لماذا لوّحت واشنطن بعقوبات جديدة على السودان؟
بنت الولايات المتحدة الأميركية قرار التلويح بفرض عقوبات اقتصادية جديدة ضد السودان، بزعم استخدام أسلحة كيميائية؛ قبل عام، فلماذا صمتت عاماً كاملاً على ذلك؟ وفي أي منطقة استُخدمت تلك الأسلحة الكيميائية؟
-
تلويح واشنطن بالعقوبات على السودان لن يكون مؤثراً.
لوّحت الولايات المتحدة الأميركية يوم الخميس 22 أيار/ مايو 2025؛ بفرض عقوبات اقتصادية جديدة على السودان، وادّعت المتحدثة باسم الخارجية الأميركية تامي بروس، أن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية العام الماضي خلال صراعه مع قوات "الدعم السريع". وأوضحت بروس أن العقوبات ستدخل حيّز التنفيذ في السادس من حزيران/ يونيو المقبل، بعد إخطار الكونغرس، وستتضمن قيوداً على الصادرات الأميركية وخطوط الائتمان الحكومية الأميركية.
وتبيّن أن التلويح بالعقوبات الأميركية الجديدة على السودان جاء على خلفية ما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" في كانون الثاني/ يناير الماضي، عن أربعة مسؤولين أميركيين بارزين –لم تسمهم ولم تذكر وظائفهم-قولهم إن الجيش السوداني استخدم أسلحة كيميائية في مناسبتين على الأقل ضد قوات "الدعم السريع".
وادّعت الصحيفة أن المسؤولين الأميركيين قلقون من احتمال استخدام تلك الأسلحة قريباً في مناطق مزدحمة بالسكان في العاصمة الخرطوم، والسؤال: منذ متى كانت الولايات المتحدة تُبالي بارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة وهي صاحبة السجل الأكبر والأبرز في تاريخ ارتكاب الجرائم في مناطق عديدة في العالم؟ ومنذ متى تذهب واشنطن إلى إجراءات استباقية احترازية بهذا الخصوص؟، وما الأساس والشواهد التي استندت إليها واشنطن لاتهام الجيش السوداني بأنه استخدم أو قد يستخدم أسلحة كيميائية في مناطق مكتظة بالسكان؟ وهل واشنطن أحرص على الشعب السوداني من الجيش السوداني؟ ولماذا قررت واشنطن الآن فرض عقوبات جديدة على الجيش السوداني؟
العقوبات الأميركية على السودان ليست وليدة اللحظة، وهي موغلة في القدم بدأت عام 1988؛ وكل الإدارات الأميركية المتعاقبة فرضت عقوبات اقتصادية على السودان أنهكت هذا البلد، وفاقمت من أزماته السياسية والاقتصادية. بالمناسبة، عقوبات عام 1988 فرضت على السودان نظراً لعجزه عن سداد الديون المتراكمة عليه، وهذا يعني استخفافاً أميركياً بالسودان، وليس حرصاً على حياته، كما تدّعي الرواية الأميركية في تلويحها بالعقوبات الجديدة.
وأسوأ العقوبات التي تعرّض لها السودان كانت في 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 1997، في عهد الرئيس الأميركي بيل كلنتون الذي فرض عقوبات مالية وتجارية، وجمّد الأصول المالية للسودان، ومنع التصدير وألزم الشركات والأفراد بعدم الاستثمار أو التعاون مع السودان الذي كان يعاني آنذاك من تردي الأوضاع الاقتصادية والجفاف. وفي آب/أغسطس عام 1998، قامت واشنطن بقصف مصنع الشفاء للأدوية بصواريخ كروز؛ بحجة أن المصنع ينتج أسلحة كيميائية، وهي الذريعة ذاتها التي استخدمت لاحتلال العراق.
والآن، بنت الولايات المتحدة الأميركية قرار التلويح بفرض عقوبات اقتصادية جديدة ضد السودان، بزعم استخدام أسلحة كيميائية؛ قبل عام، فلماذا صمتت عاماً كاملاً على ذلك؟ وفي أي منطقة استُخدمت تلك الأسلحة الكيميائية؟ وما نوعية تلك الأسلحة؟ أين ضحايا استخدام تلك الأسلحة؟ وهل يمتلك السودان فعلاً أسلحة فوق تقليدية؟ ولماذا لم توجّه واشنطن المنظمات الدولية المختصة ببحث استخدام الأسلحة الكيميائية أو تشكل فريق تحقيق أممياً ليُحقق ويتحقق من ذلك؟
المفارقة ليست في سجل العقوبات الأميركية السيئ والمُسيس على السودان؛ ولكن في التوقيت والبيئة الداخلية السودانية، إذ تزامن التلويح الأميركي بالعقوبات الاقتصادية مع تقدم الجيش السوداني واقترابه من حسم المعركة مع قوات "الدعم السريع"؛ وبالتالي قرار واشنطن لا يخلو من عملية تسييس مشبوه وابتزاز، عابرة للجغرافيا السودانية والمحددات الأميركية وتتوقف عند الإمارات.
ومرة أخرى، التوقيت غير بريء. يذكر أن واشنطن كانت قد فرضت في كانون الثاني/ يناير الماضي عقوبات على رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، واتهمته بالتمسك بإنهاء الصراع عن طريق الحرب وليس عبر المفاوضات.
