وسط عجزٍ أميركيّ ونشاط سوري العشائر: لا عودة عن قرار طرد "قسد"

لا يبدو أن "قسد" في وارد تغيير نهجها في التعاطي مع أهل المنطقة أولّاً، كما لا يبدر عن قياتها أيّ نيات جديّة في التواصل مع دمشق في ظلّ ثبات الأخيرة عند ثوابتها الوطنية المتعلّقة بتحرير الأرض واستعادة السيادة والثروات.

  • القيادة الأميركية لم تُطلع أدواتها في الشرق السوريّ على أيّ خطط للانسحاب.
    القيادة الأميركية لم تُطلع أدواتها في الشرق السوريّ على أيّ خطط للانسحاب.

على امتداد الأشهر الأخيرة، وتحديداً منذ آب/أغسطس من العام الماضي، تحوّلت البلدات والقرى في الضفة الشرقية لنهر الفرات، امتداداً من دير الزور إلى محيط مدينة الحسكة، إلى ساحةٍ لمعارك يوميّة بين ما بات يُسمّى "قوات العشائر العربية" من جهة، و"قوات سوريا الديمقراطية" ("قسد") من جهة مقابلة.

ومرّت الاشتباكات بين الطرفين بوتائر متفاوتة، بين تصعيد كبير ومعارك طاحنة، استطاعت قوات العشائر، من خلالها، السيطرة على مساحات كبيرة من المنطقة، قبل أن تستعيد "قسد" أغلبيتها من خلال هجوم كبير مضادّ، وبين هجمات خاطفةٍ متفرقة يشنّها أبناء العشائر على مواقع الميليشيا الكردية في ريف دير الزور الشرقيّ، على وجه الخصوص. لكنّ تصعيداً لافتاً بدأ منذ أواخر شهر شباط/فبراير الفائت، بحيث لا يكاد يمرّ يوم واحد من دون إعلان قوات العشائر قيامها بهجمات على مواقع "قسد"، وتكبيدها خسائر في الأرواح والعتاد. 

اللافت هنا، قبل كلّ شيء، هو الصمت الأميركيّ عن هذا الحريق الملتهب الذي يجري تحت الخيمة التي عملت واشنطن طويلاً على تثبيت أوتادها في الشرق السوريّ. فلا تصريحات سياسية أو عسكرية تواكب الحدث، تصدر عن البنتاغون أو وزارة الخارجية الأميركية، ولا حراك من قيادة قوات الاحتلال من أجل محاولة احتواء الموقف، كأنّ الأمر خرج من بين يدي واشنطن بصورة نهائيّة. 

في المقابل، لم تتأخّر صاحبة الأرض الوطنية، دمشق، ومعها الحلفاء في قوى المقاومة العاملة في الشرق السوريّ، عن التحرك، قولاً وفعلاً، فالتعزيزات العسكرية السورية بدأت الوصول تباعاً إلى الضفة الغربية من نهر الفرات منذ أوائل الشهر الماضي، حتى بلغ الأمر بقيادة "قسد" في القامشلي تصدير تصريحات متتالية تتحدث عن دعم دمشق لمقاتلي القبائل وتسليحهم، ومشاركة القوات السورية في بعض المعارك أو الهجمات التي تنطلق من بلدات وقرى تقع تحت سيطرة القوات الشرعية السورية في الضفة الغربية للفرات، وخصوصاً بعد ظهور قائد قوات العشائر العربية، الشيخ إبراهيم الهفل، في إحدى المضافات القبليّة في العاصمة السورية ( مضافة الشيخ فرحان المرسومي، شيخ قبيلة المراسمة).

وإذ لم تهتم دمشق بنفي تلك الأخبار أو إثباتها، بل اكتفت، كما دوماً، بالتأكيد، على لسان أكثر من مسؤول سياسيّ رفيع، لحقّ السوريين، حكومةً وشعباً، في العمل على تحرير بلادهم من المحتل وأدواته، وأنّ الدولة السورية ماضية في فعل كل ما يقتضيه هذا الأمر، في كل الصعد، فإنّ الشيخ الهفل أكّد، في تصريحاته الأخيرة، مواصلة القتال حتى تحرير الأرض من "قسد".

