مع استمرار الاحتجاجات في إدلب: حراكٌ عراقيّ روسيّ على خطّ دمشق - أنقرة

الزعيم القاعديّ المتطرّف، أبو محمّد الجولاني، يعرف أكثر من غيره، أنّ ما مِن حراك عسكريّ أو أمنيّ أو شعبيّ يمكن أنْ يجري في الشمال، إلّا بعلم أنقرة وموافقتها، أو دفعها وإرادتها في الحقيقة.

  • ما يؤرق الجولاني هو ما يمكن أنْ تُخبّئه أنقرة خلف صمتها المريب حيال هذا الحراك.
    ما يؤرق الجولاني هو ما يمكن أنْ تُخبّئه أنقرة خلف صمتها المريب حيال هذا الحراك.

من دون أفق واضح، أو خطط  ناجعة، بقي أبو محمّد الجولاني، زعيم تنظيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابي، لعدّة أشهر، تحديداً منذ 27 شباط/فبراير الماضي، أي منذ اندلاع الاحتجاجات ضدّ سلطته في ريفَي إدلب وحلب، لغاية يوم الجمعة الفائت، يحاول احتواء الحراك الشعبي المتصاعد، واستيعابه بوسائل وطرائق مختلفة، تتفاوت بين الاستجابة الشكليّة لبعض المطالب "الأمنية" في بداية الأمر، والتي تمثّلت في الإفراج عن عشرات المعتقلين بتهم "التواصل مع جهات معادية"، وبين الوعد بإصلاحات أمنية واقتصادية، ودوماً، بين التهديد من مخاطر "الانفلات" الأمني والمجتمعي، والتخويف من خطر "الأعداء" المُحدقين بـ "المُحرَّر"، كما يسميّه الجولاني وصحبه، وبالتالي الهروب باتّجاه فتح الجبهات مع الجيش العربي السوريّ والقوى الرديفة والحليفة.

وفي كلّ تلك الأحوال، كان الجولاني يُعوّل بشكل أساسيّ على عامل الوقت، آمِلاً أنْ يتعب الناس أو يقتنعوا بمسوّغات "الشرعيّين" و"النصحاء" الذين نشرهم الجولاني بين الناس. 

لكنّ كلّ تلك الوسائل والطرق لم تُجدِ نفعاً، فالاحتجاجات آخذة بالتصاعد، والمطالب بلغت المطالبة بإسقاط الجولاني نفسه، وقد شهدت إدلب وقراها وبلداتها يوم الجمعة الفائت، تظاهرات شارك فيها الآلاف من المواطنين، عبّروا فيها عمّا اعتبروه "ثوابت" لا رجعة عنها، والتي تتمثّل في عناوين بارزة أهمّها: "إسقاط الجولاني"، وحلّ ما أطلقوا عليه "جهاز الظلم العام" (جهاز الأمن العام)، و"تبييض السجون".

وطالب المتظاهرون الجولاني بالتنحّي الفوري عن "منصبه" والابتعاد تماماً عن الشأنين العام والسياسيّ، بعد الإفراج عن مئات المعتقلين السوريين والأجانب الذين يؤكّد هؤلاء أنهم موقوفون بتهم سياسية واهية، ويتعرّضون للتنكيل والتعذيب في سجون جهاز "الأمن العام" التابع للهيئة، وإعادة تشكيل السلطتين السياسية والأمنية من جديد، بما يضمن مشاركة الفعّاليات التي تمثّل جميع الشرائح الشعبية، في القرار. 

وفي الأسابيع الثلاثة الأخيرة على وجه الخصوص، بدأ الجولاني وقياداته الأمنية يفقدون صبرهم أمام تزايد أعداد المتظاهرين وتصاعد مطالبهم، فبدأت الأجهزة الأمنية بالهجوم على التظاهرات لتفريقها بالقوة بعد اعتقال العشرات في كلّ مرة. لكنْ يبدو أنّ حلول الجولاني الأمنية، قد دفعت أعداداً جديدة من الناس إلى الشوارع، وزادت من إصرارهم على تنفيذ مطالبهم.

