أي دور للإبداع والفنون في الثورة السودانية؟

تبرز كإحدى أهم الديناميات التي ما زالت قادرة على إبقاء السودانيين في الشوارع.. أي دور للفنون في الثورة السودانية؟

  • الإبداع والفنون كعوامل محفّزة للثورة السودانية
    الإبداع والفنون كعوامل محفّزة للثورة السودانية

الثورة على النظام العسكري في السودان ما زالت مستمرة. هناك عوامل عدّة تضمن لهذا الحراك الصمود أمام آلة القمع الحكومي، وفي هذا الصدد تبرز الفنون كإحدى أهم الديناميات التي ما تزال قادرةً على إبقاء السودانيين في الشوارع.

لم تكن الفنون والإبداعات حاضرةً فقط في الهبّة الحالية ضد الجنرال عبد الفتاح البرهان (25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 – حتى تاريخه)، وإنّما حضرت كذلك إبّان الثورة التي أطاحت الرئيس عمر حسن البشير (30 حزيران/يونيو 1989 – 11 نيسان/أبريل 2019)، كما كانت حاضرة كذلك بكامل الزخم في الفعاليات، المساندة والمحتجّة على حدٍّ سواء، على فترة حكم المدنيين المُجهضة (17 آب/أغسطس 2019 – 25 تشرين الأول/أكتوبر  2021).

الهتاف

يظلّ الهتاف أحد أكثر أسلحة الثورة الماضية والحاسمة، خاصّة وإن تمّ ذلك بشكل جماعي متناغم.

وتفرّدت الثورة السودانية بقائمة طويلة من الهتافات، التي طالما ألهبت الحماس في نفوس المحتجين، وثبّتت أقدامهم في الميدان، رغم تطاير الرصاص أحياناً.

إبّان الثورة ضد البشير، برز هتاف "تسقط بس" رفضاً لكافة التسويات، واليوم يبرز هتاف "الشعب شعب أقوى... والردّة مستحيلة"، لتبيان إصرار المتظاهرين على إزاحة السلطة العسكرية.

أما أروع الهتافات فهي التي تجيء وليدة اللحظة، وللتدليل على ذلك برز هتاف "يا عنصر ومغرور كل البلد دارفور"، لصدِّ تهمة التخريب التي حاول البشير إلصاقها بأهالي إقليم دارفور، الواقع غربيّ البلاد.

وفي الموجة الثورية الجديدة، تحوّلت المواكب المنادية بعودة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى قيادة الحكومة المدنية، بشعارات من شاكلة "بالعافية.. بالذوق.. ح نجيبك يا حمدوك"1، إلى التنديد بموقفه المتماهي مع الجنرال عبد الفتاح البرهان، عقب تسوية 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، وتمَّ خلالها إنزال صوره ورفع هتاف "حمدوك النَّي.. الشارع حيّ"2.

الكوميديا

رغم سقوط عدد كبير من الضحايا، وسحابة الغاز المُسيل للدموع التي تحوط جغرافيا الاحتجاجات في غالب الأحيان، لا يكفّ المحتجون عن إنتاج الكوميديا والقفشات. إنّه "الضحك في الزمن الصعب".

من المواقف اللطيفة التي وثّقتها الكاميرات انخراط عضو مجلس السيادة المعزول، محمد حسن التعايشي، في نقاش مع بعض المحتجين بشأن أداء الحكومة السابقة، قبيل انطلاق أحد المواكب. يومذاك تدخّل شابّ يافع لينهي ذلك النّقاش، مذكِّراً بموعد الموكب، قائلاً: "لو قعدنا مع الزّول دا، الموكب بيفوتنا"3.

أما الموقف الأكثر طرافة، فكان بإطلاق تسمية "مليونية الشواحن" على مواكب 25 كانون الأول/ديسمبر من العام الفائت، وتضمّنت دعوة ساخرة لتسليم شواحن الهواتف النقالة إلى العسكر، احتجاجاً على حوادث نهب الهواتف التي تعرض لها المشاركون في مواكب 19 كانون الأول/ديسمبر.

اللافتات والرايات

  • الإبداع والفنون كعوامل محفّزة للثورة السودانية
    الإبداع والفنون كعوامل محفّزة للثورة السودانية

في كلّ موكب يجد المصوّرون طائفة كبيرة من الشعارات واللافتات ذات الوقع والأثر، التي تشبه الثورة السودانية فرادة واستمراراً وخلوداً في الذاكرة الوطنية.

وتتحوّل كثير من هذه اللافتات النابعة في العادة من شعور ثوري فرداني إلى الحال الجماعية، بتبنّيها من قبل المحتجّين في المواكب اللاحقة، وتدويرها في صورةِ مشاركات لا نهائية في مواقع التواصل الاجتماعي.

