منتدى بطرسبورغ ومستقبل الحضور الروسي في القارة الأفريقية

مستقبل الحضور الروسي في القارة الأفريقية سيشهد تمدداً ونمواً وفعاليةً أكبر وأكثر نتيجة عدة متغيرات، أهمها مركزية القارة الأفريقية في محددات السياسة الخارجية الروسية، والرغبة الأفريقية في التحرر من التبعية للدول الأوروبية والولايات المتحدة.

  • منتدى بطرسبورغ ومستقبل الحضور الروسي في القارة الأفريقية
    منتدى بطرسبورغ ومستقبل الحضور الروسي في القارة الأفريقية

تتويجاً لعلاقات بدأت تتشكل، وتقارب بات يتمدد، وقعت روسيا عدة اتفاقيات بينها وبين الدول الأفريقية، على هامش منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي، الذي استضافته مدينة بطرسبورغ الروسية بين 5 و8 حزيران/يونيو الجاري. وعلى الرغم من تسميته المنتدى الاقتصادي، فإنّ العامل السياسي كان بارزاً في أغلبية اللقاءات والحوارات والنقاشات.

وكشف وزير المعادن السوداني، محمد بشير عبد الله أبو نمو، عن اتفاقية وقعها مع شركة روسية لاستكشاف الذهب في السودان، مؤكداً أهمية العلاقات والتعاون بين روسيا والسودان، وأشار إلى أن الخرطوم أبرمت خلال المنتدى اتفاقية مع شركة حكومية روسية لاستكشاف الذهب في أراضيها. 

وقال أبو نمو إنه أجرى "محادثات مطولة وبناءة مع المسؤولين الروس في المنتدى بشأن تعزيز التعاون وتنفيذ البروتوكولات الموقعة بين البلدين في إطار اللجنة الحكومية المشتركة".

وفي سياق متصل، وقّعت روسيا وجمهورية غينيا مذكرة، تنص على بناء محطات طاقة نووية عائمة. وأشارت شركة "روساتوم" الروسية الحكومية، إلى أنه "في إطار الاتفاقيات، التي تم التوصل إليها، سينظر الطرفان في إمكان تنفيذ مشروع وحدات الطاقة العائمة في جمهورية غينيا.

يُذكر أنه منذ القمة الروسية الأفريقية الأولى، والتي عُقدت في أكتوبر 2019 في مدينة سوتشي الروسية على البحر الأسود، بمشاركة زعماء 43 دولة، فضلاً عن 8 تكتلات ومنظمات أفريقية كبرى، تشهد العلاقات الروسية الأفريقية تنامياً ملحوظاً ولقاءات دورية. وكانت مدينة سان بطرسبرغ الروسية استضافت، على مدار يومي الـ27 والـ28 من تموز/يوليو 2023، القمة الروسية الأفريقية الثانية، بمشاركة 49 دولة أفريقية، وبحضور 17 رئيس دولة.

محددات العلاقات الروسية الأفريقية وآفاقها ومستقبلها، عبر عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في كلمته ضمن منتدى بطرسبورغ الاقتصادي، والتي شدّد فيها على توجهات روسيا إلى تعزيز العلاقات الاقتصادية بالشرق الأوسط ودول أفريقيا، كاشفاً خريطة طريق لتعزيز النمو الاقتصادي الروسي وتوسيع نفوذها في التجارة العالمية.

وأكد الرئيس الروسي أن تطوير روسيا علاقاتها بالقارة الأفريقية، يُعد أولوية بالنسبة إلى موسكو، مشيراً إلى أن حضور قادة أفريقيا منتدى "بطرسبورغ" الاقتصادي يرمز إلى اهتمام القارة بتطوير العلاقات بموسكو.

وخلال محادثاته مع رئيس زيمبابوي، إيمرسون منانجاجوا، قال بوتين: "يسعدني أن تتاح لي الفرصة للقاء معكم على هامش منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي". وأردف: "حضوركم يرمز إلى اهتمام القارة الأفريقية بتطوير العلاقات مع روسيا الاتحادية، وهذا أحد أولوياتنا". كما أكد بوتين أنه تم الاتفاق على ضرورة العمل من أجل "تطوير تفاعلنا على كلا الجانبين، وإنشاء أشكال جديدة منه".