لكنّ ما يؤرق الجولاني فعلاً، ليست تلك التظاهرات بحدّ ذاتها، بل ما يمكن أنْ تُخبّئه أنقرة خلف صمتها المريب حيال هذا الحراك. فالزعيم القاعديّ المتطرّف، يعرف أكثر من غيره، أنّ ما مِن حراك عسكريّ أو أمنيّ أو شعبيّ يمكن أنْ يجري في الشمال، إلّا بعلم أنقرة وموافقتها، أو دفعها وإرادتها في الحقيقة.

وما يزيد قلق الجولاني أكثر هذه الأيام، هو تزامن تصاعد الاحتجاجات مع الحراك السياسيّ، المتصاعد هو الآخر، على خطّ دمشق – أنقرة، والذي تقوده بغداد هذه المرّة. 

وفي هذا الشأن الهامّ، أعلن رئيس الوزراء العراقيّ، محمد شياع السوداني، عن مبادرة عراقية تهدف إلى إجراء مصالحة بين دمشق وأنقرة، وأنّ خطوات مبشّرة قد حدثت بالفعل على هذا المسار. لتصدر بعد ذلك تقارير صحافية من العراق، تفيد بقرب حصول لقاء بين مسؤولين من البلدين، في العاصمة العراقية. 

والواقع هنا، أنّ أنقرة بذلت مساعي حثيثة لدى بغداد، لإقناعها بالتعاون والتنسيق المشترك من أجل ضرب "حزب العمال الكردستاني" وإبعاده عن الحدود العراقية – التركية.

وبعد أنْ أعلنت الحكومة العراقية تصنيف "العمال الكردستاني" تنظيماً إرهابيّاً، أرادت أنقرة الذهاب أبعد من ذلك، محاوِلةً التفاهم مع بغداد على إقامة "منطقة أمنية" بعمق 40 كيلومتراً داخل الأراضي العراقية، تستطيع قواتها العمل على مساحتها إذا اقتضت ضرورات "الأمن القوميّ" التركي. وقد أمسكت بغداد بطرف هذه اللحظة "الأمنية"، لتفتتح مساراً سياسيّاً، بأبعاد أمنيّة واقتصادية أكيدة، بين العاصمتين الجارتين. 

وفي الظاهر، رحّبت أنقرة بهذه الجهود، وأبدت استعدادها للمضيّ قدماً في هذا المسار، معبّرة على لسان وزير خارجيّتها، حاقان فيدان، عن استعدادها للانسحاب من الأراضي السورية المحتلة، إذا ما اطمأنّت إلى وجود قوة قادرة على حماية الحدود من خطر التنظيمات الكردية. وقد رحّبت طهران بدورها، بالمساعي العراقية، على أمل حصول تنسيق أمني مشترك بين العواصم الثلاث، بغداد ودمشق وأنقرة، لضمان أمن حدودها وأرضها جميعاً. والحقيقة أيضاً، أنّ موسكو عادت إلى العمل بنشاط كبير على خطّ أنقرة – دمشق، وثمّة تقدّم، بل ربما مفاجآت كبيرة، قد ترشح قريباً كمخرجات لتلك المساعي الروسية والعراقية.

أمّا ما جعل أنقرة تُبادر إلى إعلان استعدادها العاجل للمضي في هذا الطريق، فهو عدّة عوامل بارزة، أهمها إعلان "قسد" عزمها إجراء انتخابات محلية في المناطق التي تسيطر عليها في الشرق السوريّ، وهي خطوة تراها أنقرة في غاية الخطورة.

ثم إعلان غير مسؤول أوروبيّ رفيع، عن نيّة العديد من الدول الأوروبية إجراء إعادة تقييم لعلاقاتها مع دمشق، وزيارة مدير الاستخبارات الإيطالي، الجنرال جاني كارفيللي، إلى دمشق، في 28 أيّار/مايو القائت، ولقاؤه الرئيس بشار الأسد، والطروحات التي سمعتها القيادة السورية منه بخصوص المرحلة الجديدة التي تنوي العديد من الدول الأوروبية تدشينها مع سوريا. 

