لبنان بين الخضوع والاقتتال والبحث في مقاربة تؤسس نموذجاً ثالثاً

يُلاحَظ في هذه المرحلة توافق رأسَي السلطة التنفيذية في لبنان على التنكر لخيار المقاومة، أو التخلي عنه، كوسيلة لحفظ السيادة ومواجهة الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية في مقابل التمسك بخيار الاعتماد على الشرعية الدولية.

0:00
  • الموقف السلبي تجاه المقاومة لم يكن دائماً مرتبطاً بحزب الله.
    الموقف السلبي تجاه المقاومة لم يكن دائماً مرتبطاً بحزب الله.

كما بات واضحاً، لم يعد من الممكن الفصل بين الاتفاق، الذي أدى إلى وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الإسرائيلي، عن المسار السياسي الذي أنتج عملية انتخاب رئيس الجمهورية، وبعده تشكيل حكومة لبنانية في وقت قياسي، إذا تمت مقارنته بمخاضات التشكيل التي حكمت واقع إعادة إنتاج السلطة التنفيذية في لبنان بعد عام 2005.

وحتى لا يُسجَّل علينا أننا وقعنا في فخ نظرية المؤامرة، التي تُظهر تفسيراتها الحالية إمكان تواطؤ بعض أركان السلطة في لبنان مع الراعي الأميركي لاتفاق وقف إطلاق النار لناحية إمكان تضمُّن الاتفاق بنوداً غير معلنة، أو غير منصوص عليها، ترتبط بتنفيذ أجندات أميركية وإسرائيلية تتعلق بحزب الله وسلاح المقاومة وإعادة الإعمار، يصبح من الضروري محاولة تقدير التهديدات التي تحيط بالواقع اللبناني ومدى جاهزية السلطة والدولة في لبنان لمواجهتها، وبالتالي ضرورة تقديم السلطة اللبنانية المُنتَجة حديثاً المقاربات التي يمكن أن تساعد على انتقال لبنان إلى مساحة الأمان، التي من الممكن أن تكفل عدم حدوث انفجار داخلي يجعلنا في خانة الدول المصنفة فاشلةً. 

من حيث المبدأ، يظهر التسويق لإعادة إنتاج السلطة في لبنان على أنه سيشكل مدخلاً لانتقال الدولة من حالة الفشل والفوضى إلى حالة التأسيس الممنهج، والقادر على إعادة رسم أطر العلاقة بين السلطة والمجتمع من ناحية، وبين الدولة والخارج من ناحية أخرى، على أسس طبيعية سليمة ستتوافر استثنائياً لدى لبنان الدولة الفاقدة أياً من مرتكزات النشأة الطبيعية، التي أدت إلى ظهور الدولة الحديثة في الغرب. فالتصريحات، التي يواظب عليها المعنيون في الدولة اليوم، والتي توحي بانقلاب على مسار سياسي فاشل حكم الدولة اللبنانية منذ ما بعد الطائف، توحي بتوفر الأدوات اللازمة لإعادة بناء الدولة وإصلاح العلاقة بين السلطة والمجتمع، بالتوازي مع تبني سياسة الإنكار المتعمَّد لمعوّقات بناء الدولة تاريخياً، إن على المستوى الداخلي فيما يتعلق بطبيعة النظام الطائفي والمحاصصة، أو على مستوى التفاعل مع الخارج، أي ما يتعلق بما يفترضه الكيان الإسرائيلي والغرب دوراً لازماً يجب على لبنان التزامه.

يُلاحَظ في هذه المرحلة توافق رأسَي السلطة التنفيذية في لبنان على التنكر لخيار المقاومة، أو التخلي عنه، كوسيلة لحفظ السيادة ومواجهة الأطماع والاعتداءات الإسرائيلية في مقابل التمسك بخيار الاعتماد على الشرعية الدولية، واستجداء الضغط الدولي على الكيان من أجل إلزامه بعدم الاعتداء على لبنان والانسحاب من أراضيه، على نحو يشكل انقلاباً على المسار الاستراتيجي، الذي نجح في مراحل سابقة في تحرير الأرض وإرساء معادلات كانت كفيلة، لفترة طويلة، بلجم الكيان الإسرائيلي، ومنعه من تحقيق مشروعه التاريخي في لبنان. في هذا الإطار، تجب الإشارة إلى أن النتائج السلبية، التي أدى إليها العدوان الأخير على لبنان، لم تكن نتيجة فشل استراتيجية المقاومة في المواجهة، بحيث إن الكيان الإسرائيلي لم ينجح في تحقيق الأهداف الاستراتيجية التي أعلنها، وإنما نتيجة تقاطع المشاريع الغربية مع الإسرائيلية مع بعض أهداف قوى الإقليم لناحية إرساء واقع إقليمي يتخطى في حدوده ما يتم تسويقه اليوم لبنانياً.