ولفت الرئيس الروسي إلى أن العلاقات بين روسيا وزيمبابوي تطورت، منذ فترة طويلة، "خلال فترة نضال بلادكم وشعبكم من أجل الاستقلال، وهي الآن تواصل التطور بشكل فعال". كما شدّد على أن "مواقف روسيا وزيمبابوي، بشأن القضايا الرئيسة في جدول الأعمال الدولي متطابقة".

مسار العلاقة بين روسيا والدول الأفريقية مسار موغل في القِدَم ومتجذر على قواعد متباينة تماماً عن مسار علاقة الدول الأفريقية بالدول الغربية. وبالتالي، فإن قراءة مآلات العلاقات الروسية -الأفريقية واستشراف مستقبلها لم يكونا وليدَي اللحظة التي عُقد فيها منتدى بطرسبورغ الاقتصادي، وتوقيع الاتفاقيات بين روسيا والدول الأفريقية، وحديث الرئيس الروسي عن محددات العلاقات الروسية بالقارة الأفريقية، ليسا مجرد حديث على هامس منتدى اقتصادي دولي، ولا يبدوان كاجتهاد، أو أمر يُوجده متغير قيادي، لكنهما أمر يأتي في سياق استراتيجية عامة بدأت روسيا تخطها وتخطوها تجاه القارة الأفريقية. وقوامها أن ذهاب روسيا بوتين صوب أفريقيا يُعَدّ مهمة مقدسة، من أجل استعادة مجد الاتحاد السوفياتي هناك. لذلك، تعمل روسيا وتسعى لدفع العلاقات الروسية الأفريقية إلى الأمام.

وبينما كانت الترتيبات الروسية تجري على قدم وساق لتنظيم منتدى بطرسبورغ الاقتصادي، كان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 6 حزيران/يونيو الجاري، يجوب القارة الأفريقية في جولة هي السادسة للافروف خلال عامين، شملت كلاً من غينيا، والكونغو برازافيل، وتشاد، وبوركينا فاسو. وتُعَدّ زيارته بوركينا فاسو وتشاد الأولى في تاريخ العلاقات بين روسيا وهذين البلدين، لتعزيز التعاون مع أفريقيا، في مقدمتها "التعاون عسكرياً ودفاعياً". وبالتوازي والتزامن، كانت هناك زيارة روسية أخرى يقوم بها يونس بك يفكوروف، نائب وزير الدفاع الروسي، لكل من النيجر ومالي. يذكر أن بوركينا فاسو وتشاد شاركتا في فعاليات منتدى سان بطرسبرغ الاقتصادي الدولي. ووقعتا عدة اتفاقيات اقتصادية مع روسيا وأخرى في مجال الطاقة النووية والتعدين. 

لم تكن زيارة لافروف لهذه الدول من باب الصدفة، إذ تُعد البلدان الأفريقية الأربعة التي يزورها مستعمرات فرنسية سابقة. وبالتالي، فإن تمدد الحضور الروسي هنا يعني سقوط قطع الدومينو الفرنسية هناك. وهذا التنافس أحد أهم محددات مستقبل الحضور الروسي في أفريقيا.

هذه الحيثيات منذ القمة الروسية الأفريقية الأولى، وتلك الزيارات المكوكية، كلها تدفع إلى التساؤل عن مستقبل الحضور الروسي في أفريقيا محدداته ومعوّقاته، والتي يمكن إيجازها في التالي:

-      الحضور الروسي في أفريقيا ليس حضوراً عابراً، وهو غير مرتبط بمنتدى بطرسبورغ الاقتصادي أو بالقمم الروسية الأفريقية، وهو حضور تحاول روسيا ألا تختصره في المتغير القيادي الذي يعبر عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وبالتالي تحاول مأسسة هذا الحضور من خلال وزارة الدفاع ووزارة الخارجية، ومن خلال توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية. وهو حضور يلاحظ أنه يتمدد ولا يقتصر على منطقة أفريقية بعينها، وإن كان أوفر حظاً في منطقة الساحل، لكنه لا يقتصر أو يتوقف عند حدودها الجغرافية فقط.

