لبنان أمام التهويل والحرب: مسار جديد لمواجهة التحدّيات

أمام ثلاثيّة التهويل والتصعيد والحرب، يبقى الصمود والصبر وعدم الانزلاق إلى التنازلات المجانية أقلّ كلفة بكثير من التسليم والتراجع، مهما كانت النتائج.

0:00
  • أمام ثلاثيّة التهويل والتصعيد والحرب، يبقى الصمود أقلّ كلفة بكثير من التسليم والتراجع.
    أمام ثلاثيّة التهويل والتصعيد والحرب، يبقى الصمود أقلّ كلفة بكثير من التسليم والتراجع.

لا شكّ أنّ لبنان يمرّ بمرحلة شديدة الخطورة، ويواجه تحدّيات كبيرة نتيجة التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة، المقترنة باستمرار العمليات العدائية التي شهدت في الآونة الأخيرة مستوى متزايداً من العنف.

ويبدو أنّ أحداً، باستثناء من وصفهم نائب الأمين العامّ لحزب الله الشيخ نعيم قاسم في خطابه الأخير بـ "المتلوّثين"، لا يستخفّ بخطورة الوضع. إلّا أنّ البعض يريد أن يصوّر الأمور على أنها وصلت إلى مرحلة لم يعد يملك فيها لبنان الخيارات، وأنه بات أمام الحائط المسدود الذي يُفضي إلى انحناء يبلغ حدّ الاستسلام.

فهل في هذا الطرح منطق أم أنّ اللبنانيين يملكون الخيارات المختلفة التي تتيح لهم الحفاظ على السيادة والكرامة الوطنية، وتحقيق الحدّ الأدنى من المصالح الوطنية؟

لحسم هذه الإشكالية، لا بدّ من الإشارة إلى الأهداف الإسرائيلية والأميركية التي لم تعد خافية على أحد؛ فتصريحات الموفد الأميركي توم برّاك، وما يُقال في السرّ والعلن داخل دوائر القرار في واشنطن و"تل أبيب"، واضحة ولا تحتاج إلى أيّ تأويل.

المطلوب من لبنان، بحسب ما يتضح من تلك المواقف، هو التوقيع على اتفاق تسوية بمضمون استسلاميّ، يُسقط أيّ معنى للسيادة اللبنانية، ويحوّل الدولة إلى ما يشبه "معتمد أمن" لدى "إسرائيل"، على غرار نموذج التنسيق الأمني في الضفة الغربية، حيث تتولّى الأجهزة هناك ملاحقة المقاومين وجمع المعلومات عنهم والتجسّس عليهم.

هذه هي حقيقة ما يريده الأميركيون والإسرائيليون من السلطة اللبنانية، فيما لا يُعدّ التفاوض سوى الممرّ الذي يُراد العبور منه لتحقيق هذا الهدف. أما المصالح الوطنية اللبنانية، المبنية على استرجاع الأرض، وتحقيق الاستقرار، وضمان وقف العدوان، واستعادة الأسرى، فليست مدرجة على جدول الأعمال الأميركي ـــــ الإسرائيلي. والدليل على ذلك ما يجري في سوريا: ففي الوقت الذي تُجري فيه السلطة الجديدة في دمشق محادثات مباشرة مع "تل أبيب" برعاية أميركية، لا تتورّع الأخيرة عن توسيع احتلالها واعتداءاتها على الأراضي السورية بمختلف الوسائل والأساليب. وهذا يشير إلى أنّ المطلوب إقليمياً، من المنظور الإسرائيلي ـــــ الأميركي، يتركّز على مسألتين: ضمان أمن "إسرائيل"، وتكريس تفوّقها في المنطقة.

أمّا حقوق شعوب المنطقة ودولها، فهي مسائل هامشية لا تحتل موقعاً ضمن اهتمامات الإدارة الأميركية أو أولويات النظام الصهيوني.

على هذه القاعدة، يقف لبنان اليوم أمام لحظة مصيرية شديدة الحساسية، يمكن وصفها ـــــ بكلّ جدّية ومسؤولية ـــــ بأنها لحظة وجوديّة. فكلما اقتربت السلطة من السقوط في "أفخاخ التفاوض"، كما جاء في الكتاب المفتوح الذي وجّهه حزب الله إلى الرؤساء الثلاثة والشعب اللبناني، بات الكيان اللبناني نفسه مهدَّداً.

إذ إنّ بقاء لبنان بصيغته التأسيسية كـوطن موحّد، تعدّدي، متنوّع، يُشكّل نموذجاً ورسالة في إمكانية تلاقي الأديان والثقافات المختلفة، سيكون فعلياً في دائرة الخطر.

وقد أشار الكتاب المفتوح إلى أنّ العدوان الإسرائيلي لا يستهدف المقاومة وحدها، بل يستهدف الدولة والوطن والصيغة اللبنانية بكاملها. أما سرديّة العدو حول "ترميم قدرات المقاومة"، فهي لا تعدو كونها ذريعة ـــــ بصرف النظر عن مدى صحتها ـــــ فالذرائع الإسرائيلية لا تنتهي: اليوم هي "ترميم القدرة"، وغداً "تشكيل تهديد"، وبعد غد "تقديم عون لجهة مقاومة".

