما تبقّى من مراكز إيواء في المدارس والمؤسسات والمشافي المدمّرة فقد بات تحت خطر القصف والاستهداف في أي لحظة، ويكاد المقيمون فيها يعدّون الساعات في انتظار صاروخ أو قذيفة تُحيل أجسادهم إلى غبار، وتدمّر ما تبقّى من مستلزمات حياتهم التي انتشلوها بصعوبة بالغة من تحت أنقاض بيوتهم المدّمرة والمهدومة.

في غزة لا مكان للتداوي أو الحصول على رعاية طبية ولو في حدّها الأدنى، فما تبقّى من مستشفيات أو أشباه المستشفيات يكاد تفتقر إلى أدنى مقوّمات الطبابة، فلا أجهزة أشعة، ولا رنين مغناطيسياً، ولا مستلزمات لجبر الكسور ووقف النزيف، حتى الأدوية المهدّئة للآلام والمسكّنات والتي يحتاجها كل المصابين والجرحى باتت مفقودة، إلى جانب أدوية الأمراض المزمنة كضغط الدم والسكري وغيرها،جميعها غابت عن مشافي غزة ومراكزها الطبية المحدودة بصورة لم تحدث من قبل، يُضاف إليها افتقار المشافي للكوادر الطبية المختصّة، والتي سقط العشرات من أصحابها شهداء في عمليات استهداف ممنهجة ومقصودة ،فيما اضطر البعض الآخر إلى الرحيل جنوباً حفاظاً على حياة أسرته بعد أن تلقّى العشرات من رسائل التهديد بالقتل من أجهزة استخبارات العدو .

في غزة لا أوراق نقدية صالحة للبيع أو الشراء، حيث تسبب منع العدو لدخول تلك الأموال، إلى جانب إغلاق البنوك ومحالّ الصرافة بأمر من السلطة الفلسطينية، التي تشارك في حصار المواطنين، بنشوء أزمة غير مسبوقة على هذا الصعيد، فلا أموال لدى المواطنين تساعدهم في مواجهة أزمة الغلاء الفاحش للأسعار، ولا بنوك أو مكاتب صرافة تمكّنهم من سحب أموالهم المجمّدة، والتي يأتي معظمها من بعض المساعدات الدولية، وأخرى من أقارب لهم في الخارج، إضافة إلى رواتب موظفي السلطة والمتقاعدين والمستفيدين من الشؤون الاجتماعية.

هذا الوضع مكّن بعض مالكي رؤوس الأموال الجشعين من التحكّم في أرزاق الناس عبر ما بات يُعرف بالصرف مقابل العمولة، إذ يقومون بتسليم المواطنين جزءاً مما يحتاجونه من أموال مقابل عمولة تصل في بعض الأحيان إلى أكثر من 50%، أي أن المواطن البسيط الذي يُرسل له أقاربه مبلغ 1000شيكل لمواجهة أعباء الحياة التي لا تنتهي، يحصل منها على النصف فقط، وهذا المبلغ وحتى عشرة أضعافه لا يصلح لتغطية نفقات بيت مكوّن من خمسة أفراد لمدّة أسبوع واحد. 

 ما سردناه أعلاه في عجالة هو جزء مما يحدث في غزة، بل هو الجزء الظاهر مما يجري في هذه المدينة الجميلة والساحرة، أو التي كانت كذلك في يوم من الأيام، فإلى جانبه كوارث في كل المجالات، ومصائب تسقط فوق رؤوس السكّان من مختلف الاتجاهات، ومصاعب لا تكاد تجد لها حلّا أو مخرجا، فهي تترى كموج البحر، وكبرى كسحب السماء، وبلا نهاية ككابوس أسود يلاحق صاحبه كلما خلد إلى النوم.

غير أن كل ما سبق والذي يمكن أن يراه القارئ نذير شؤم لما هو آتٍ على مدينة غزة، يجد ما يقابله من أمل وبشريات، من ثقة تتجدّد كل ساعة بل كل دقيقة، من إيمان بأن الغد الآتي على صعوبته لن يكون إلا كما أراد الله، لا كما يريد الأعداء، وأن الأيام الصعبة التي يحياها الناس في غزة زائلة لا محالة، بغض النظر عن نتائجها القريبة أو البعيدة، فهي غمامة صيف ستغادر سماءنا بعد حين، وستزول آثارها عمّا قريب، وترجع إلى السماء زرقتها كما كانت على الدوام.