-      تعلمت روسيا من التجربة الأوروبية الغربية وأخطائها، وبالتالي تتعامل روسيا مع القارة الأفريقية من خلال مبدأين. الأول: أنها تقدم نفسها وريثاً شرعياً للاتحاد السوفياتي الذي كان داعماً ومسانداً للدول الأفريقية في نضالها من أجل التحرر من الاضطهاد الاستعماري. ولم يكن طامعاً أو مستعمراً لهذه الدول. والمبدأ الثاني عبرت عنه، على هامش منتدى بطرسبورغ الاقتصادي في 6 حزيران/يونيو الجاري، المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، عند حديثها عن الأفاق والمستقبل لعلاقات بلادها بدول القارة الأفريقية، في قولها إن "روسيا تعُدّ التعاون مع أفريقيا مُتكافئاً، وهو أمر مهم جداً"، مشيرةً إلى أنّ "القارة الأفريقية تعرضت للتخويف وسوء المعاملة خلال قرون مضت من جانب الدول التي استعمرتها واستعبدتها وسرقتها". هذا التوصيف، ونظافة العلاقات التاريخية من الاستعمار، وحضور مبدأ التكافؤ، أمرٌ يبدو مريحاً وكافياً لتمدد الحضور الروسي في القارة الأفريقية.

-      العزف الروسي على وتر التطلعات الأفريقية، وتثبيت محدد الندية والتبادلية بدلاً من التبعية والفوقية. ويتجلى ذلك في الحديث المتكرر للرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أن بلاده "متضامنة مع أفريقيا للاتجاه نحو عالم متعدد الأقطاب، وترفض استغلال قضايا المناخ وحماية حقوق الإنسان لأغراض سياسية، وتعارض سياسة إملاء القواعد التي يفرضها الغرب". وإن روسيا تدعم توسيع تمثيل أفريقيا في هيئة الأمم المتحدة ضمن سياسة إصلاح مجلس الأمن الدولي.

هذه المحددات، ورغبة الدول الأفريقية في تنويع علاقاتها الدولية وتقدم النظرة البراغماتية كمحدد حاكم لذلك كله، بالإضافة إلى المحددات السالفة التي تحكم مستقبل الحضور الروسي في أفريقيا، لا تعني غياب المعوّقات والتحديات في مسار العلاقات الروسية الأفريقية، ومنها الاقتصار على البعدين الأمني والعسكري، في مقابل ضعف البعدين الاقتصادي والاستثماري والتبادل التجاري. ويُعاب على روسيا تغليب العامل السياسي على العامل الاقتصادي، بمعنى الرغبة في التوظيف السياسي للعلاقة من دون تقديم أو تغليب للبعد الاقتصادي التنموي الذي تحتاج إليه الدول الأفريقية. وهذه معادلة مهمة للغاية في الوعي الأفريقي الجديد، فالدول الأفريقية لا تريد التخلص من الاستغلال والتبعية للدول الأوروبية، لتجد نفسها أمام حضور روسي يهدف إلى تمدد حضوره العسكري ونفوذه السياسي في القارة الأفريقية من دون مقابل تنموي اقتصادي ملموس وواضح. وهو ما يمكن تسميته فجوة الأولويات بين روسيا والدول الأفريقية.

خلاصة القول أن مستقبل الحضور الروسي في القارة الأفريقية سيشهد تمدداً ونمواً وفعاليةً أكبر وأكثر نتيجة عدة متغيرات، أهمها مركزية القارة الأفريقية في محددات السياسة الخارجية الروسية، والرغبة الأفريقية في التحرر من التبعية للدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة إلى أن روسيا تنظر إلى أفريقيا كساحة تنافس مع الغرب. وبالتالي، فإن أي دولة افريقية ستكون ضمن الدائرة الروسية تساوي في المقابل خسارة للدول الأوروبية عموماً، والولايات المتحدة على وجه الخصوص. وهذا الأمر يعني أن التنافس الأوروبي الأميركي سيكون أيضاً أحد محددات تمدد الحضور الروسي في القارة الأفريقية. وعليه، فإنه إمّا أن تقبل الدول الغربية التمدد الروسي وتسلم به، وهذا سيناريو مستبعد، وإما أن يستمر التنافس وهذا سيناريو سيعزز الاهتمام الروسي ويتيح مساحة وخيارات أكبر للدول الأفريقية في علاقاتها الخارجية من دون ابتزاز غربي أميركي، وهذا سيناريو متوقع. وبالتالي، فإن مخرجات منتدى بطرسبورغ الاقتصادي الدولي مجرد نواة لمستقبل ما ستصبح عليه العلاقات الروسية الأفريقية.