لقد جاءت رسالة حزب الله المفتوحة بمثابة تنبيه واضح وصريح للأمّة اللبنانية جمعاء: دولة، وسلطة، ومسؤولين، وقوى سياسية، وشعباً. وأكّدت أنّ الجميع اليوم يقفون أمام استحقاق مصيريّ يتعلّق بوجود لبنان وبقائه واستمراره وطناً نهائياً لجميع أبنائه، ما يستدعي معالجة وطنية شاملة ومسؤولة.

وبالطبع، لا أحد في لبنان بما في ذلك المقاومة يرغب في خوض حرب أو استجلابها. وكلّ الحُجج التي تُهاجم المقاومة وتزعم أنها "ذريعة للحرب" تتعامى عن حقيقة ما جرى خلال عام ما بعد الحرب الأخيرة، إذ التزمت المقاومة بأقصى درجات تطبيق الاتفاق الموقّع لإنهاء الحرب. وقد أكّد هذا الالتزام رئيس مجلس النواب نبيه بري في أكثر من مناسبة، كما ظهر في بيانات الجيش اللبناني.

ورغم ذلك كلّه، لم تُقدِم "إسرائيل" على أيّ خطوة ولو شكليّة ولم تقدّم أيّ ضمانات بشأن التزامها حتى في حال تنفيذ لبنان بنود الورقة الأميركية.

إنّ جميع المؤشرات والدلائل تؤكّد فكرة واحدة: أنّ "إسرائيل"، المنتشية بما فعلته في غزة من قتل وإبادة جماعية، والمسنودة بقوة نيران هائلة ودعم أميركي غير محدود، تسعى اليوم إلى فرض إرادتها وسطوتها على المنطقة بأسرها. ولبنان جزء من هذا الاستهداف الشامل، الذي عبّر عنه نتنياهو عندما تحدّث عن "تغيير الشرق الأوسط" وقيام "إسرائيل الكبرى".

فهل يعني هذا أنّ اللبنانيين لا يملكون خياراً؟

في الواقع، إنّ التسليم بانعدام الخيارات لا يجلب إلّا مزيداً من الضغوط، بل المزيد من التهديد والعدوانية الإسرائيلية. وهذا ما أشار إليه كتاب حزب الله المفتوح عند حديثه عن "خطيئة" الحكومة في قراري 5 و7 آب، وهي قرارات لم تمنح لبنان أيّ مكسب، بل زجّت به في زاوية الالتزام بمطالب العدو من دون أن يحصل على أيّ مقابل ولا حتى ضمانات، الأمر الذي أعلنه المبعوث الأميركي توم برّاك بوضوح.

فما هو الخيار إذاً أمام هذا الواقع؟

لا بدّ من صياغة مسار جديد يقوم على أربع ركائز أساسية:

-تعزيز الوحدة الوطنية عبر موقف جامع يرتكز على حقوق لبنان ومصالحه وصون سيادته.

-تعزيز العلاقات الإقليمية بما يتيح تواصلاً فعّالاً مع الدول المستعدّة لدعم لبنان والوقوف إلى جانبه، وعلى رأسها الجمهورية الإسلامية في إيران.

-الاستفادة القصوى من عناصر القوة وفي مقدّمتها المقاومة، والبناء على المقترح الذي قدّمه قائد الجيش بشأن تجميد مسألة السلاح جنوب النهر إلى حين وقف الاعتداءات الإسرائيلية. ويمكن للحكومة في هذا الإطار إعلان أنّ لبنان، المعتدى عليه، يمارس حقّه الذي يكفله القانون الدولي في الدفاع عن النفس ومقاومة الاحتلال.

-اعتماد دبلوماسية القوة القائمة على التمسّك بتطبيق القرارات الدولية، ولا سيما القرار 1701 الذي يلزم العدو بجملة تعهّدات. ويجب اعتبار عدم التزام "إسرائيل" بالقرار انتهاكاً يستوجب تحرّكاً دبلوماسياً صارماً وإثارته على المستويين الدولي والإقليمي.

إنّ البوابة الاستراتيجية لهذا المسار تكمن في العودة إلى روح ومضمون خطاب القسم لرئيس الجمهورية، وخصوصاً "البند المفتاح" المتعلّق باستراتيجية الأمن الوطني، بحيث تخضع مسألة السلاح للإرادة الوطنية حصراً لا لأيّ إرادة أخرى.

وأمام ثلاثيّة التهويل والتصعيد والحرب، يبقى الصمود والصبر وعدم الانزلاق إلى التنازلات المجانية أقلّ كلفة بكثير من التسليم والتراجع، مهما كانت النتائج. مع التشديد على أن يفهم العدو أنّ الإرادة اللبنانية تقوم على قاعدة: لا نسعى إلى الحرب… لكننا أيضاً لا نخشى العدوان.