لماذا لا يزال داعش موجوداً؟

ما يزال تنظيم "داعش" منتشراً في ملاذات آمنة توفر له الاختباء والتخفي عن أنظار القوات الحكومية العراقية في محافظتَي الأنبار ونينوى وأقسام من كركوك وديالى وصلاح الدين في العراق، بالإضافة إلى مراكز في البادية السورية وبعض المحافظات.

  • على الرغم من هزيمة داعش العسكرية تجددت هجمات التنظيم في العراق وسوريا
    على الرغم من هزيمة داعش العسكرية تجددت هجمات التنظيم في العراق وسوريا

في 15 تموز/ يوليو 2022، تلقى مجلس الأمن الدولي تقرير اللجنة الخاصة بمتابعة تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، وجاء في الفقرة 2 ب 41 من التقرير الآتي:

"ما يزال داعش في العراق والشام يشكل تهديداً قوياً ومستمراً بسبب هيكله اللامركزي، وقدرته على تنظيم هجمات معقدة. يقدّر العدد الإجمالي لمقاتلي داعش بما يتراوح بين 6 آلاف و10 آلاف في البلدين، ويتركز معظمهم في المناطق الريفية، ويعتقد بأنهم في الغالب سوريون وعراقيون."

نستنتج من هذا التقرير أن "داعش" ما يزال موجوداً بشكل حيوي وعملياتي، وأنه يحتفظ بقدرات قتالية، والأخطر أنه يعتمد أجندة سياسية، إذ أصبح لاعباً مخفياً في سوريا والعراق.

تكررت هجمات "داعش" في سوريا والعراق، وأشار بعض البيانات العراقية والسورية إلى أن قوات البلدين "صدّت هجوماً لداعش على موقع عسكري أو أهداف مدنية وانسحب المهاجمون"، ما يؤكد أن ثمة قواعد لـ"داعش" ينطلق منها لتنفيذ هجمات ثم ينسحب إليها وربما إلى قواعد أخرى.

من هذه الهجمات ما أعلن عنه مؤخراً في 18 كانون الأول/ ديسمبر 2022 الهجوم الذي أسفر عن مقتل تسعة من أفراد الشرطة العراقية، وجاء ذلك في بيان لـ"داعش" على تطبيق تلغرام. كما أصدرت القوات العراقية بياناً يفيد أن "عناصر من داعش تعرضوا لناقلة تابعة للفوج الأول في اللواء الثاني ضمن الفرقة الآلية التابعة للشرطة الاتحادية بعبوة ناسفة".

وترافق مع الهجوم "اعتداء مباشر بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة" في قرية شلال المطر التي تبعد 65 كلم من مركز محافظة كركوك.

أدى تكرار الهجمات إلى تسليط الضوء على انتشار تنظيم "داعش" في العراق بعد خمس سنوات من الإعلان عن هزيمة هذا التنظيم في 10 كانون الأول/ديسمبر 2017 في العراق.

 وفي سوريا أيضاً تكررت هجمات التنظيم في البادية السورية بعد ما يزيد على خمس سنوات من السيطرة على آخر معقل لـ"داعش" في الباغوز في آذار / مارس 2019 وليس آخرها الهجوم في 26 كانون الأول / ديسمبر 2022 على سجن الرقة ومحاولة اقتحامه ومقتل ثمانية عناصر، سبقه كمين في السخنة في تشرين الأول / أكتوبر 2022 استهدف عناصر من القوات الرديفة، وهجمات وكمائن استهدفت الجيش السوري والقوات الروسية، وأبرزها لباصات تضم عسكريين في الجيش السوري في أثناء عودتهم إلى منازلهم (باصات المبيت).

ما هي العوامل التي أدت إلى تجدد هجمات التنظيم بالرغم من هزيمته العسكرية؟

أولاً: توافر بقع تمركز آمنة:

ما يزال "داعش" منتشراً في ملاذات آمنة توفر له الاختباء والتخفي عن أنظار القوات الحكومية العراقية والحشد الشعبي في محافظتَي الأنبار ونينوى وأقسام من كركوك وديالى وصلاح الدين في العراق، بالإضافة إلى مراكز داخل سوريا في البادية السورية وأقسام من محافظات دير الزور والرقة والحسكة والسويداء تؤمن التخفي عن أنظار القوات السورية وحلفائها القوات الروسية والإيرانية، وكذلك "قسد" وقوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة.

يحتاج "داعش" إلى بقع تمركز أو مخابئ تؤمن سهولة الدخول إليها والخروج منها، وأن يكون السكان المجاورون موالين له، أو تحت سيطرته أو من البيئة الحاضنة. يساعد التمركز في داخل القرى على توزع العناصر بطريقة تمكن من تجميع قوة قادرة على شن هجمات.

في جنوب سوريا وعلى الحدود مع الأردن، أنشأت القوات الأميركية منطقة عدم تنازع Deconfliction Zone مركزها بلدة التنف، وتشمل منطقة شعاعها خمسين كلم، ومنعت الجيش السوري أو القوات الرديفة له من الاقتراب من هذه المنطقة التي تثار شكوك حول الموجودين فيها، خصوصاً بعدما انطلقت قوى من "داعش" منها إلى داخل البادية السورية مرات عديدة ونفذت هجمات ضد القوات السورية وحلفائها. في الشمال والشرق حيث تتمركز القوات الأميركية، وخصوصاً في الرميلان وحقول النفط في التنك والعمر يرجح وجود مخابئ لـ"داعش" داخلها.