وتوالت تلك التصريحات على لسان أكثر من ناطقٍ باسم كتائب قوات العشائر ومجموعاتها، وخصوصاً بعد إعلان "قسد"، نهاية الشهر الماضي، بناء أبراج مراقبة على طول الضفة الغربية لنهر الفرات، وتعاقدها بالفعل مع متعهّد بناء (وهو القيادي في "قسد" نفسها، بدر العطا الله) بعقد قيمته 190 ألف دولار، لبناء تلك الأبراج على السرير النهري الذي يمتد من الريف الشمالي عند بلدة "جديد عكيدات"، وصولاً إلى بلدة "الباعوز" عند الحدود السورية – العراقية شرقاً.

وأعلنت قيادة "قسد" أنّ الغرض من بناء هذه الأبراج، هو التصدي للهجمات التي يشنّها مقاتلو العشائر. وبعد هذا الإعلان، ردّ مصدر مقرّب من الشيخ الهفل بأنّ الهجمات سوف تزداد وتتصاعد بصورة يوميّة لتشمل كل مناطق سيطرة الميليشيات الكردية، وأنّ "لا رجعة إلى الوراء أبداً، لأنّ الأمر بات مسألة حياة أو موت".

يأتي ردّ "قسد" على الهجمات التي تشنّها قوات العشائر، بتنفيذ مداهمات في بعض القرى شرقيّ الفرات، واعتقال أشخاص واقتيادهم إلى جهات مجهولة، بعد اتّهامهم بـ "العلاقة بالنظام السوري"، أو الارتباط بتنظيم "داعش" الإرهابيّ، وهي تهمٌ يسخر منها أهل القرى والبلدات، الذين يتّهمون "قسد" بانتهاك حقوقهم والانتقام من شبانهم بسبب الانتفاضة العشائرية ضدها. وشاركت قوات الاحتلال الأميركيّ، قبل أسبوعين من الآن، بواحدة من تلك المداهمات، بحيث نفّذت إلى جانب القوات الكردية إنزالاً جويّاً في قرية "الحريجي"، الواقعة في الريف الشماليّ لدير الزور، وطوّقت المنطقة واعتقلت تسعة أشخاص من عائلة واحدة (من آل الدهش) بتهمة الارتباط بتنظيم "داعش".

وردّت قوات العشائر على الفور بهجوم كبير على موقع عسكريّ لـ "قسد" في جبل "البصيرة" شرقيّ دير الزور، تلتها عدة هجمات على نقاط عسكرية تابعة لـ "قسد" في بلدات سويدان جزيرة، والشعفة، والطيانة، والشحيل، والكشمة، والبصيرة، وذيبان، والواقعة كلها في ريف دير الزور الشرقيّ، وعبر هجومين على بلدتي الصور والعزبة في ريف دير الزور الشماليّ، تمكّنت خلالها من أسر عنصرين من قوات "الكوماندوس" التابعة لـ "قسد.

كما نفّذت عدة كمائن اغتالت من خلالها عدداً من مقاتلي "قسد" في المنطقة. وهو أسلوب باتت قوات العشائر تستخدمه كثيراً في الآونة الأخيرة، وتمكنت بالفعل من قتل عدد من قيادات "قسد" العسكرية في المنطقة عن طريق تلك الكمائن، أو من خلال عبوات ناسفة يتمّ زرعها في طرق دوريات "قسد". 

وعلى الرغم من عدم مشاركتها أو مساندتها لقوات "قسد" في مواجهة قوات العشائر، فإنّ قوات الاحتلال الأميركيّ بدأت تعزيز مواقعها خلال الأسبوع الماضي، بحيث وصلت أكثر من 40 شاحنة محمّلة بالعتاد والذخيرة والأجهزة اللوجستية إلى قاعدة "الشدّادي" في الريف الجنوبيّ لمحافظة الحسكة، قادمة من شمالي العراق، كما وصلت طائرة شحن عسكرية تحمل معدّات وتجهيزات طبيّة وعسكرية إلى قاعدة "تلّ بيدر" في ريف الحسكة.