فالموقف السلبي تجاه المقاومة لم يكن دائماً مرتبطاً بحزب الله، أو محور المقاومة، أو بنشاط حزب الله الإقليمي، وإنما كان مرتبطاً بمحاولة ضمان تفوّق الكيان الإسرائيلي وخضوع لبنان لمقتضياته الأمنية والسياسية. فالمشروع، الذي كان دافعاً إلى توقيع اتفاق الـ17 من أيار عام 1983، لم يكن موجَّها ضد حزب الله أو الجمهورية الإسلامية، ولم يكن يستهدف تحقيق سيادة لبنان من خلال حصر السلاح في السلطة الشرعية اللبنانية، وإنما كان يستهدف إعادة صياغة مرتكزات السلطة الشرعية في لبنان، وفق معايير إسرائيلية. وبالتالي، تفترض هذه التجربة تنبه الدولة اللبنانية للأهداف الحقيقية، التي يمكن أن تؤدي إليها استراتيجية السلطة الحالية. فالمسار، الذي تدفع إليه الولايات المتحدة سياسياً، بالتوازي مع المخطط الإسرائيلي الذي يستبيح السيادة اللبنانية، بشكل يومي ومتكرر، يستهدف تحضير الأرضية اللبنانية للانفجار في حال فشل إرساء واقع شبيه بالواقع الذي أدى إلى توقيع اتفاق الـ17 من أيار.

فمن خلال التدقيق في المهمة المطلوبة من القوى العسكرية والأمنية اللبنانية، لناحية العمل على نزع سلاح المقاومة بكل الوسائل الممكنة، والعمل على تلفه بما يضمن عدم إمكان استفادة الجيش اللبناني منه، يصبح السؤال عن مستقبل لبنان الدولة والكيان مشروعاً. فالعمل على نزع سلاح المقاومة، القادر على لجم الكيان، ثم تكريس نموذج الجيش الضعيف الممنوع من محاولة العمل على بناء قوة حقيقية تمكّنه من القيام بدوره، بالتوازي مع رفض أي محاولة لوضع استراتيجية دفاعية تجعل من الممكن الاستفادة مما قد تملكه المقاومة من أدوات قوة فاعلة، أمرٌ سيضع الدولة أمام تحديات ترتبط بإمكان بقائها من عدمه. 

فإذا كان من الممكن أن تتخطى الدولة، في المدى المنظور، إمكان حدوث انفجار داخلي شبيه بتجربة الحرب الأهلية، نتيجة أسباب تتعلق بتمسك الطرف المستهدَف، أي المقاومة وبيئتها، بالسلم الأهلي وعدم الانجرار إلى صراع داخلي يخدم الكيان الإسرائيلي ومشروعه فقط، فإن الأسئلة ستُطرح بشأن مدى منعة الكيان اللبناني في مواجهة ما يُخطَّط له إسرائيلياً. فمن خلال مراقبة النماذج التي يُرسيها الكيان في الدول المحيطة به، مصر والأردن وسوريا، سيَظهر واضحاً أنها تتأرجح بين نموذجين لا ثالث لهما. تمثل مصر والأردن النموذج الأول، والذي يمكن تعريفه بخضوع القرار السياسي لمتطلبات الأمن القومي الإسرائيلي، من خلال إرساء النظام فيهما على أسس استبدادية بالتوازي مع ارتهانهما لنظام المساعدات والحماية الخارجية الكفيلة، في حال توقفها، بإسقاط الحكم. أما النموذج الثاني، فتمثله سوريا لناحية أن عدم الاستقرار والتقسيم وإمكان اندلاع حرب أهلية، في أي لحظة، ستشكل بديلاً ملائماً للتوجهات الإسرائيلية نتيجة الطبيعة الديمغرافية المتنوعة، وفقدان أي حكم للقدرة على ضبط النظام وتوجيهه على نحو يخدم مشروع الكيان.

يتأرجح الواقع اللبناني الحالي بين هذين النموذجين. فإذا كان التوجه السياسي اللبناني، ممثلاً برأسي السلطة التنفيذية، يستهدف المحافَظة على الدولة وادّعاء العمل على بسط سيادتها والتزامها حصر السلاح في يدها فقط، واعتماده على الشرعية الدولية في حفظ سيادته، على نحو يمكن أن يفسَّر على أنه يتماهى مع النموذج الأول بمباركة أميركية، فإن أي التزام بشأن مسار سياسي كهذا سيتعارض في مضمونه مع المتطلبات الإسرائيلية، بحيث إنه لن يعود كافياً. فاليقين بعدم قدرة هذه السلطة على تحقيق الاستقرار من خلال ممارسة استبداد قادر على ضبط المجتمع وتطويعه ومعاقبة من يخرج عن طوعها، كما في مصر والأردن، سيدفع الإسرائيلي إلى تفضيل إرساء النموذج الثاني، أي نموذج الاقتتال والتقسيم الذي يطبق اليوم في سوريا. 

وعليه، فإن محاولة التفلت من السقوط في خطر هذين النموذجين سيفرض ضرورة العمل على بناء نموذج ثالث، يُعرَف لبنان من خلاله على أنه دولة قوية تنطلق في حفظها لسيادتها وفي علاقاتها الخارجية من قوتها أولاً، ومن الشرعية الدولية ثانياً، وتستهدف الوصول إلى شكل من أشكال الحكم الديمقراطي القادر على ضمان أمن مجتمعي، يمنع أي محاولة تستهدف إشعال حرب أهلية داخلية.