نقاط "حسّان" على حروف فلسطين

تفهم المقاومة تماماً أن الحرب ليست فعل مغامرة، وأن الهدف منها ليس تحقيق الشعبية، أو رضا وسائل الإعلام.

  • يعرف العدو أن كشف المقاومة أيَّ تطور نوعي في تسليحها، يعني أنها تجاوزت ذلك التطور، وأن ما تملكه أكثر خطورة ونوعية.
    يعرف العدو أن كشف المقاومة أيَّ تطور نوعي في تسليحها، يعني أنها تجاوزت ذلك التطور، وأن ما تملكه أكثر خطورة ونوعية.

كعادته، قدّم إلينا سماحة السيد حسن نصر الله، في خطابه في ذكرى القادة الشهداء، جرعة كبيرة من الحماسة والتفاؤل بأن ساعة الانتصار على العدو تقترب. لم تكن تلك الجرعة عاطفية فحسب، لكنه دعّمها بمعلومات جديدة عن التطور النوعي في الترسانة العسكرية للمقاومة. اندرج هذا التطور تحت ثلاثة عناوين: امتلاك تقنية تحويل صواريخ المقاومة إلى صواريخ ذكية ودقيقة؛ امتلاك القدرة على تصنيع المُسيّرات؛ تفعيل وسائط الدفاع الجوي تجاه مسيّرات العدو.

كالعادة، تحظى خطابات سماحة السيد باهتمام الصديق والعدو. بعد الخطاب، انبرى الأعداء وعملاؤهم في حملات تشكيك واتهام، تحمّل المقاومة المسؤولية عن عدوانية العدو، وعن الأزمة المعيشية التي يربطونها بتخلي الدول العربية عن لبنان بسبب مواقف المقاومة تجاه العدو "الإسرائيلي"، وتجاه المجازر التي ترتكبها دول، مثل السعودية والإمارات وقطر، ضد المدنيين في اليمن وسوريا والعراق. لا يبالي هؤلاء بالتفريط بحقوق لبنان أولاً، وحقوق الأمة ثانياً، ما دامت دكاكينهم السياسية الفاسدة تحقق أرباحاً تذهب إلى البنوك الغربية.

تفهم المقاومة تماماً أن الحرب ليست فعل مغامرة، وأن الهدف منها ليس تحقيق الشعبية، أو رضا وسائل الإعلام. فالعدو مجهَّز بأحدث وسائل القتل وأخطرها، وهو لا يتورّع عن ارتكاب الجرائم ضد المدنيين والبنى التحتية. كما تدرك المقاومة أن أي معركة تخوضها مع العدو لا بدّ من أن تكون ضمن استراتيجية مدروسة، تضمن تحقيق أهداف مرحلية ترتقي بالفعل المقاوم. لذلك، اعتمدت المقاومة، منذ عام 1982، حتى اليوم، ثلاث مراحل للمواجهة مع العدو: مرحلة الدفاع عن المواقع والعمليات النوعية؛ ثم مرحلة صد العدوان وتكبيده أكبر خسائر ممكنة، ووصلت هذه المرحلة إلى ذروتها في حرب تموز/يوليو 2006؛ ومرحلة الردع القائمة على إدراك العدو أن أي عدوان على المقاومة يمكن أن يتحول إلى معركة كبرى قد تأتي نتائجها بما لا يقدر على تحمله.

ضمن هذا الفهم لم يكن من الممكن إطلاق صاروخ دقيق نحو العمق الفلسطيني، لأن ذلك يعني إعلان حرب. كان البديل إرسال المسيّرة "حسّان" في طلعة استطلاعية فوق فلسطين، في خطوة كانت ضرورية في سياق المواجهة مع العدو، إذ حملت المسيّرة "حسّان" مجموعة من الرسائل موجهة إلى من يهمه الأمر.

رسالة إلى العدو، الذي أصبح يعرف أن كشف المقاومة أيَّ تطور نوعي في تسليحها، يعني أنها تجاوزت ذلك التطور، وأن ما تملكه أكثر خطورة ونوعية. وبالتالي، دخلت الدوائر الاستخبارية والعسكرية الإسرائيلية في حالة من الارتباك، تجلّت بالطريقة المبالَغ فيها، والتي تعاملت بها مع المسيّرة "حسّان"، التي عدّها كثير من المعلقين والخبراء العسكريين نصراً مهماً للمقاومة في معركة الوعي. 

