واشنطن في مواجهة صنعاء: نمرٌ من ورق

الولايات المتحدة أبحرت بغرور إلى سواحل اليمن، وفق مخطط يستهدف استنزاف "أنصار الله"، لكنّ تلك الحركة، التي تمتلك مخزون عقيدة يحثّها على الثبات حتى الرمق الأخير، ستتمكن من إجبار واشنطن، في نهاية المطاف، على الاعتراف بفشلها الاستراتيجي.

  • ردُّ صنعاء على السلوك الأميركي ربما هو أشد ما يزعج البيت الأبيض.
    ردُّ صنعاء على السلوك الأميركي ربما هو أشد ما يزعج البيت الأبيض.

عبقرية حركة أنصار الله، كما سائر حركات المقاومة، تكمُن في قدرتها على تحدي القوى العظمى التي يتجنب الجميع إزعاجها أو مخالفة أوامرها، ثمّ إثبات القدرة على تحقيق الانتصار، الذي يعني، وفق التعريف العملي: نيل الاستقلال الحقيقي، ومنع أي جهة خارجية من فرض شروطها أو التحكم في شؤون البلاد الداخلية.

يعيش أهل اليمن اختباراً صعباً، اليوم، مع إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، شن ضربات عنيفة على البلاد، منتصف شهر آذار/مارس الجاري، وكانت الخارجية الأميركية صنفت حركة أنصار الله "منظمة إرهابية عالمية"، مطلع الشهر ذاته، فيما عدّه وزير الخارجية الأميركي، ماركو روبيو، حينها، تنفيذاً لإحدى الوعود الأولى التي قطعها ترامب عند توليه منصبه.

استخدم ترامب لغة شديدة العنف والعجرفة منذ بداية العدوان، حين هدد بـ"أمطار قادمة من جهنم" ستسقط على أبناء اليمن، ثم عاد ليقطع تعهد يقضي بـ"الإبادة التامة" لأعضاء حركة أنصار الله. وبين هذا وذاك كانت حاملة الطائرات الأميركية، كارل فينسون، والمدمرات المرافقة لها، يتم إرسالها إلى الشرق الأوسط، لتصبح حاملة الطائرات الثانية، بعد "هاري أس ترومان" الرابضة قبالة سواحل اليمن المطلة على البحر الأحمر، والتي تم تمديد انتشارها مدة شهر.

ما الأسباب التي حرّضت ترامب على اللجوء إلى هذا المسار؟

أولاً: إيهام الجمهور الأميركي بأنه أكثر قوة من سلَفه جو بايدن، وأنه قادر على الذهاب بحاملات الطائرات الأميركية بعيداً حتى الشرق الأوسط، وشنّ العمليات العسكرية، وحماية أمن "إسرائيل" من جهة، والتحكم في واحد من أهم خطوط الملاحة الدولية، من جهة أخرى.

المثير للجدل أن الشارع الأميركي بالفعل يصدق ترامب، في خطوة تعكس تأثير حالة "الهوس بنموذج القوة"، وهي الحالة التي دفعت كثيرين إلى نسيان الكم الهائل من العمليات العسكرية، التي تم شنّها ضد اليمن طوال عهد "الديمقراطي" بايدن. فهناك، على الأقل، تحالف "حارس الازدهار" الذي قادته واشنطن منذ نهاية عام 2023، والذي شنّ غارات على محافظات صنعاء والحديدة، بداية من كانون الثاني/يناير 2024، حملت اسم "سهام بوسيدون (إله البحار في اليونان القديمة)"، وبلغ عددها نحو 774 غارة حتى الذكرى الأولى لعملية طوفان الأقصى.

ثانياً: تحقيق أهداف اليمين الإسرائيلي، الطامح إلى إشعال المنطقة بأسرها، واستهداف كل ساحات المقاومة التي تقدم دعماً وإسناداً إلى القضية الفلسطينية، إذ يحلُم زعماء أحزاب أقصى اليمين في "تل أبيب" بأن تصبح المنطقة خالية من أي نظام أو حركة سياسية ترفض التطبيع أو تعلن التمرد على أفكار البيت الأبيض، ويحاول ترامب التماهي مع تلك "الأحلام"، وشنّ الهجمات العسكرية على عدد من المواقع، مع توجيه رسائل تحذير متكررة إلى عمود خيمة محور المقاومة في طهران.