ثمّ، وهذا مهم جدّاً في رأي أنقرة، ردّ الإدارة الأميركية لمشروع قانون "تجريم التطبيع مع سوريا"، وعدم السماح بتمريره في الكونغرس، وتلك إشارة ترى أنقرة أنّ لها ما بعدها بالنسبة لواشنطن. كما تراقب أنقرة تقدّم العديد من الدول العربية باتّجاه العاصمة السورية، وتربطه بالمواقف الأميركية والأوروبية تلك. 

وثمّة مستجدّ آخر يبدو في غاية الأهمية على المستوى العالمي، وبالتالي التركيّ، وهو تقدّم محور المقاومة، التي تقع دمشق في قلبه، في معركة "طوفان الأقصى" المجيدة، وعجز المحور العالمي الداعم للكيان الصهيونيّ، عن تحقيق أي إنجاز في هذه المعركة، بل تخبّطه الواضح وسط التداعيات الكبرى التي أفرزتها المعركة على كلّ المستويات حتى الآن. 

وإضافة إلى كلّ ما سبق، فإنّ التداعيات الاقتصادية والأمنية التي أفرزها ملفّ النازحين واللاجئين السوريين في الداخل التركيّ، باتت تُشكّل عبئاً ثقيلاً على نظام الرئيس رجب طيب إردوغان، وعلى شعبيّة حزبه السياسي في الداخل التركيّ، وبالتالي لا بدّ من إيجاد مخرج لهذا الوضع بأسرع وقت ممكن.

تفيد المعلومات بأنّ المسار السياسيّ العراقيّ على هذا الخطّ، والذي أُعلِن عنه مؤخّراً، جاء وسط تقدّم كبير في المساعي الروسيّة على صعيد النقاشات الميدانية حول وضع الشمال السوريّ، وأنّ ثمّة مستجدات هامة جدّاً على مستوى الاستعدادات التركية لخطوات كبيرة في هذا المجال، ومن ذلك البحث الجدّي في إخلاء معسكرات ومواقع ومعابر سيحلّ فيها الجيش السوريّ والقوى الأمنية الشرعية فور إخلائها.

وقد لا نكون بعيدين عن إعلان المدّة الزمنية الواضحة التي تطالب بها دمشق منذ البداية، إلى جانب الإعلان عن ترتيبات أمنية تهدف إلى ضمان عدم حدوث معركة مع القوى العسكرية والسياسية التي تتبع للنفوذ التركيّ، والتي من المفترض أنْ تخضع للتسوية المفترضة بالشروط التي توافق عليها دمشق وترتضيها.

يعرف الجولانيّ كلّ هذا ويراقبه بقلق بالغ، فهو "أسمن الخراف" في منطقة الشمال، وليست لديه خيارات عديدة إذا ما سارت الأمور بالطريقة الجيدة على مستوى الحراك السياسي والأمني والاقتصاديّ الإقليميّ.

وإذا ما حصل هذا فعلاً، فالأرجح أنْ نسمع عن "إصلاحات" واسعة في إدلب وجوارها، لا بدّ أنْ يكون موضوع "اختيار" الجولاني التنحّي والتوجّه إلى الداخل التركيّ ليعيش كـ "كمواطن تركي"، في مقدّمها، أو ربما تختار له أنقرة، معركة "مقدّسة" جديدة في النيجر، أسوةً بمئات السوريين الذين أرسلتهم إلى هناك.

غير ذلك، سيكون أمام الجولاني خيار الانتحار عن طريق معركة حاسمة مع الجيش السوري وحلفائه، وقد لا تكون أنقرة محايدة في تلك المعركة، والأكيد، أنها لن تكون في صفّ الجولاني وجماعته، فالمصالح التركية المستجدّة، ستُعبّر عن تدشين مرحلة مختلفة وواقع جديد.