أمين معلوف وكتابة التاريخ من منظور إيديولوجي

يكرّس معلوف نفسه كأحد المؤرخين لليمين اللبناني، ويدافع عن سرديته، ورأيه في الحرب اللبنانية ويظهّر مقاربته للقضية الفلسطينية، التي ينتقد ثورتها بشكل دائم.

  • ليس أمين معلوف أول المطبعين ثقافياً مع إسرائيل ولن يكون الأخير
    أمين معلوف روائي لبناني فرنسي منحاز للغرب والليبرالية الاستعمارية.

توطئة لا بدّ منها

لقد انتابني، وأنا اقرأ كتاب أمين معلوف الجديد "غرق الحضارات"، شعوران: واحد بالغُبن، لأنّني كنتُ معجبًا بكتاباته الروائية، منذ "صخرة طانيوس"، وكنتُ مهتمًا كثيرًا بمتابعة نتاجه السردي، وأسلوبه الجميل في السرد والحكي. وآخر بالفرح، لأنني اكتشفتُ أنّ الكاتب يحملُ، وبشكل واضح، رؤية سياسية منحازة، جهد عبر كتابه، الحائز فيه على جائزة "أوجوردوي 2019" (Prix Aujourd’hui 2019) على تظهيرها، والدفاع عنها، وطمر كل الحقائق التي تخالفها. وأنني صرتُ على قناعة، بعد كل ما قرأته في العقود الأربعة الماضية، من كتب تاريخية وسياسية وفكرية وأدبية، أنّ جلّ ما وصلنا، ويصلنا، يحتاج إلى تدقيق وتأمّل ومراجعة وتقاطع، لأنّ الخلفية الأيديولوجية والسياسية تهيمن على النص، وأنّ ما يحدث أمامنا، وعايشناه بتفاصيله اليومية؛ يُزَوّر أمام ناظرينا.

أحببتُ أن أستهل مقالتي بهذه المقدمة، عن النسخة العربية من كتاب الكاتب اللبناني الفرنسي أمين معلوف، "غرق الحضارات"، التي صدرت عن دار الفارابي في لبنان، ونقلتها إلى العربية نهلة بيضون (أيلول / سبتمبر 2019) لأنني قراتُ ما أذهلني من تزوير للحقائق، وحشر لرأي الكاتب السياسي في العديد من القضايا التي تحتمل وجهات نظر عديدة، وإصراره على إقحام رأيه في أمور سياسية وفكرية ما زالت مثار جدل بين المتابعين. 

وتفاجأتُ أنّ معلوف، وهو الكاتب المتمرّس والمتفرغ، كان باستطاعته أن يمرّر ما يريد بأسلوب أقل وضوحًا، وأقل مباشرةً، وكأني به يتوجه في كتابه إلى مجموعة من القراء الذين يجهلون التاريخ القريب، والواقع، وهو يحاول قدر ما يستطيع أن ينافح عن الليبرالية، ويشنّ هجومًا كاسحًا على كل الأفكار التي تخالفها. وأراد أن يسجّل موقفًا، أو يدلي بدلوه أيضًا في الدفاع عن الليبرالية، متماهيًا ومتماشيًا مع سرديتي صمويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما عن صراع الحضارات ونهاية التاريخ، ولكن بأسلوب خطابي شديد الوضوح والانحياز.

ولأنّ "غرق الحضارات" كتاب فيه من الموضوعات الشائكة الكثير، ومن القضايا الإشكالية ما يثير اللعاب لنقاش مستفيض، ومن الرؤى ما يحتاج إلى أبحاث لمقاربتها ونقاشها والرد على مقولاتها، ولأنّ بضعة كتّاب كتبوا عنه أيضًا؛ فإنني سأقصر مقالتي النقدية عن هذا الكتاب بثلاث قضايا: الأولى عن نقد معلوف للرئيس المصري جمال عبد الناصر، والثانية الحرب اللبنانية، واتفاق القاهرة ودور منظمة التحرير الفلسطينية، والثالثة عن الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي. 

جمال عبد الناصر الذي حفر قبر المشرق

منذ بداية الكتاب ينطلق معلوف للكلام على مصر قبل الثورة، كان ذلك كمقدمة للهجوم اللاذع على الرئيس جمال عبد الناصر، من خلفية ذاتية، انتقامية، وربما كيدية، وتحميل الرئيس المصري كل التبعات ما بعد هزيمة العام 1967، حتى يخال القارئ انّ معلوف كتب هذا الكتاب للانتقام من جمال عبد الناصر. يعرفنا معلوف إلى ظروف ولادته وتزامنها مع أحداث مهمة في المنطقة، وإلى منزل العائلة التي كان لها حظوة أيام الملك فاروق، قبل الانقلاب عليه من قبل الضباط الأحرار، الذين كانوا موضع سخط كبير من الكاتب في النصف الأول من الكتاب، وبشكل خاص البكباشي، الذي تجرّأ على تحدي الهيمنة الغربية.  

