هل يصلح "فساد أوكرانيا" عنواناً لإنهاء الحرب؟
ليس هنالك أي غرابة في اشتعال ملف فساد في أوكرانيا، في ظلّ التركيبة السياسية التي نشأت معها البلاد منذ الانهيار السوفياتي، ولكن الأسئلة تدور الآن حول سبب تحريك الملف، ومن المسؤول عنه؟
-
لا تختلف أوروبا عن واشنطن في القفز عن الفساد، إذا كانت الحاجة السياسية تستدعي ذلك.
لم تنجح أوكرانيا أن تتحول إلى دولة- أمة بعد إعلان الاستقلال إبّان الانهيار السوفياتي. بعضهم ينسب الإخفاق إلى ضعف الطبقات الوسطى الحضرية، وبعضهم ينسبه إلى الانقسام العرقي (روسوفوني – أوكرانوفوني)، وبعضهم ينسبه إلى هجرة الكفاءات، سواء شرقاً باتجاه روسيا أو غربا باتجاه الاتحاد الأوروبي، ولكنّ عامل الفساد يكاد يكون العامل المجمع عليه في مصفوفة أسباب الإخفاق الأوكراني.
نما الفساد في أوكرانيا في منحنى خطّي متصاعد، وعندما كان بوتين يحارب الأوليغارشية التي أرهقت الاقتصاد الروسي 10 سنوات، كانت أوكرانيا تُبني على أسس الصفقات بين السياسيين والأوليغارش، وكانت كييف عاجزة عن بناء سلطة مركزية؛ ففيها حدثت "الثورة البرتقالية"، وما أسمي ب "انتفاضة الميدان الأوروبي"، وبدلاً من أن تكون كييف نقطة انطلاق بناء السلطة المركزية، كانت نقطة انطلاق الصفقات بين مسارات نفوذ متعددة، وأحياناً متنافسة ومتصارعة.
يقول ديميتري بريدج، الباحث في مركز الدراسات العربية الأوراسية، أن زيلينيسكي خاض حملته الانتخابية بشعار "كسر نظام الأوليغارش وتصفير الفساد"، إلا أنّ ثمة مؤشرات جدّية على انخراط زيلينيسكي في المنظومة نفسها:
صنع زيلينيسكي نجوميته من خلال قناة امتلكتها شخصية أوليغارشية نافذة. والمقصود إيهور كولومويسكي. ويقول المعهد الألماني للعلاقات الدولية، أنه تمّ رصد 41 مليون دولار حُوّلت إلى حسابات ذات صلة بزيلينيسكي من بنك برايفت التابع لكولومويسكي في الفترة 2012-2016. بعد وصول زيلينيسكي إلى الرئاسة، حارب كولومويسكي واعتقله، واليوم بعد أن تمّت إثارة فضيحة تسجيلات الفساد للدائرة المقرّبة من زيلينيسكي، يهدّد كولومويسكي بأنه سيضع زيلينيسكي في قفص ويجوب به أوكرانيا !
مؤشر آخر يعرضه ديميتري بريدج مرتبط بشركات الإنتاج التي أسّسها زيلينيسكي وارتباطها بشبكات معقدة مع شركات أخرى في الخارج.
آليات تدوير الأرباح واستخدام زيلينيسكي للملاذات الضريبية. ومن ذلك ما نشرته وثائق باندورا بخصوص ملكية زيلينيسكي لشركة خارجية في جزر العذراء البريطانية، ونقله الأسهم قبل توليه الرئاسة إلى صديقه المقرّب سيرغي شيفر.
ليس هنالك من وقت مثالي للفساد كما هو وقت الحرب، ولذلك ليس غريباً أن تُنسَج مقاربات بين تاريخ زيلينيسكي في صفقات الأوليغارشيا والسياسيين في أوكرانيا، وبين إمكانات استغلال الأموال المتدفقة من الغرب لأوكرانيا لخوض الحرب ضد روسيا.