ووصلت، يوم الخميس الفائت، قافلة معدّات عسكرية ولوجستية قادمة من جنوبيّ محافظة الحسكة، توزّعت بين قاعدة "حقل الكونيكو" وقاعدة "حقل العمر" في ريف دير الزور الشرقيّ، تلاها بعد ساعات قليلة فقط وصول طائرة شحن من نوع "شينوك" ترافقها طائرات حربية، أفرغت حمولتها في قاعدتي "كونيكو" و"العمر" أيضاً، بينما يواصل طيران الاستطلاع الأميركي التحليق في محيط تلك القواعد وفي سماء القرى والبلدات في ريف دير الزور الشرقيّ، تحسّباً لهجمات محتملة، وخصوصاً بعد وصول تعزيزات عسكرية سورية إلى المنطقة، وبعد بدء قوات العشائر استهداف صهاريج النفط المسروق خلال الأيام الأخيرة.

لا يبدو أن "قسد" في وارد تغيير نهجها في التعاطي مع أهل المنطقة أولّاً، كما لا يبدر عن قياتها أيّ نيات جديّة في التواصل مع دمشق في ظلّ ثبات الأخيرة عند ثوابتها الوطنية المتعلّقة بتحرير الأرض واستعادة السيادة والثروات.

ومن الواضح أنّ القيادة الأميركية لم تُطلع أدواتها في الشرق السوريّ على أيّ خطط للانسحاب. لذلك، تتابع قوات "قسد" انتهاج الأسلوب العسكريّ في التعاطي مع انتفاضة العشائر، وقامت قواتها المتمركزة في بلدة "الشحيل" في الريف الشرقي لدير الزور، يوم الجمعة الفائت، بقصفٍ عشوائيّ بالرشاشات الثقيلة لبلدة "بقرص" المقابلة، الأمر الذي استدعى ردّاً عنيفاً من قوات العشائر التي قصفت بقذائف الهاون نقاط "قسد" في بلدتيّ "الشحيل" و"الحوائج".

والملاحَظ هنا أنّ المعارك والهجومات آخذة بالتوسّع، سواء على صعيد المواقع الجديدة التي يجري استهدافها من جانب قوات العشائر يوميّاً، أو على مستوى نوع الأسلحة المستخدمة من الطرفين، بحيث دخل السلاح الثقيل ميدان المعارك في الأسبوع الأخير، وبلغ الأمر استهداف القرى بالقذائف الصاروخية من جانب "قسد"، كما جرى في قرية "بقرص" يوم الجمعة. 

لا توجد أيّ بوادر للحلّ أو التهدئة بين الطرفين، ولا حتى محاولات من قوات الاحتلال الأميركيّ للتدخّل وإعلان هدنة، كما حدث في الأسابيع الأولى للقتال في العام الماضي. فواشنطن ترى أنّ دمشق استطاعت استمالة قيادات العشائر المنتفضة في المنطقة، وأن الأمر بات في يدها تماماً.

لذلك، تحاول قوات الاحتلال الأميركيّ التمترس داخل قواعدها وحماية جنودها وقوافل نهبها، بينما تحاول التوصل إلى تسوية كبرى في المنطقة، تبدأ من عند معركة "طوفان الأقصى" المجيدة التي قلبت كل الموازين في وجه واشنطن وأدواتها في المنطقة والعالم، لتنتهي عند العراق والشرق السوريّ. ولعلّ هذا الصمت المدوّي عند أطراف ميادين المعارك بين العشائر و"قسد"، هو أولى إشارات التخلّي الأميركيّ عن "قسد"، لكن قيادة الأخيرة لم تقرّر استيعاب الأمر بعد.