من مفارقات عقوبات واشنطن التي تتهم السودان باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، أن السودان رغم ما يمر به من ظروف سياسية واقتصادية؛ تم انتخابه في تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 لعضوية المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية للفترة من 2025 إلى 2027، وذلك خلال أعمال الدورة 29 لمؤتمر الدول الأعضاء في المنظمة، الذي عقد في مقرها لاهاي.
تلويح واشنطن بفرض عقوبات اقتصادية جديدة على السودان، لا علاقة له بزعم وذريعة استخدام أسلحة كيميائية ضد المدنيين، لو تثبتت واشنطن من ذلك لذهبت بعيداً في إجراءاتها أبعد من مجرد فرض عقوبات، ذلك لأن واشنطن لم ولن تسمح لدولة مثل السودان مغضوب عليها في العُرف الأميركي بأن تمتلك فائض أسلحة تقليدية حتى تسمح لها باستخدام وامتلاك أسلحة كيميائية.
قرار التلويح الأميركي بفرض العقوبات على السودان في جزء منه استجابة واسترضاء للإمارات في خلافاتها مع السودان واتهام الثانية للأولى بدعم قوات "الدعم السريع"، وهو الخلاف الذي وصل إلى منبر المنظمات الدولية والأممية، وبالتالي هذا المحدد غير مستبعد أن يكون وراء التلويح الأميركي بالعقوبات على السودان، وهناك تقديرات وشواهد تدعمه.
ويلاحظ تعليق مستشار الرئيس الإماراتي أنور قرقاش، على العقوبات التي أعلنت واشنطن أنها ستفرضها على الجيش السوداني بسبب استخدامه السلاح الكيماوي ضد المواطنين. وقوله: "العقوبات الأميركية على الجيش السوداني بسبب استخدامه السلاح الكيماوي ضد مواطنيه تضع النقاط على الحروف". وأضاف أنه "لا حل إلا بوقف فوري للحرب، ومسار سياسي يفضي إلى حكومة مدنية مستقلة".
توقيت العقوبات الأميركية على السودان يقلل من الإنجازات التي حققها الجيش السوداني لصالح قوات "الدعم السريع". والمفارقة سكوت واشنطن عن جرائم "الدعم السريع" من دون الإشارة إلى أي عقوبات ضد "قواته" وجرائمها. وبالتالي، فإن المُستهدف هو الجيش السوداني تحديداً وليس طرفي الصراع في السودان، ما يعني عدم حيادية وشفافية التلويح الأميركي بالعقوبات. علماً بأن واشنطن خلصت سابقاً إلى أن أعضاء من قوات "الدعم السريع" ارتكبوا إبادة جماعية في دارفور، وفرضت عقوبات على بعض قياداتها، بمن فيهم قائد "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو "حميدتي".
عقوبات واشنطن الاقتصادية على السودان تستهدف الجيش السوداني، لا سيما بعد الإنجازات الميدانية التي حققها الجيش مؤخراً، وهذا الإنجاز لا يروق لكثير من الأطراف الإقليمية المعنية باستمرار الصراع داخل السودان، وألا تكون الغلبة للجيش السوداني، سبق أن سعت واشنطن إلى فرض الاتفاق الإطاري على السودانيين بطريقة تضمن بقاء قوات "الدعم السريع" ضمن مشهد انتقالي مصطنع.
توقيت العقوبات الأميركية يستهدف أيضاً إجهاض جهود الحكومة السودانية الجديدة، وقطع الطريق على محاولات رئيس الوزراء السوداني الجديد كامل إدريس الطيب.
تلويح واشنطن بالعقوبات الجديدة على السودان لن يُفضي إلى تبعات وتحوّلات كبيرة، ولن يكون مؤثراً، ذلك أن السودان منذ عام 1997 حتى عام 2020 وهو تحت مقصلة العقوبات الأميركية، وحتى عندما رفعت واشنطن العقوبات عن السودان، فإن القرار لم يفضِ إلى تحوّلات اقتصادية وسياسية كبيرة في السودان، ولا تزال المصارف العالمية ترفض التعامل مع السودان.
السياسة الأميركية تجاه السودان محكومة بمزاجية فردية، أكبر منها محددات مؤسسية، والاهتمام الأميركي بالسودان يختلف باختلاف الرئيس الجالس في البيت الأبيض، والمحدد الأبرز هو التنافس الدولي على السودان، مثال ذلك عندما صرّح ياسر العطا، عضو مجلس السيادة الانتقالي ومساعد القائد العام للقوات المسلحة السودانية، أن روسيا طلبت إقامة محطة للوقود في البحر الأحمر مقابل توفير أسلحة وذخيرة، وأن قائد الجيش السوداني البرهان سيوقّع على اتفاقيات مع روسيا بهذا الخصوص.
سارع وزير الخارجية الأميركي السابق أنتوني بلينكن، إلى إجراء مكالمة هاتفية مع الفريق عبد الفتاح البرهان استمرت 30 دقيقة، تحدث فيها عن ضرورة إنهاء الصراع في السودان بشكل عاجل، وإتاحة وصول المساعدات الإنسانية من دون عوائق. العقوبات على السودان تطور خطير جداً ليس في تسييس العقوبات، ولكن في أن تلجأ واشنطن إلى مثل هذه الذريعة لمعاقبة دول أخرى جديدة لا تدور في الفلك الأميركي.