ثانياً: الدعم اللوجستي:

لا يمكن انتشار قوة من 6 إلى 10 آلاف عنصر من دون دعم لوجستي، فأماكن التمركز ليست حاضرات ولا مراكز تجارية بل معظمها منازل داخل قرى أو كهوف طبيعية.

من هنا، تحتاج هذه العناصر إلى تموين مستمر ومنظم من المواد الغذائية والمياه والأدوية والمعالجة الطبية والألبسة، فضلاً عن السيارات والوقود والأسلحة والذخائر. وتفرض الجغرافيا نفسها إذ لا يمكن توفير هذه الاحتياجات إلا من تركيا أو من شمال العراق في منطقة الحكم الذاتي الكردي، ولا يمكن تمرير هذه المواد وتهريبها بعيداً عن أنظار السلطات التركية أو الكردية. ولا يمكن إنشاء خط تهريب ما يزال يعمل منذ خمس سنوات من دون علم أو موافقة هذه السلطات، ما يشير إلى تواطؤ واضح.

ثالثاً: القيادة والسيطرة

يستدعي انتشار هذا العدد من المقاتلين وضعهم ضمن بنية تنظيمية تسهل عملية القيادة. قد ينضوي هؤلاء ضمن تشكيلات تراتبية عسكرية، أي فصائل وسرايا وكتائب، أو تشكيلات برعائل (أنساق) صغرى تتناسب مع انتشار العناصر في أماكن التمركز. من الضروري تعيين قادة مسؤولين على مختلف المستويات، ولكل مجموعة أمير، حسب ما يتسرب من بياناتهم وأدبياتهم. لا شك في أن هذه البنية التنظيمية متينة؛ لأنها حافظت على جهوزية عملياتية لمدة خمس سنوات بعد هزيمته، ولا مؤشرات تدل على إنهاء هذا الوجود في المستقبل القريب.

بالإضافة إلى البنية التنظيمية، لا بد من وجود غرفة عمليات رئيسية وغرف فرعية من أجل تسهيل التخطيط للهجمات وتنفيذها. كما تتلقى غرفة العمليات المعلومات من مصادر متعددة وتحللها وتحضر للهجمات بعد اتخاذ القيادة القرار. الهجمات التي حصلت، جميعها، تشير إلى أن هناك قيادة وسيطرة وإصدار أوامر ومتابعة.

يعدّ عامل الاتصالات مهماً جداً وحيوياً في القيادة والسيطرة. وهذا يحتم وجود وسائل اتصال لـ"داعش" منيعة من أي اعتراض إلكتروني. في أثناء وجود "داعش" في الرقة في سوريا، كانت قيادته تأمر عناصر منتشرين في سوريا والعراق على مساحة تقدر بـ 400 ألف كلم مربع. وكانت الهجمات تشير إلى أن القيادة والسيطرة تستندان إلى نظام اتصالات متطور. لا شك في أن الجيش السوري والقوات الإيرانية وربما الروسية حاولت اعتراض اتصالات "داعش" ولم تفلح بذلك، إذ ما يزال هذا التنظيم يتمتع باتصالات متطورة لا تتوافر إلا في دول كبرى. لو كانت الاتصالات عادية وتمكنت الجيوش من اعتراضها لانتهى "داعش" منذ زمن طويل ولتعذرعليه القيام بالهجمات التي يقوم بها حتى اليوم.

رابعاً: اضطراب إقليمي ودولي

في العراق، تصدى الجيش العراقي والشرطة الاتحادية وقوات مكافحة الإرهاب والحشد الشعبي لـ"داعش" في حرب استمرت نحو ثلاث سنوات، واستنزفت القدرات العراقية وتسببت بخسائر بشرية ودمار في مدن كبرى. في سوريا أيضاً، الجيش السوري والقوات الرديفة من دفاع وطني سوري وحزب الله وقوات إيرانية، بالإضافة إلى القوات الروسية تصدوا جميعاً لـ"داعش"، وتمكنوا من القضاء على آخر معقل لها في الباغوز. ومع ذلك، ما يزال "داعش" موجوداً وفاعلاً. في المقابل، أنشأت الولايات المتحدة في أيلول/سبتمبر 2014 التحالف الدولي ضد "داعش"، وشاركت فيه 14 دولة، وما يزال هذا التحالف قائماً.

ومع ذلك، تقول الأمم المتحدة إنه ما يزال هناك من 6 إلى 10 آلاف عنصر من "داعش" منتشرين في سوريا والعراق. لماذا عجزت جميع هذه القوى عن إنهاء هذا التنظيم؟ الجواب هو أن قسماً من هذه القوى يختلف موقفها الحقيقي عن موقفها المعلن، ونرى ذلك من التمركز وخط الإمداد اللوجستي من دون استبعاد التواطؤ والابتزاز.