"احتضار الفرس" لخليل صويلح: من يملكُ الحقّ في كتابةِ الحكاية؟

كمن يسير على درب الآلام، مجللاً بالمآسي، يعود الكاتب لتطالعه مدينة تدمر، ومدرجها الأثري ومعبد بل الشهير، من غير أن تمنحه تلك الأمكنة سوى ذكرياتِ اقتحام تنظيم "داعش" لساحاتها.

  • رواية
    رواية "احتضار الفرس" للروائي السوري خليل صويلح.

يبدو الجانب الروائي لرواية احتضار الفرس (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2022) مثيراً للاهتمام، ذلك أن كاتبها خليل صويلح اعتمد في عرض أفكاره على مجموعة من التناقضات والاستعارات الواقعية لأحوالٍ حدثت بالفعل، وأخرى تُعنى بكتبٍ عاصرت مراحل حياته حتى وصوله مدينة دمشق، حيث فككت الحربُ أوصال الحياة، لتكون العتبة بشعرٍ لأبي تمام "لا أنتَ أنتَ ولا الديارُ ديارُ" بمثابة تكريسٍ لاغتراب الكاتبٍ  صحبة ذاكرةٍ ملأى بما لا يُنسى.

"كان أقصى ما حلم به الأب، ظهيرة ذلك اليوم من أيلول(سبتمبر) 2020 أن يصل جثمان ابنه كاملاً من إحدى جبهات القتال، وأن يدفنه على عجل." 

من هنا تحجز الروايةُ مكاناً لقارئ يتلمس آثار الحياة العالقةً خلف كواليس الحرب، بقصديةٍ ترفضُ العنف، وتشكل موقفاً مناهضاً للاضطهاد والتجني الملازم للتطرف الديني. هو تفكيك سردي لحقبةٍ من تاريخ البلاد؛ حقبةٌ شكلت منعطفاتها الفائرة مَعيناً لا يستهان به لروائي يبحث عن ما يُسمِعُ أصوات الـتأوهات في الصدور، ويمنح الصوت لمن أُبيدُوا تحت ستار القهر والعنف.

وبعيداً عن صخب الحرب ومروياتها، نرى بطل الحكاية في طريقه إلى قريته شرق البلاد، مراهناً على حياته في سبيل زيارة خاطفة إلى قبر والدته. وهنا يظهر كمن يخطو على حبل فوق بركان. فالقتلة واللصوص منتشرون، وطرقات السفر البرية ملأى بحواجز تفتك بالجميع. هكذا وسط حمى تسكن العالم من حوله، نعاين حزنه وغضبه، وذاك أقصى ما يمكن له أن يمهرَ سطور حكايته. فالراوي يبدو معزولاً، وهو في الوقت ذاتهِ يشتبك بما يجري حوله، وكأنه لا يلوِ على أمر سوى التجوال والرثاء لحال البلاد. إلا أن شغفه بالبشر يمنح الحياة لصوته. وكثيراً ما يترددون عليه فيما يشبه الخيال، موتى وأحياء، يعكسون وفقاً لترددهم غير المنتظم مسرحياتٍ وأعمالاً عاش على وقعها الكاتب وأسس بها عالمه.

إذن تعود الحكاية بالراوي من العاصمة إلى مسقط الرأس في ريف الحسكة. هكذا موثقاً ذاكرة الخراب، من مخيم الهول شرق المدينة، إلى مقابرَ جماعية في ريفها الشمالي، يتتبع خطوط الحكاية كمن يمهر الذاكرة بالألم، ويفتح الأبواب على جرح اشتعال البلاد وتمزقها وبعثرة المصائر فيها. 

مستعيداً في أثناء رحلته ما يحيل إلى قصة "بيدرو بارامو" للكاتب المكسيكي خوان رولفو، بدءاً من مشهد الأب الذي يدفن ما بقي من جسد ابنه تحت شجرة الزيتون: "فهو يعلم جيداً أن كومة الأعضاء التي جُمعَت كيفما اتفق داخل التابوت، لا تحمل أي علامة ترشد من سيراه عن كثب أنه المجنّد حسن علي دياب، من سلاح المشاة، فيما عدا الوثائق المرفقة التي وقع عليها الأب بأصابع مرتجفة بأنه استلم جثمان ابنه وفق الأصول".