يقول معلوف: "لم تستبشر أسرتي خيرًا بصعود ناصر السريع، فالرجل القوي الجديد راح يؤكد أن على الشعب المصري أن يستعيد من الرعايا الأجانب السيطرة على أراضيه وموارده ومصيره... كان أهلي يتحسرون على فردوسهم الضائع، ومكانة عبد الناصر ترتقي"، ص 40.  ثم يأسف لإعلان الرئيس المصري الجديد موت الكوزموبوليتية والليبرالية، "واتخذ جملة من التدابير التي تهدف إلى طرد البريطانيين والفرنسيين واليهود"، ص41.

ونختم الجزء المتعلق بعبد الناصر بقول معلوف: "لقد دفعت ديماغوجيته، القومية نحو الهاوية، وكل العالم العربي معه... مع أنه بلا جدال، أحد حفاري قبر المشرق الذي كنتُ أحب"، ص 45-46.

معلوف كأحد المدافعين عن "الجبهة اللبنانية"

    يكرّس معلوف نفسه كأحد المؤرخين لليمين اللبناني، ويدافع عن سرديته، ورأيه في الحرب اللبنانية ويتكلم عن اتفاق القاهرة، ويظهّر مقاربته للقضية الفلسطينية، التي ينتقد ثورتها بشكل دائم، وبانحياز واضح، ولا يأتي على ذكر مجازر الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، وحتى عند حديثه عن مجزرة صبرا وشاتيلا، مرّ ليقول إنّ إسرائيليين تظاهروا ضدها في "الدولة العبرية"، وهذا فعل ديمقراطي، ولم يأتِ على ذكر "القوات اللبنانية" وحزب الكتائب اللذين ارتكبا هذه المجزرة.

وعندما تكلم عن "الجبهة اللبنانية" واستدعائها لسوريا لدخول لبنان قال: "ذهب بعض القادة اللبنانيين يطلبون من دمشق"، (ص 160)، مجهّلًا أسماءهم وانتماءاتهم وأحزابهم وطوائفهم.

أزمة النفط 1973، واغتيال الملك فيصل

يمر معلوف على الأزمة ويقاربها فقط من منظور ما أثرت فيه على الدول الغربية، لم يذكر مجرد ذكر قضية اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز في العام 1975، ولأن الولايات المتحدة هي المتهمة باغتيال الملك السعودي الراحل؛ وبرأيي، فإنّ تغييب هذه الحادثة المفصلية، كان مقصودًا. وبإمكاننا ان نتصور عدد الصفحات التي كان سيفردها أمين معلوف، لو أن الاتحاد السوفياتي أو الرئيس عبدالناصر، هم من قاموا باغتياله.

فهل يُعقل أن يستغرق معلوف في تفاصيل كثيرة، وأحيانًا يكرر هذه الأحداث في عدد من محطات الكتاب التاريخية، ولا يأتي على ذكر حادثة اغتيال ملك لدولة كبرى في الإقليم؟

آدم سميث واليد الخفية

     يقارن معلوف بين رؤية آدم سميث المنادية بالرأسمالية، والرؤية الاشتراكية، ويفخر بنجاح الأولى وسقوط الثانية، بل ويحيل النجاح الى اليد الإلهية، وموافقتها على الأسلوب الذي تعمل به الرأسمالية، في مقابل النظام الموجّه (الملحد) الذي تعمل به الاشتراكية (ص 242). ما يعني أن الله منحاز للرأسمالية، ولذلك هو أسقط الاشتراكية وغضب عليها. يضيف معلوف: "إن تعاليم آدم سميث تسهم اليوم، أكثر من الماضي، في تشكيل عالمنا، وليس في ما يتعلق بدور الدولة في الحياة الاقتصادية فحسب: فللإيمان بوجود "يد خفية" نتائج في ميادين كثيرة أخرى"، ص 242.

أهل الجنوب سبب تخلفه وليس الاستعمار

يضع معلوف اللوم دائمًا على شعوب المشرق العربي وأنظمتها، وشعوب إفريقيا، ويشفق عليها من الظلم اللاحق بها من قبل الأنظمة، ولكن لم نرَه مرةً يحمّل مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد المستعمَرة الى الاستعمار نفسه، وتجاهل بشكل سافر قتل الفرنسيين لمليون ونصف المليون من الشعب الجزائري الذي ثار على الاستعمار.