في غزة يجترح الفلسطيني الأصيل كمّاً لا حصر له من المعجزات، في محاولات لا تتوقّف لإيجاد البدائل لكل ما خرّبه أو دمّره الاحتلال، وهو بذلك يمارس دوره في إفشال مخطّطات الاحتلال تماماً كما يمارسها المقاتل في الميدان، فكلاهما يكمّل أحدهما الآخر ، وكلاهما يدقّ مسماراً في نعش محاولات الاحتلال القضاء على ما تبقّى من حياة في غزة الرائعة والحبيبة، وكلاهما يكتب الأمل في مستقبل مُشرق رغم أنف كل الأعداء، قريبهم وبعيدهم.

في غزة يستخدم الفلسطينيون الذرة والشعير بديلاً للقمح في صناعة الدقيق، وحوّلوا ما كان يوماً طعاماً للحيوانات والطيور إلى طعام للسكّان الذين عانوا الأمرّين نتيجة منع الاحتلال إدخال المساعدات، خصوصاً في الأشهر الثلاثة الأولى التي تلت انهيار اتفاق التهدئة.

في غزة يستخدم السكّان الحطب لمواجهة أزمة انقطاع الغاز الطاحنة، والتي حرمتهم طهو طعامهم الشحيح عبر الطاقة النظيفة، فلجأوا إلى الأخشاب التي يحصلون عليها من البيارات التي جرّفها الاحتلال، ومن أثاث البيوت التي هدمها ودمّرها بكل ما فيها.

في غزة يستخدم المواطنون العربات التي يجرّها الحيوانات، وما يُعرف محلّياً بـ "التكتك"، والتي كانت مخصّصة لنقل السلع والبضائع والخُضَر وغيرها بديلاً عن النقص الحاد في السيارات ومركبات النقل، بل إن ما تبقّى من مركبات صغيرة ومهترئة بات يقوم بجر عربات يجرّها في العادة الحيوانات لزيادة سعتها الإجمالية، وهو ما يسمح بأن تقل المركبة الواحدة حوالى عشرين راكباً بدلاً من أربعة أو خمسة ركّاب.  

في غزة حوّل الفلسطينيون قطع البلاستيك المنتشرة في الشوارع والطرقات إلى وقود للمركبات، إذ أن هذا الوقود غائب عن المدينة منذ بداية العدوان بقرار من الاحتلال، وقد أدّى قبل ابتكار هذا الأسلوب إلى توقف تام لحركة المواصلات، ما أثّر بشكل هائل على تحركات المواطنين ولا سيما من كبار السن والنساء والأطفال، والذين لا يستطيعون السير في الشوارع المدّمرة لمسافات بعيدة.

في غزة أُنشئت مصانع بدائية لإنتاج بدائل عن السكّر الممنوع من دخول المدينة، وعن أنواع كثيرة من البهارات، كما يتم إنتاج مشروب القهوة من العدس والحمص بديلاً عن البن الممنوع هو أيضاً من الدخول، إضافة إلى إنتاج أنواع عديدة من حلوى الأطفال والمكسّرات.

في غزة يُعمَل على إيجاد حلول وإن كانت بسيطة لكل المشكلات التي نتجت عن العدوان، وإيجاد بديل لكل ما منعه الاحتلال، وهي كلها أمور على بساطتها تسهم في التخفيف من وطأة الحرب على السكّان، وتسهم كذلك في تعزيز صمودهم، وتثبيتهم في أماكن سكناهم حتى وإن كانت مدمّرة.

صحيح أن الحياة في غزة تبدو أنها لا تُطاق، وتبدو المدينة أنها غير صالحة للسكن، وهو أمر لا يُنكره عاقل، ولا يشكّك في حدوثه إلا مجنون، غير أن إصرار الفلسطينيين على التمسّك بحقّهم، وثقتهم بأن المستقبل لهم ولأبنائهم، يجعلهم يواجهون كل تلك الصعوبات، ويدفعهم إلى ابتكار وسائل وأدوات لمعالجة السيل الهائل من الأزمات.

ختاماً نقول إن الحياة في غزة ستستمر حتى من دون بيوت أو مدارس أو مستشفيات، حتى من دون أسواق ومركبات وطاقة وكهرباء، لأن غزة أكبر من مجرّد مدينة، وأعظم من مجرّد مكان للسكن او الإقامة، فهي وطن، وأرض، وسكّان، هي روح، وقلب، وأنفاس.

نقول إن غزة بكل بساطة أكبر من كل المفردات، وأعظم من كل التفاصيل، فغزة بالنسبة إلينا نحن أهلها وسكّانها ومحبيها هي الحياة، من بعدها الموت الذي يهدّدنا به ترامب ونتنياهو  أهون، ومن دونها الرحيل أفضل، سندافع عنها بعظمنا ولحمنا، وسنحميها بأرواحنا وأجسادنا، ولن نغادر ترابها إلا شهداء.