ثالثاً: إزعاج القيادة الصينية عبر السيطرة على أحد أهم شرايين التجارة في العالم، وهو مضيق باب المندب، إذ تجني بكين 160 مليار دولار سنوياً من صادراتها عبر ممر البحر الأحمر، ومن خلاله تمر 60% من صادراتها المتوجهة إلى أوروبا. وتخطط الإدارة الأميركية استغلال تلك الورقة أداةَ ضغط على الدولة الصينية في أي مفاوضات مرتقبة.

الموقف اليمني

ردُّ صنعاء على السلوك الأميركي ربما هو أشد ما يزعج البيت الأبيض، فهناك استخفاف واضح بأدوات الحرب النفسية، التي يشنّها ترامب ومعاونوه، واللجوء دوماً إلى الردّ في الميدان. فقبل اندلاع العدوان الأميركي، كان قادة "أنصار الله" يعلنون استئناف العمليات العسكرية ضد السفن الإسرائيلية، التي تعبر منطقة العمليات المعلنة في البحرين العربي والأحمر، رداً على قيام "تل أبيب" بمنع دخول المساعدات لقطاع غزة وإغلاق المعابر.

أمّا مع شروع واشنطن في تنفيذ عدوانها فعلياً، فكانت الصواريخ اليمنية تنجح في اصطياد هدفين:

الهدف الأول، حاملة الطائرات الأميركية وعدد من القطع الحربية في البحر الأحمر، بما في ذلك حاملة الطائرات "يو أس أس هاري ترومان". وتم ذلك عبر إطلاق عدد غير محدد من صواريخ كروز والطائرات المسيرة، إذ جرى تنفيذ أربع هجمات خلال 72 ساعة، واعترف البنتاغون بتلك الهجمات.

الهدف الثاني، الأراضي المحتلة، بحيث طارت الصواريخ والمسيرات اليمنيّة، وعبرت البحر الأحمر، لتسقط داخل "إسرائيل"، وتطورت الأهداف لتصل حتى إلى مطار "بن غوريون"، الذي تم استهدافه بصاروخ فرط صوتي من نوع "فلسطين 2"، الأمر الذي أجبر مئات الآلاف من الإسرائيليين على دخول الملاجئ، ومعهم رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي فضّ اجتماعاً في الكنيست وتوجّه إلى الملجأ، صباح الخميس الماضي.

يأتي هذا ضمن العمليات العسكرية التي تنفّذها القوات المسلحة اليمنية، إسناداً لقطاع غزة، منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، وأعلنت القيادة اليمنية أن تلك العمليات لن تتوقّف مهما استمر العدوان الأميركي، وأنها متواصلة حتى يتمّ إنهاء العدوان على غزة ورفع الحصار عنها.

استعراض أميركي للقوة.. بلا طائل 

العمليات، التي ينفذها الجيش الأميركي ضد أبناء اليمن اليوم، لا تتباين شكلاً أو موضوعاً عن العمليات التي تم تنفيذها على مدار العامين الماضيين، وكلها نتج منها شهداء وجرحى وتخريب لعدد من المنشآت المدنية والعسكرية اليمنيّة، لكنها، في الوقت ذاته، لم تؤدِّ إلى أي نوع من التغيير في الموقف اليمني الداعم للقضية الفلسطينية والمتشبث بخيار المقاومة، كما لم تنجح في ثني أبناء اليمن عن حظر ملاحة السفن الإسرائيلية، أو إطلاق الصواريخ في اتجاه الأراضي المحتلة.