وبالتأكيد فإنّ تجاهل معلوف لنهب الاستعمار ثروات المشرق وإفريقيا، وحتى دول القارة الأميركية الفقيرة، قافزًا على التدخلات والاجتياحات الغربية والأطلسية لهذه الدول وتدميرها وتفتيتها، هو فعلٌ مقصود. ولا يأتي بتاتًا على ذكر دولة الاحتلال الإسرائيلي ودورها في تفتيت المنطقة، وكأنها تفصيل لا تحتاج الإشارة إليه، أي أهمية "الأحزان المتكررة للمجتمعات العربية التي تسعى مرة أو مرتين في كل جيل، أن تنطلق أو تحلّق قليلًا، ثم تهوي بكل ثقلها مثل الصقور المهيضة الأجنحة"، ص 264.

معلوف والحضارة الغربية

يبدي معلوف إعجابًا شديدًا بالغرب وبحضارته وقيمه، ولا يحيل بتاتًا غرق الحضارات الذي عنون به كتابه إلى توحش هذا الغرب أيضًا، وهو الذي أنتج حربين عالميتين، ذهب ضحيتهما عشرات الملايين من الأوروبيين، ودمّر أوروبا، ولكنه طال بنقده فقط ألمانيا النازية. وبدا مزهوًا بثورة المحافظين التي قادها كلُّ من مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، ويحمل بكل ما أوتي على الاتحاد السوفياتي وسياساته وعقيدته، متجاوزًا حروب الولايات المتحدة على العالم على مدى أكثر من سبعين عامًا.

بل يشعر القارئ وكأنّ معلوف كرّس كتابه لتمجيد الرأسمالية والليبرالية، ولنقد الاشتراكية وذمّها وتوهينها، ولكنه وهو يتباكى على الحضارة الإنسانية، وتجاوزات الدول والديكتاتوريات، لا يكّلف نفسه المرور على حصار العراق لأكثر من أحد عشر عامًا، وتجويع الشعب العراقي وقتل أطفاله بحجة حصار النظام، ولا يمرّ على اجتياح هذا البلد العربي بذرائع كاذبة، اعترف فيها وزير خارجية الإمبراطورية الأميركية كولن باول لاحقًا، ورئيس وزراء بريطانيا حينها توني بلير التي بالغ الكاتب في مدحها، واعتبارها قدوة البشر والإنسانية. فأن يتم قتل مليوني عراقي ودفنهم تحت القنابل الذكية للدولة الأكثر ديمقراطية في العالم، وتعذيب السجناء العراة بطرق وحشية مبتكرة، تُستخدم فيها الكلاب، وصور السيلفي للجنديات الأميركيات في سجن أبو غريب وغيره، وتدمير الدولة العراقية والجيش العراقي والبنية التحتية، ونهب متحف بغداد، فإنّ هذا لا يستحق الذكر عند استحضار القيم الحضارية وغرق الحضارات. كان همّ الكاتب فقط الإشارة دائمًا الى نظام الاتحاد السوفياتي القمعي والوحشي، غير الديمقراطي الذي يكمّ الأفواه. ولكنه يتجاهل أيضًا التمييز العنصري في أميركا، وقمع الملوّنين، وإطلاق أحكام قضائية لعشرات السنين على مواطنين ومهاجرين بسبب صور موضوعة على الهواتف النقالة أو الحواسيب، بحجة دعم الإرهاب. ولا يذكر كاتبنا تجاوزات الأنظمة الحليفة لواشنطن ولو عرضًا لحقوق الإنسان، لأنها لا تخالف أوامر الدولة "الديمقراطية الأعرق" في العالم. لم يؤرق خوفه على الحضارة والديمقراطية سوى ثورة عبد الناصر و"الضباط الأحرار".

يحتفل معلوف بالكاتب جورج أورويل وبروايته المشهورة "1984" التي تتنبّأ بمستقبل العالم، وأوامر الأخ الأكبر، ويوجه سهامه على الرئيس السوفياتي جوزيف ستالين، كونه المعني بالرواية، وكونه الشخصية الديكتاتورية التي تعمل على تقويض الديمقراطية في العالم، وكونه يمثّل الأنظمة التوتاليتارية "ذلك هو القلق الذي نقله إلينا أورويل، من خلال مؤلفاته، ويظل هذا القلق للأسف مبررًا تمامًا، إن لم يكن بسبب الكابوس التوتاليتاري الذي كان يقضّ مضجعه"، ص 297.

الكتاب مليء بالرؤى الذاتية لأحداث تاريخية عاصرناها وعشنا تفاصيلها، ولكنني في الوقت نفسه، أحزن على كاتب بمستوى أمين معلوف أن يصل إلى هذا المستوى من الكتابة الموجّهة والمؤدلجة، ويتحوّل إلى بوقٍ للغرب وللاستعمار. وأتمنى أن يكون هذا الكتاب سقطة ظرفية لكاتب مهم تابعنا نتاجه لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن.