ما بعد التوغّل الأوكراني في كورسك... خيارات الردّ ستتخطى حدود ساحات الحرب

القضاء على المشروع الأميركي في أوكرانيا لم يعد كافياً للثأر من التوغّل الأوكراني في كورسك، وكذلك لم يعد كافياً أيضاً للثأر من محاولة تحطيم مشروع تغيير النظام العالمي إلى شكل يصبح من خلاله أكثر عدلاً.

0:00
  • استطاع التوغّل الأوكراني في منطقة كورسك الروسية أن يستعيد بعضاً من اهتمام العالم.
    استطاع التوغّل الأوكراني في منطقة كورسك الروسية أن يستعيد بعضاً من اهتمام العالم.

استطاع التوغّل الأوكراني في منطقة كورسك الروسية أن يستعيد بعضاً من اهتمام العالم بعد أن هيمن طوفان الأقصى والعدوان الإسرائيلي على غزة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي على المشهد الإعلامي العالمي، حيث إنّ الأحداث السريعة واللحظة الاستراتيجية التاريخية التي رسمتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، بالإضافة إلى حجم الدمار الهائل والمذابح الجماعية التي ارتكبها الكيان الإسرائيلي، قد سرقت الأضواء من تلك الأحداث التي أمكن وصفها بالبطيئة والروتينية في شرق أوكرانيا.

غير أنّ هذا الواقع لا يمكن أن يلغي الأثر الاستراتيجي العميق للعملية العسكرية الروسية في شرق أوروبا والتي ستشكّل نتائجها بحسب كلّ الاتجاهات الفكرية مدماكاً أساسياً لطبيعة النظام العالمي قيد التشكيل.

 فمن خلال مخططات كلا الطرفين، أي الروسي والقوى الداعمة لأوكرانيا، والتي لا يمكن بالضرورة قراءتها في الأهداف المعلنة لكليهما، أي صون الأمن القومي الروسي مقابل ادعاء الحفاظ على السيادة والحق الأوكراني بالانضمام إلى حلف الناتو، أمكن التقدير أن مسارات المعركة في تلك المرحلة ستتخطى في نتائجها وتأثيراتها حدود جغرافيا النزاع لتطال موازين القوى العالمية التي أرستها الولايات المتحدة الأميركية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، والتي لم تكن محصورة في العلاقة البينية بينها وبين الدولة الروسية، وريثة الاتحاد السوفياتي، وإنما تخطّتها لتطال أصقاع المعمورة من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

وعليه، رغم هول المجازر التي يرتكبها الكيان في غزة والضفة، تبقى الأحداث في شرق أوكرانيا وما يرتبط بها، أي التوغّل الأوكراني غير العادي في منطقة كورسك الروسية على درجة من الأهمية التي تفترض تحليل تداعياتها، إن لناحية الفعل الأوكراني أو لناحية رد الفعل الروسي البارد وغير المتوقَّع، حيث إن المنطق النظري كان يفترض هجوماً روسياً مضاداً غير عادي يحاول من خلاله تحميل الجانب الأوكراني خسائر باهظة وبطريقة استعراضية تمنع على أي قوة دولية مجرد التفكير في احتلال أرض روسية مرة أخرى.

في هذا الإطار، انقسم المحللون في كيفية قراءة الحدث في كورسك بطريقة نمطية بين مهلّل للفعل الأوكراني انطلاقاً من تبنّيه للمنطق الغربي، وبين مفسّر لأسباب هذا التراجع الروسي في تلك المنطقة، ومفسّر أيضاً لردّ الفعل الروسي البارد، من دون أي محاولة لتقديم قراءة تحليلية تستهدف محاولة إظهار أثر هذا التوغّل خارج إطار ميدان القتال ومسار المفاوضات.

فاختصار محدّدات التوغّل الأوكراني في كورسك ضمن إطار محاولة توجيه ضربة معنوية للرئيس الروسي وضبط حدودها في كيفية انتزاع بعض المكاسب على طاولة التفاوض، لا يختلف من حيث المبدأ عن محاولة تبرير الردّ الروسي البارد ضمن إطار سردية تستهدف عدم الانجرار للسياق الأوكراني الهادف إلى التخفيف من الاندفاعة الروسية في شرق أوكرانيا، وخصوصاً في منطقة بوكروفسك الاستراتيجية.

فبالنسبة لواقع الصراع في أوكرانيا، من المفترض الإشارة إلى أن الواقع الميداني الحالي لم يعد معبّراً عن حقيقة الصراع القائم في شرق أوروبا. فعلى الرغم من أهمية المكتسبات الميدانية وتأثيرها الشديد على شكل التوازنات التي من الممكن أن تنظَّم على طاولة التفاوض، فإن هذه القاعدة قد تصلح في حال الصراعات التقليدية، التي من الممكن لمس خضوع أي طرف من أطرافها لمعطيات الميدان نتيجة قناعته بأنه استنفد كل ما يملكه من إمكانات، وأنه بات من غير الممكن أن يلجأ إلى أي وسيلة أخرى من أجل تغيير هذا الواقع. فمن حيث المبدأ، لا يمكن الحديث عن إمكانية تحقيق خرق من خلال التفاوض إلا إذا استشعرت أطراف الصراع أنّ واقعها في الميدان بات مترنّحاً وأن ما يمكن أن تحقّقه من خلال استمرار القتال لا يوازي ما قد تبذله من إمكانات وما قد تتعرّض له من خسائر. 