يفطن الراوي إلى درجة التشابه مع الرواية التي وضعها عرضاً في حقيبته، ومع ما جرى معه، من جهة عودة بيدرو بارامو إلى مسقط رأسه حاملاً صورة أمه، في حين يسافر الراوي في احتضار الفرس من غير أن يملك صورة واحدة لوالدته. ويتنبّهُ لخلوّه مما يمكن أن يخدر الذاكرة أو يُخمد شوقه لاستعادة تفاصيلها. إذن نمسي أمام راوٍ فقدَ بلاده وفقدَ أمه، وهنا يعيث التيه بسطوته في فضاءٍ لم يعد كما كان، ومدنٍ تئن، ومأساةٍ ترصد الأحوال متماهيةً مع روايات صاغت عالم الكاتب وسقطت على واقعه. هكذا مستحضراً أحداثاً وشخوصاً، وكنائس مدمرة، وقرى آشورية استحالت أنقاضاً. إلى جانب سائق كردي يحلّق لمجرد حرية الاستماع إلى أغانٍ كردية. وصولاً إلى قريته، حيث يرصد بعد غيابٍ طويلٍ ما فعلته الحرب، مستعيداً مأساة سيطرة تنظيم "داعش" عليها. هكذا يتوجه إلى زيارة قبر الأم، وهناك تثير مشاهدة دفن أسرة جثمانَ ابنها المشوّه ذكرى قصة وصلته عبر البريد الالكتروني. هي قصة تحمل جثماناً بلا رأسٍ، بما يخلط المشاهد لصالح الخيال الذي لا مآل له إلا أن يتجسد في الواقع. 

وكمن يسير على درب الآلام، مجللاً بالمآسي، يعود الكاتب لتطالعه مدينة تدمر، ومدرجها الأثري ومعبد بل الشهير، من غير أن تمنحه تلك الأمكنة سوى ذكرياتِ اقتحام تنظيم "داعش" لساحاتها، ومأساة قطع الرؤوس وتشريعات إقامة الحد على الكفرة، وصولاً إلى حادثة إعدام عالم الآثار خالد الأسعد -المعروف بحارس المدينة القديمة- بعد أن نجح في إنقاذ تماثيلها ونوادرها ليختتم مصيرَه الموتُ. إذن نمسي أمام مدنٍ منكوبة، وعلماءٍ مقطوعي الرأس. أرتالٌ من جنودٍ استحالت جثثاً مبتورة، وفضاء روائي لم يغادرهُ الموت، ليختمه الكاتب برحلة العودة برفقة زوجٍ يسافر لعلاج زوجته، ويقرر الهبوط عند أول حاجز عسكري من غير أن يصدق الموت نفسه.

لن نقع على أي حالٍ على إجابات لأسئلة الرواية، فالكثير منها ملتبسٌ وغامضٌ. بعضها يشتبك بمسألة الموت والحياة، وأخرى تتعلق بالوعي وتثير الشكوك حول ما يعنيه أن نكون أحياءً ونشعر بالحنين إلى ماضٍ لم يعد موجوداً. كل تلك الأسئلة تزداد حدة مع ميل مفرط للسرد وإعادة تدوير الأحداث لجهةٍ فنيةٍ خالصة. ليس لغاية التوثيق، بل لانعدام الرؤية الواضحة حول من يحق له قصّ الحكاية كاملة، وضياع البوصلة لصالح أصوات افتراضية غزت الأدب، فمن ملكوها تاهوا، وكثير منهم تلقفتهم بلادٌ نهمة، كتّاباً وكاتبات، أماتهم الجحود، وأنكر أعمالهم زمنٌ قضوه في المعتقلات وخرجوا منها بلا أدنى اسم يذكر. 

وكأن البلاد حكايةٌ عظيمةٌ تبحث عن راويها الأثير. روايةٌ مسبقة الصنع، شخوصها حاضرة، ولها كل الحبكات، الممكنة وغير الممكنة. هي حكايةٌ تريد مخلّصاً  يخبر الجميع بها، بقصة الجميع، من غير أن يبتر يداً، أو يخنق صوتاً أو يبيح على أوراقه الدماء.. "من يملك الحقوق الحصرية لرواية الحكاية بوقائعها الكاملة في بلاد ممزقة إلى أشلاء؟ وهل هناك حكاية تروى بيقينٍ تام