كورونا في العراق.. أرقام وحقائق ما زالت مقلقة

يحتلّ العراق المرتبة الأولى عربياً من حيث عدد الإصابات والوفيات جراء فيروس كورونا، متقدماً على بلدان عربية يفوق تعدادها السكاني عدد سكانه البالغين حوالى 40 مليون نسمة، ومن الخطأ توقع انتهاء الوباء فيه في المدى المنظور.

  • يعزو الكثير من المراقبين بقاء العراق قريباً من دائرة الخطر، إلى ضعف الالتزام بالإجراءات الوقائية
    يعزو الكثير من المراقبين بقاء العراق قريباً من دائرة الخطر، إلى ضعف الالتزام بالإجراءات الوقائية

تشير آخر الإحصاءات الصادرة عن وزارة الصحة العراقية إلى أنَّ العدد الكلّي للمصابين بوباء كورونا على امتداد عام ونصف العام، بلغ حتى 20 آب/أغسطس الجاري مليوناً و809 آلاف و376 شخصاً، بينما بلغ عدد المتعافين مليوناً و632 ألفاً و646 شخصاً، أي أن نسبة المتعافين من مجموع المصابين تجاوزت 90%، في حين بلغ عدد الراقدين في وحدات العناية المركزة أكثر من 900 مصاب، بينما قاربت الوفيات حاجز الـ20 ألف حالة وفاة.

وتشير تقارير منظّمة الصّحة العالميّة (WHO) إلى أنَّ العراق يحتلّ المرتبة الأولى عربياً من حيث عدد الإصابات والوفيات، متقدماً على بلدان عربية - مثل مصر والجزائر والسودان - يفوق تعدادها السكاني عدد سكانه البالغين حوالى 40 مليون نسمة.

مثل هذه الأرقام، ومعها الخطّ البياني اليوميّ المتذبذب، صعوداً ونزولاً، منذ ظهور أوَّل إصابة بكورونا في مدينة النّجف الأشرف في 24 شباط/فبراير 2020 وإلى الآن، يؤشر بوضوح إلى أنَّ أزمة وباء كورونا في العراق ما زالت في عنق الزجاجة، أي أنَّ الوباء لم يجتاحه ويكتسحه بمقدار كبير جداً، بحيث يشلّ حركته. وفي الوقت ذاته، لم ينجح في احتوائه وتطويقه والتغلّب عليه بصورة كاملة أو شبه كاملة. وإذا كان من غير الواضح والمعلوم الأسباب والظروف الحقيقية الكامنة وراء بقاء العراق خارج الدائرة الحمراء، فإنه قد يبدو واضحاً إلى حد ما عدم نجاحه في الابتعاد عن دائرة الخطر، مثلما نجحت في ذلك بلدان قريبة منه.

يعزو الكثير من المراقبين بقاء العراق قريباً من دائرة الخطر، وإن كان خارجها، إلى ضعف الالتزام الشعبي العام بالإجراءات الوقائية ضد الوباء، من قبيل التقيد بضوابط التباعد الاجتماعي في الأماكن العامة، وارتداء الكمامات، واستخدام المعقّمات، ناهيك بفشل مجمل إجراءات الإغلاق الجزئي والكلي التي فرضتها اللجنة العليا للصحّة والسلامة الوطنية عدة مرات، وهذا ناشئ عن طبيعة المنظومة الثقافية الاجتماعية العامة، وكذلك الأوضاع الاقتصادية الضاغطة التي تجعل من الصّعب جداً على أعداد كبيرة من الناس، ولا سيَّما في المناطق الشعبية ذات المستوى الحياتي البسيط والدخل اليومي المحدود، أن تلزم منازلها ولا تخرج للعمل.

وحين اتجهت الأجهزة الحكومية المعنية إلى تشديد إجراءاتها لفرض الحظر، انعكس ذلك سلباً على الأوضاع الاقتصادية للعديد من الفئات والشرائح الاجتماعية، إلى الحد الذي تسبّب بعجز الكثيرين عن تأمين الحدّ الأدنى من احتياجاتهم الأساسية.

وفي ذلك، يقول أستاذ التنمية الاقتصادية في جامعة الكوفة حسن لطيف الزبيدي: "أدى انتشار الجائحة والإجراءات التي اتخذتها دول العالم إلى حدوث نتائج اقتصادية مهمة أثرت في النشاطات الاقتصادية، وكان الأثر في قطاع النفط هو الأكثر فداحة، إذ انخفضت أسعار النفط إلى أقل من ثلث ما كانت عليه قبل الأزمة، وأدى ذلك إلى انخفاض حاد في العائدات النفطية العراقية. وفي الحصيلة، خسر العراق نحو نصف عائداته بسبب تدهور أسعار النفط، وأصبحت الحكومة أمام اختبار صعب في قدرتها على تأمين متطلبات الإنفاق الاعتيادية، ولا سيَّما ما يتعلَّق منها بالرواتب والأجور لنحو 3 ملايين موظف حكومي، ومليون شخص يعمل بأجر في القطاع الحكومي، فضلاً عن صعوبات مماثلة في تأمين الاستحقاقات التقاعدية لنحو مليوني شخص آخرين، وهدَّدت البرامج الاجتماعية وقدرتها على الحفاظ على توفير الأمان لمئات الآلاف من الأسر التي يعمل أربابها في نشاطات القطاع غير الرسمي".