تأتي قضية التسجيلات مؤخراً التي تثبت تورط الدائرة المقرّبة من زيلينيسكي في هذا السياق، وقد أُعلن عن اختلاس مبالغ طائلة من أموال أوروبية وأميركية مرسلة لغايات ترميم البنية التحتية لقطاع الطاقة في أوكرانيا.
ورطة زيلينيسكي أن الأسماء المتّهمة هي من دائرته المقرّبة، وتمثل شخصيات وازنة في منظومة الحكم؛ تيمور مينديش ( الملقب بمحفظة زيلينسكي وهو المؤسس المشارك لزيلينيسكي في شركة الإنتاج كفارتال 95)، ووزير العدل غيرمان غالشنكو ( الذي سبق أن كان وزيراً للطاقة، وهو المتحدّر من أقصى الغرب الاوكراني)، ومؤخراً أندريه يرماك ، رئيس مكتب زيلينيسكي.
ليس هنالك أي غرابة في اشتعال ملف فساد في أوكرانيا، في ظلّ التركيبة السياسية التي نشأت معها البلاد منذ الانهيار السوفياتي، ولكن الأسئلة تدور الآن حول سبب تحريك الملف، ومن المسؤول عنه؟ كيف تفاعل الأوروبيون؟ كيف تفاعلت واشنطن؟
يعود تأسيس المكتب الوطني لمكافحة الفساد في أوكرانيا إلى توصيات صندوق النقد الدولي، ولذلك يعتبر الأميركيون هم اللاعب الأكثر تأثيراً فيه، ولا سيّما مع المشاريع المتعددة في الاستشارات والتوظيف والتدريب. ويُعتبر المكتب هيئة مستقلة، لا تخضع لمكتب زيلينيسكي، وتشرف على آليات إنفاق المساعدات، لذلك حاول زيلينيسكي في يوليو الماضي إلغاء القرار القاضي باعتبار مكتب المكافحة هيئة مستقلة، ولكنه فشل في ذلك بسبب الاحتجاجات.
إذا نظرنا إلى مسار تعامل ترامب مع ملف الحرب في أوكرانيا، فإنه يبدو أكثر ميلاً لإنهائها من دون تحفظ عال على الشروط الروسية، وليس أدلّ على ذلك من مخرجات لقائه بزيلينيسكي في البيت الأبيض، عندما قال له "أنت لا تمتلك أوراق ضغط" ، وإذا ربطنا ذلك بحجم التأثير الأميركي على المكتب الوطني لمكافحة الفساد، فإن رواية عدد من الباحثين الروس، التي تعتقد أن واشنطن هي التي حرّكت الملف، وهي التي قد تفتح فرصاً مركّبة لترامب (من الإطاحة بزيلينيسكي إلى تحريك دعاوى قضائية ضد بايدن)، قد تبدو هذه الرواية معقولة إلى حد كبير.
يعتبر مسؤولون روس أنّ انخفاض مستوى الحماسة الأوروبية لإدانة الفضيحة أو التحفظ في طلب المزيد من التحقيق في الأمر هو دليل على تورط مسؤولين أوروبيين في الفساد نفسه.
لا تختلف أوروبا عن واشنطن في القفز عن الفساد، إذا كانت الحاجة السياسية تستدعي ذلك، وإلا لما اعتبر ترامب فساد نتنياهو في السيجار والشمبانيا أمراً سخيفاً، ولكن في أوكرانيا قد يعبّر الموقف من الفساد عن التباين بين الأوروبيين وترامب بشأن آلية الخروج من هذه الحرب.
فهل يستطيع ترامب فرض الرواية على الأوروبيين والدولة العميقة في الولايات المتحدة؟ حينها يكون "فساد أوكرانيا" مخرجاً مناسباً للجميع، فتتوقف الحرب بسقف عال من الشروط الروسية، ولم يُهزَم الغرب، لأنه "انتفضّ الفساد وعاقبه" !