وعليه، فالانطلاق من حقيقة أنّ كلا الطرفين، أي الروسي من جهة وداعمي أوكرانيا من جهة أخرى، لم يستنفدا كل ما يملكونه من مقدّرات وقدرات عسكرية، بالإضافة إلى قناعتهما بأن هذه المعركة ستؤثر بشكل عميق في إعادة تشكيل تموضعهما على خارطة التوازنات الدولية، فمن الضروري قراءة التوغّل الأوكراني في روسيا وردّ الفعل الروسي البارد عليه وفق منطق يتخطى إطاره الميداني.

فالقوى الغربية، من خلال دعم الجيش الأوكراني لتحقيق هذا الاختراق لم تكن تهدف إلى زيادة الضغط على طاولة المفاوضات، حيث إن الجانب الروسي لم يُبدِ أيّ إشارة توحي باستعداده للوصول إلى تسوية لا تحقّق أهدافه الاستراتيجية التي من الممكن اختصارها بمسح أوكرانيا عن الخارطة العسكرية للناتو والولايات المتحدة. 

ومن ناحية أخرى، ليس من المنطق أن يقرّ الباحث بإمكانية تسليم روسيا باحتلال أرضها، ولو لفترة زمنية معيّنة، بحجة تركيز الجهد العسكري حالياً باتجاه بوكورفسك، حيث إن دولة تسعى لتغيير النظام العالمي وتملك ترسانة تقليدية ونووية لا يمكن تخيّلها تقبل بما قد يُفسّر على أنه إهانة قومية.

وعلى اعتبار أن المنطق العسكري لا يفترض إمكانية تحقيق أوكرانيا لأيّ مكسب استراتيجي من خلال توغّلها في الأراضي الروسية، بالإضافة إلى أنّ مقاربة أهداف هذا التوغّل من خلال منطلقات التحرّك الأوكراني تظهر أنه يتخطّى حدود ما يمكن اعتباره طموحاً أوكرانياً في هذه المرحلة، وذلك انطلاقاً من ضعف إمكاناتها وصعوبة تأمين الإمداد اللازم للصمود، فإنّ قراءة هذا الفعل ستفترض رداً روسياً استراتيجياً يوازي في مستواه حقيقة فهمها للأهداف الحقيقية لهذا التوغل، والتي من الممكن تقديرها وفق محاولة ضرب أسس الأمن القومي الروسي، ومحاولة تقزيم حجم القدرات الروسية وإظهارها في موقع العاجزة عن حماية سيادة الدولة، وبالتالي انتفاء قدرتها على إحداث أيّ تغيير يمكن أن يؤثّر في شكل النظام العالمي الذي تديره الولايات المتحدة. 

وعليه، يمكن التقدير أن القيادة الروسية لن تكتفي في هذه المرحلة بالتحرّك ضمن حدود رد فعل تقليدي يستهدف مجرد القضاء على القوات الأوكرانية المتوغلة في كورسك، بالإضافة إلى معاقبة القيادة الأوكرانية من خلال الاكتفاء بتكرار القصف الموسّع الذي نفّذته على مجمل الأراضي الأوكرانية ومن ضمنها كييف، وإنما سيتعدّاه لتحضير واقع استراتيجي دولي يتخطّى في حدوده مساحة العمليات الخاصة والضربات الجوية التي ينفّذها الجيش الروسي على كامل الأراضي الأوكرانية منذ أكثر من سنتين ونصف السنة. 

في هذا الإطار، سيتحوّل المشروع الروسي، الهادف إلى استنزاف أوروبا ببطء وتعميق الأزمة الاستراتيجية التي باتت تواجه الولايات المتحدة نتيجة فشلها في إثبات قدرتها على إدارة الصراعات في أكثر من مكان، إلى تنفيذ مخطط يستهدف تغيير موازين القوى الدولية من خلال دعم القوى المناوئة للولايات المتحدة في كل أرجاء المعمورة بالتقنيات والموارد اللازمة لإيذاء قوات الأخيرة المنتشرة في عدد غير قليل من القواعد العسكرية. وبالتالي، في ظل إدارة الولايات المتحدة للمواجهة مع محور المقاومة في المنطقة، بالإضافة إلى عدم قدرتها على حسم الواقع الميداني في المنطقة لصالحها بعد أن أثبتت الجبهات المنتشرة من اليمن إلى العراق وسوريا ولبنان عدم انصياعها لمسارات التهديد والوعيد الأميركي طيلة 11 شهراً، يمكن التقدير أن هذه الساحة قد تلبّي حاجة روسيا لتنفيذ ردّ يوازي في مضمونه ما تسعى الولايات المتحدة إلى تحقيقه من خلال أوكرانيا.

وبالتالي قد نشهد تطوّراً مطرداً في شكل العلاقة التي تجمع روسيا بقوى المحور، بحيث تتخطى ما كان مكرّساً في الوعي الجماعي العالمي على أنه من الخطوط الحمر، خصوصاً لناحية إمداد المحور بما تُعدّ أسلحة وتقنيات كاسرة للتوازن.

فالقضاء على المشروع الأميركي في أوكرانيا لم يعد كافياً للثأر من التوغّل الأوكراني في كورسك، وكذلك لم يعد كافياً أيضاً للثأر من محاولة تحطيم مشروع تغيير النظام العالمي إلى شكل يصبح من خلاله أكثر عدلاً، وإنما بات من الضروري توجيه ضربات قاصمة لأسس الانتشار الأميركي في العالم.