وفقًا لوزارة الدفاع الأميركية، فإن حملة ترامب العسكرية ضد صنعاء تستهدف مجموعة أكبر من الأهداف، التي خططت ضربَها حملةُ بايدن، إذ تشمل مواقع تدريب وخبراء للطائرات المسيرة. ومع ذلك، يحذّر محللون غربيّون من أن التصعيد العسكري قد يؤدي إلى تورط واشنطن في صراع طويل الأمد من دون تحقيق نتائج حاسمة، وخصوصاً أنه لا يترافق مع استراتيجيات دبلوماسية واضحة أو مسار اقتصادي شامل، كما أن الحملة الأخيرة لا تحظى حتى بدعم الحلفاء التقليديين لواشنطن.

من المؤكد أن الولايات المتحدة تمتلك قدرات عسكرية هائلة، بما في ذلك حاملات طائرات وقاذفات استراتيجية وتقنيات استخبارية متقدّمة، لكن لدى اليمنيين، في المقابل، قدرة عالية على الصمود في مواجهة الهجمات الجوية، ولديهم طبيعة جغرافية تجعل من العسير استهدافهم، كما أن واشنطن، على رغم حالة الغرور التي تنتاب ترامب، فإنها تتحاشى استفزاز محور المقاومة إلى الدرجة التي تؤدي إلى فتح جبهات جديدة ضد قواتها وقواعدها العسكرية واستثماراتها التجارية في المنطقة.

وتجلّت القوة العسكرية لأنصار الله في التخلّي عن الأسلحة التقليدية والبدائية، والاعتماد على تكتيكات الحروب غير المتكافئة، أو ما يطلق عليه "الحروب الهجينة"، الأمر الذي أدى إلى تغيير قواعد اللعبة بصورة كاملة، من خلال استخدام الصواريخ البالستية والطائرات من دون طيار، والانتقال من وضع الدفاع إلى الهجوم، إذ استخدم اليمنيون "صاروخ طوفان"، الذي وصل مداه إلى أكثر من 1600 كم، الأمر الذي كشف قدرتهم على الوصول إلى أهداف خارج اليمن.

"العقلاء" داخل الإدارة الأميركية، اليوم، باتوا يخشون النظرة السلبية التي سيتبنّاها كثيرون تجاه الرئيس الأميركي إذا لم تحقق الحملة على اليمن أهدافاً استراتيجية واضحة، مثل وقف الهجمات، أو تقليل ترابط ساحات المقاومة، فالانطباع العام حينها سيكون أنّ ترامب "ثرثار كبير" محض، و"رجل أقوال لا أفعال"، وهؤلاء ينصحون باللجوء إلى خيار الحصار الاقتصادي، لأنه سيكون مجدياً بصورة أكبر من الضربات العسكرية، التي اختبرها بايدن، وقبله عدد من دول المنطقة، ولم تُجْدِ نفعاً.

الولايات المتحدة أبحرت بغرور إلى سواحل اليمن، وفق مخطط يستهدف استنزاف "أنصار الله"، لكنّ تلك الحركة، التي تعتمد أساليب حرب غير نظامية، ولديها مخزون عقيدة يحثّها على الثبات حتى الرمق الأخير، وتملك تضاريسَ جبليّة وعرة، ستتمكن من قلب الآية، وإجبار واشنطن، في نهاية المطاف، على الاعتراف بفشلها الاستراتيجي، والانسحاب من دون تحقيق أي هدف من الأهداف التي تعلنها، بصورة متكررة، منذ بدء العدوان.

المتوقَّع أن الضربات الجوية ستستمر فترة، لكن من دون تحقيق أهداف ملموسة، وهو ما يمثل استنزافاً للقدرات الأميركية، وربما ينتج من ذلك ضغط داخلي من الشارع الأميركي لإنهاء العملية العسكرية، كما حدث في حرب فيتنام في القرن الماضي. ولا يمكن استبعاد أي سيناريوهات في ظل تخبط الإدارة الأميركية، فهي ذاتها، التي كانت تصرّ منذ شهرين تقريباً على مسألة تهجير أبناء غزة، وتعلن مشاريع لتحويل القطاع إلى "ريفييرا الشرق"، ثم تبخّرت كل العناوين، في لحظة، وخبَت النيران، التي أشعلتها تصريحات ترامب في المنطقة.