 وكما هو الحال مع الكثير من الدول، أخذت الآثار الاقتصادية السلبية على العراق تبرز شيئاً فشيئاً منذ الأيام الأولى للوباء، ارتباطاً بإغلاق المنافذ البرية والجوية أمام الحركة التجارية والسياحية مع دول الجوار، وكذلك تقلّص النشاط التجاري والاقتصادي الداخلي، جراء القيود التي تفرضها الجهات الحكومية كجزء من الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار الوباء وتفشيه، وما ترتّب على كلّ ذلك من ارتفاع أسعار المواد والسلع المختلفة، وخصوصاً الأساسية منها. وفي غياب الحلول والمعالجات العمليّة وخطط الطوارئ العاجلة من قبل الحكومة، من غير المنطقي توقّع أو افتراض نجاح سياسات التشدّد والتقييد.

وثمة عامل آخر لا يقلّ أهميّة عن العامل الأول، وهو هشاشة النظام الصحي العراقي بكلِّ جوانبه المتعلقة بالبنى والمنشآت الطبية، وتجهيزاتها وإمكانياتها التقنية، والكوادر المهنية المتخصصة، فضلاً عن الأدوية والعقاقير المطلوبة لتوفير العلاج لأعداد هائلة من المرضى في فترات زمنية قصيرة، وتحت وطأة ضغوط نفسية كبيرة. وربما لا يكون خافياً أن من بين الَّذين أصيبوا بفيروس كورونا، قضوا نحبهم بسبب بطء إجراءات إسعافهم وتوفير العلاج المطلوب لهم، ولا سيما أجهزة التنفس والأوكسجين.

ولعلَّ الحرائق التي حصلت في بعض المستشفيات التي كان يرقد فيها مئات المصابين بفيروس كورونا، كمستشفى ابن الخطيب في بغداد، ومستشفى الحسين التعليمي في محافظة ذي قار، سلطت الضوء على جانب من واقع النظام الصحّي المتهالك في العراق، رغم الجهود الكبيرة التي تبذلها الملاكات الطبية بمستوياتها وعناوينها المختلفة لإنقاذ المرضى.

ويعتقد البعض أنّ ما زاد من الصعوبات والمعوقات في مواجهة وباء كورونا في العراق هو التداعيات والآثار السلبية التي خلَّفها اجتياح تنظيم "داعش" الإرهابي لعدد من مدن ومناطق البلاد واندلاع الحرب ضده، والتي دامت أكثر من 3 أعوام ونصف العام، إذ إنَّ من بين أبرز تداعيات ذلك الحدث وآثاره هو نزوح وتشرد عشرات الآلاف من المواطنين الذين ما زال الكثير منهم يعيش ظروفاً صعبة للغاية في مخيمات النزوح، ناهيك بفقدان عشرات الآلاف لأعمالهم ووظائفهم وممتلكاتهم. ومن الطبيعي أن تزداد وتتفاقم معاناة هؤلاء جراء وباء كورونا بظلاله الثقيلة والقاتمة.

فضلاً عن ذلك، إنَّ الجهات الدولية، كمنظمة الصحة العالمية، والبعثة الأممية، والولايات المتحدة الأميركية، والقوى الدولية الكبرى، لم تقم بما يفترض أن تقوم به لمساعدة العراق في التقليل من تأثيرات الوباء الاقتصادية والصحية والنفسية على ملايين الناس، وهو ما تتحدَّث به أوساط معنية ومتخصّصة، وينسحب على دول أخرى تعيش ظروفاً مشابهة أو مقاربة لأوضاع العراق. وقد برز ذلك الأمر واضحاً من خلال المراوغة والتسويف في تزويد الدول الفقيرة باللقاحات المصنعة من قبل شركات عالمية تابعة بشكل أو بآخر لهذه الدولة الكبرى أو تلك.

وربما في بلدٍ مثل العراق، وفي ظلِّ الظروف الراهنة، من الصعب جداً على الحكومة أن تنجح في تأمين احتياجات الفئات والشرائح المتضررة من حظر التجول الوقائي وعموم تداعيات الوباء. وفي حال كانت لديها مبادرات بهذا الخصوص، فإنَّها لا بد من أن تكون بحاجة إلى إسناد ومساهمة من قبل الجهات غير الحكومية والأفراد.