من الأهداف المهمة التي حققتها "حسّان" أنها قوَّضت ما يدَّعيه العدو في قوله إن تكرار العدوان على سوريا هو من أجل قطع إمدادات المقاومة من الأسلحة النوعية، ووضعت هذه الاعتداءات في مكانها الصحيح، وهو أنها استغلال لظرف مؤاتٍ، إقليمياً ودولياً، من أجل تحقيق بعض الإنجازات الإعلامية، من دون القدرة على تحقيق أي إنجاز، أو التأثير في قدرات أيّ طرف من أطراف محور المقاومة.

الرسالة الثانية كانت إلى الشعب الفلسطيني، الذي ينخرط منذ عدة أشهر في انتفاضة مَنسيّة إعلامياً، في الشيخ جراح ونابلس ورام الله وجنين. هؤلاء المنتفضون، الذين كانوا يخوضون، في الوقت نفسه لطلعة المسيّرة "حسّان"، مواجهاتٍ قاسيةً في حي الشيخ جراح مع المستوطنين الصهاينة، وخاضوا في الليلة ذاتها اشتباكاً مسلَّحاً في منطقة جنين، كانوا في حاجة إلى دعم يقول لهم إنهم ليسوا وحيدين في المعركة، وإن المقاومة لا تكتفي بإصدار البيانات، لكنها تلجأ إلى الفعل الذي يقضّ مضاجع العدو.

منذ أن بدأت المواجهات في حيّ الشيخ جراح، وما تلاها في معركة "سيف القدس"، شهدت الأراضي الفلسطينية نقلة نوعية في العمل النضالي. تمثَّلت هذه النقلة بانضمام فلسطينيي المناطق المحتلة عام 1948 إلى الفعل المقاوم، ليس كمتضامنين، بل كشركاء في القضية الواحدة. لن ينسى العدو العَلَم الفلسطيني يرفرف في سماء اللد بعد طرد المستوطنين، ولا المواجهات في عكا. لقد أدى هذا التغيير النوعي إلى إعادة تشكيل مفهوم الجبهة الداخلية "الإسرائيلية" في أي حرب مقبلة، وبناء الاستراتيجية الجديدة على اعتبار أن اندلاع المواجهات في المدن الفلسطينية، ومدن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، إحدى أهم الثُّغَر في حال نشوب معركة في الجبهة الشمالية (سوريا ولبنان).

أولئك القادمون من عكا وحيفا واللد والنقب، والمجتمعون حول البيوت المحاصَرة في حيّ الشيخ جراح، كانوا في حاجة إلى رسالة من المقاومة لتشد أزرهم، وتقول لهم إن الصمود والإرادة قادران على صنع المعجزات. وهذا ما قالته المسيّرة "حسان".

على الرغم من أهمية الأثر المعنوي الذي تركه تحليق المسيّرة "حسّان"، وعودتها إلى قواعدها سالمة، فإن أغلبية المحللين العسكريين سلّطت الضوء على الاستنتاجات العسكرية المرتبطة بهذا التحليق. أهم هذه الاستنتاجات أن "القبّة الحديدية" ووسائط الدفاع الجوي، بما فيها الطائرات الحربية، ستكون عاجزة عن التصدي لهجمات مئات الطائرات المسيّرة، وآلاف القذائف والصواريخ التي يمكن أن تنهال على العدو في حال اندلاع الحرب. كما أن التكلفة المرتفعة لصواريخ "القبة الحديدية"، والتي تصل إلى 50 ألف دولار للصاروخ الواحد، ستجعل الحرب المقبلة كارثةً، اقتصادياً وعسكرياً.

منذ انطلاق "الربيع الصهيوني"، تراجع موقع القضية الفلسطينية في سلّم الأولويات العربية. وجاءت موجة التطبيع العربي الأخيرة لتضع مزيداً من الضغوط على الشعب الفلسطيني. جاءت الدقائق الأربعون التي حلقت خلالها المسيّرة "حسّان" لتُعيد الاعتبار إلى الفعل المقاوم في سياق القضية الفلسطينية، والصراع العربي - الإسرائيلي، ولتقول إن المواجهة النهائية مع العدو ستكون في أرض فلسطين، وإن محور المقاومة يضع يده في أيدي المقاومين داخل فلسطين، وفي العالم العربي، ليكون النصر حليفهم.