أعادت الثورة السودانية للعلم الوطني ألقه المفقود، وباتت أعلام السودان (قديمها وحديثها)4 زيّاً للمحتجين، وعباءات للرجال والنساء المنخرطين في الحراك الثوري، وعلامة للسمت المقاوم، ما حوّلها - وهي الرمز الوطني - إلى تهمة يترصّد بها عناصر الأمن المحتجين في الشوارع، لتوقيفهم وإيداعهم داخل المعتقلات.

ومع رايات الوطن، يرفع المحتجون رايات قتلاهم، لإبقاء ذكراهم متّقدة في نفوسهم، يتضح ذلك في شعارهم الأثير "شهدانا ما ماتوا.. عايشين مع الثوار"، والأهم ضمان الاقتصاص من قتلتهم في شعار لا يقل تصميماً: "الدم قصاد الدم.. ما بنقبل الدِّيِّة".

مسرح

تعتبر احتجاجات السودان مسرحاً في الهواء الطلق، يتضمّن الحواريات المرتجلة - وبعضها بين المحتجين والعسكر - عن أهمية الدولة المدنية لكافة فئات الشعب، بما في ذلك جيشهم الوطني.

سنجد كذلك كرنفالاً من الأزياء، بما في ذلك الأزياء الوطنية الخليطة مع آخر صيحات الموضة، وصولاً إلى ظهور "سبايدرمان" على بعد أمتار من القصر الرئاسي.

هناك أيضاً شابات في عمر الزهور تحملن الدفوف لبث الحماس في النفوس، وبعض الشباب في الخطوط الأمامية للمواجهات، يستخدمون النوافذ القديمة والبراميل الفارغة كدروعٍ واقية. وللمفارقة فإنّ آخرين ضمن ذات المشهد يختبئون خلف أوراق الكرتون العاجزة عن حمايتهم من أيّ شيء، ناهيك عن حمايتهم من الرصاص الحي. 

وفي المتاريس التي تنصب أيام المواكب، وأيام الدعوات إلى العصيان المدني، بهدف تعطيل ناقلات الجنود، ستلتقيك شابة تعزف الكمان، وشباب يرتشفون الشاي أو يلعبون "الليدو" بهواتفهم النقالة، وخلاف ذلك من أشكال المقاومة السلمية المتفردة. 

الأغاني والأشعار

رفدت الثورة المكتبة السودانية بعدد كبير من الأغاني الرائعة، التي خطّها شعراء شباب برزوا في هذه المرحلة. ولعلَّ الأبرز في هذا السياق أغنية بعنوان "أدّانا روح"، للشاعر محمد الشيخ، التي أبدع المطرب محمد الكناني في غنائها، لتتحول بعض كلماتها إلى هتافات في الشوارع.

وأحيت الثورة كذلك نوعية جديدة من الغناء، كأغنية "الراب"، ويتصدر هذا النوع من الأغاني أيمن ماو بأغنيته الشهيرة "جنجويد رباطة"6، وهي أغنية تذمّ مليشيا "الجنجويد"، التي أذاقت أهالي دارفور الأمرّين أيام الحرب الأهلية. 

يشدِّد الباحث المتخصص في الفنون، حسام الزين، على أهمية الإبداع والفنون كعنصر حاسم في استمرار جذوة الاحتجاجات الشعبية ذات الطابع السلمي.

ويقول الزين في حديث مع "الميادين الثقافية": "صحيح إنّ الرغبة في التغيير هي العامل الحاسم في خروج المتظاهرين السلميين إلى الشوارع، لكنّ الفنون بأشكالها المختلفة هي ترس الثورة ضد القمع المفرط، والإحباط الناتج عن تساقط القتلى، وسقوط السياسيين في مستنقع التسويات".

وفي السياق ذاته، يوضح الصحفي المتابع لمسار الثورة السودانية، صالح الشيخ، لــ "الميادين الثقافية"، أنّ: "الفنون المُصاحبة للثورة بأشكالها المختلفة هي الحائل دون انزلاق الشارع إلى مربّع العنف، كما تُعدُّ أحد أهم ممسكات اللحمة الوطنية في ظل سيادة خطاب الاستقطاب الحادّ حالياً، الذي وصل إلى حدِّ ركون السلطة لرجالات القبائل في بحثها الدؤوب عن الدعم".

***

1 نجيبك: نأتي بك 

2 الني.. النيئ، وهي دلالة على عدم اشتداد العود

3 قعدنا: جلسنا، الزول: الشخص، دا: هذا، بيفوتنا: لن ندركه

4 تم تغيير ألوان علم السودان القديم، على يد الجنرال جعفر النميري في العام 1970 ليحاكي أعلام الدول العربية

5 أدانا: أعطانا

6 رباطة: عصابات سطو ونهب