ولا شكّ في أنَّ ثقافة البذل والعطاء تعد من أبرز سمات الشخصية العراقية في الإطار العام الشامل. ولعلَّ هذه السمة متأتية من الثقافة الحسينيَّة التي غالباً ما تبرز وتتجلى في مختلف المناسبات الدينية، ولا سيما في زيارة أربعينية الإمام الحسين (ع)، لتتحوَّل إلى سلوك وممارسة اجتماعية واسعة في الظروف الحرجة والتحديات الخطيرة، وهو ما تجلى بوضوح حين اجتاح تنظيم "داعش" الإرهابيّ عدة مدن عراقيّة في صيف العام 2014.

ولعلَّه ما إن بدأ تطبيق حظر التجول الوقائي في الأسابيع الأولى من تفشي الوباء، ولاحت آثاره وانعكاساته السلبية على عدد كبير من المواطنين، حتى راحت صور البذل والعطاء تتراءى تباعاً بوتيرة متسارعة جداً، وخصوصاً بعد صدور فتوى من المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي السيستاني بشأن مساعدة العوائل المتضررة من الحظر، والتي قال فيها "إنَّ توفير الحاجات الأساسية للعوائل المتضررة من الأوضاع الراهنة هو بالدرجة الأساس من مسؤولية الجهات الحكومية المعنيّة، ولكن في ظلِّ عدم الاهتمام الكافي منها بذلك، لا مناص من التوجّه إلى سائر الأطراف القادرة على المساهمة في هذا الأمر المهم الذي هو من أفضل الخيرات والقربات، والعمل بما يفي بالمقصود يتطلّب تعاوناً وثيقاً من عدة أطراف"، حدَّدها المرجع السيستاني في فتواه بـ"أهل الخير من المتمكنين مالياً، بأن يساهموا بما يتيسّر لهم في هذا المجال، والتجار ممن تتوفر لديهم المواد الغذائية ونحوها، بأن يعرضوها للبيع ولا يرفعوا أسعارها، بل ينبغي أن تكون مدعومة، ومجاميع من الشباب الغيارى الذين يتطوعون للتعرّف إلى العوائل المتعفّفة وإيصال المواد المخصّصة لها، بعد التنسيق في حركتهم مع الجهات الرسمية، في ظلّ منع التجول الساري في معظم المناطق، وأصحاب المواكب الحسينية الذين كان لهم دورٌ مشرف في رفد المقاتلين الأبطال بكل ما يحتاجونه في أيام الحرب مع داعش".

عودٌ على بدء، إنَّ إحصاءات وزارة الصحة العراقية المشار إليها في أول السطور تكشف عن نقطة إيجابية مهمة، تتمثل بنسبة الشفاء العالية البالغة أكثر من 90% من بين مجموع الإصابات الكلية، والتي تعكس حقيقة مفادها أن مستويات السيطرة على الوباء واحتوائه لا بأس بها في جانب معين، فضلاً عن تنامي الإدراك المجتمعي لدى أعداد لا يُستهان بها من المواطنين بخطورة الوباء، ولا سيما أنَّ الذين فقدوا حياتهم بعد تعرّضهم للإصابة لم يكن عددهم قليلاً. 

والنقطة الأخرى تتعلَّق بارتفاع وتيرة أعداد الملقحين، بدرجة مشجعة إلى حد كبير، ففي حين بدا التفاعل مع موضوع تلقّي اللقاح محبطاً جداً في بادئ الأمر، إلا أنه، ونتيجة لحملات التوعية الإعلامية، وتوفر اللقاح بكميات كبيرة في مختلف المراكز الصحية، وإلزام بعض المؤسسات الحكومية والأهلية منتسبيها بالتلقيح، ازداد الإقبال عليه، حتى إنَّ نسبة الملقحين ارتفعت خلال شهر واحد من 1% إلى 11%.

واستناداً إلى الموقف الوبائي اليومي لوزارة الصحة، تجاوز عدد الذين تلقوا اللقاح مليونين و860 ألف شخص، بمعدّل 37 ألف شخص في عموم البلاد يومياً. وفي كلِّ الأحوال، من الخطأ توقع انتهاء الوباء في العراق في المدى المنظور، وإن كان كل شيء على ما يرام، ما دام قائماً ومستمراً في التفشي والانتشار بسلالات متنوعة في مختلف أنحاء العالم، لكن سلامة الإجراءات المتخذة، والوعي الاجتماعي، والإقبال على تلقي اللقاح، وتطوير الواقع الصحي بالقدر الممكن والمتاح - كل ذلك مرتبط بتوفر الإمكانيات المالية الجيدة للدولة والفرد - من شأنه أن يحول دون خروج الأمور عن السيطرة في بلد يترنَّح منذ عقود من الزمن تحت ثقل ووطأة الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية المتتابعة بلا انقطاع.

يشهد يوم العاشر من شهر تشرين الأول/أكتوبر المقبل انتخابات برلمانية في العراق، تكتسب أهمية كبيرة وينتظر منها أن تؤسس لمرحلة جديدة في التحالفات السياسية. تفرد الميادين مساحة واسعة لهذه الانتخابات تحت عنوان "يا عراق الخير".