اشتغال على اللغة والتاريخ والمدن المنسيّة في رواية "الفسيفسائي"

موجة من السحر المدهش تخيّم على القارئ وهو يقرأ حروف الرواية المنضّدة كقطع مرصوفة، حيث فسيفساء الكلام يتناظر مع الإبداع الفسيفسائي للحجر وقطع الزجاج، في تبادلية تناوب ذلك الإبداع الذي نرى مقتنياته في متاحف العالم ليكون التساؤل متى يتوقّف نهب الإرث المغربي..

اشتغال على اللغة والتاريخ والمدن المنسيّة  في رواية   

عبر عذوبة اللغة وجمالية الأسلوب وفتنة السرد يرتحل عيسى ناصري بقارئه في رواية "الفسيفسائي" الصادرة عن دار مسكيلياني التونسية لعام 2023 والتي دخلت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2024،عبر اتباع تقنية سردية اعتمد فيها على خلط الأوراق والحكايات وبعثرة اهتمام القارئ في أكثر من قصة مروية عبر التداخل في الشخصيات الساردة، فكلّ شخصية تكون مرة ساردة ومرة مسرود عنها في تداخل أزمنة تتراوح بين حدث بعيد حصل في الماضي وبين أحداث معاصرة تلتمس المراوحة بين الحلم والواقع لشخوص تتحدّث برهة عن ذاتها وتارة عن الآخرين، وتسلّم دفّة السرد لشخصيات أخرى مع إمساك بارع بخيوط الحكاية.

ورغم أنّ القارئ يصل إلى منتصف العمل تقريباً من دون أن يلحظ رابطاً يجمع بين مختلف الحكايات ولكن جمالية السرد تدفعه إلى الاستمرار في  ما وراء السرد رغم توهانه في ترتيب قطع الفسيفساء الحكائية المنتقاة، يجمعها جانب خفي ورقيق من جمال لغة ونغم ساحر يستنطق الحجر المرصوف والقطع الرخامية لتصوير لوحات متخيّلاً ومؤرّخاً بذلك فترة زمنية ماضية من تاريخ المغرب.

هذه التوليفية التي اشتغل عليها الناصري في رصف ثلاث لوحات من الحكايات هي على الترتيب: "ليالي وليلي" كتبت من قبل أريادنا نويل أثناء بحثها عن لوحة فسيفساء مسروقة كانت قد سمعت عنها؛ و"الفتى الموري" كتبها جواد الأطلسي والثالثة كتبت على شكل مذكّرات من قبل الطبيبة النفسية نوال الهناوي بعنوان "باخوس في العيادة"، تابعنا تداخلها بدهشة المكتشف لجمالية جديدة في الأسلوب والمعنى معاً.

تجري الأحداث جميعها على أرض موريتانيا الطنجية موزّعة بين مدينة وليلي الأثرية ومولاي إدريس زرهون ومدينة مكناس، حيث عاد بنا إلى القرن الثاني الميلادي إبان احتلال الرومان لموريتانية والمغرب العربي، ملقياً الضوء على ذلك الزمن المثقل بظلمات العبودية الإنسانية والآثار المسروقة التي ألقى الضوء عليها في رحلة العذاب والمقاومة التي أرخت فيها تلك الشعوب آلامها وفنونها والجحيم الذي كانت ترزح فيه مثل مشهد إعدام الموريين من قبل الوحوش الضارية في تكثيف العذاب الإنساني غير المحتمل، عبر شخصية إيدمون الفتى الموري العذب الذي بدأ خبّازاً ثم نجاراً ثمّ حداداً، ثم عاملاً ماهراً في ورشة للفسيفساء،حيث رصفُ القطع الفسيفسائية فنّ محلي عريق وفق تعبير إيدمون: "الفسيفساء حبّ قبل أن تكون صنعة، إنها الشغف الممزوج بحبّ الطفولة، هي البهجة التي تتيح للعين والأصابع أن يلتقيا على مبعدة من الجمال الحقيقي وعلى مقربة من تخومه المسوّرة".

هذه الفسيفساء التي ثبت فيها عبارات ورسوم مواجهته للاستعمار الروماني وتوضيح أن تلك الآثار المورية ذات أصالة تتبع للمكان وليست رومانية رغم وطأة الهيمنة وقسوتها في تبيان الفارق بين مرحلتي الرومان واليونان؛ بين الأسلوب اليوناني أسلوب النبلاء الذين أرسوا التقاليد الأدبية والفنية والرياضية على نقيض الأسلوب الروماني بكونه أسلوب محدّثي النعمة المعتدين على الآخرين. 

في تقويض للمتعارف عليه يروي الكاتب حكاية جديدة لنيرون الذي أحرق روما في زمن ما وجلس يعزف على وهج نارها، ليعرّفنا أنه كان محبّاً للموسيقى والأدب ودعا لإحيائها وبناء مسرح للفنون، ولكن الطبقة الجشعة استغلّت غيابه وأحرقت بيوت الفقراء في روما، لذا عندما رجع أحرق بنفسه قصور تلك الطغمة،وربما تفيدنا هذه الإشارةللتشكيك بكل ما نقل إلينا كسمة هامة من أدب ما بعد الحداثة في التقويض والتشكيك وإعادة الفهم لكثير من الأمور.

ومن خلال شخصية إيدموني فتح عدسة كاميرته السردية على تراث الشعوب المسروق وتاريخ نضالها للتحرّر من الاستعمار في مرحلة من تاريخها المجبول بدمائها وقهرها عبر حفر في تاريخ المنطقة والتأكيد أنها شعوب حية لطالما قارعت المستعمر، ورؤية الحدث من وجهة نظر الآخر المهزوم وإعادة فكرة المقاومة إلى الواجهة كفعل تحرّري لم يستنفذ أدواته في العصر الحديث.

هذه الحكاية يكتبها جواد لحساب شخص آخر مقابل مبلغ مالي لكنه يرفض بالنهاية بيع عصارة روحه التي سطّرها على صفحات الورق، ولكنه مع ذلك يتعرّض لسرقة عمله ومحو آثاره من كمبيوتره، ثم تحكي أرديانا قصة جواد والحلم المتسلسل الذي يراه بشكل متواتر وطاقة الفسيفساء التي تأخذه إلى مكان الخرائب التي يشكّ فيها بوجود بقايا اللوحة المسروقة، فالأحلام التي تراوده تنتقل به بين الحلم والواقع في تشابك غريب ومحيّر قد نفترضه خيالياً إلى حدّ ما ولكن ربما للأمر تفاسير أخرى بأنّ أصل كلّ عمل إبداعي يكمن في حلم، فقد روي عن فيديريكو فيلليني المخرج السينمائي الشهير أنه كان يشاهد أغلب أفلامه في حلمه، في مخاتلة الوجود الورقي والحقيقي لشخصية جواد الكاتب هل هو شخصية حقيقية أو شخصية محرّكة من قبل كاتب ما يسيطر على وجوده وحياته.

لتأتي بعدها مذكّرات الطبيبة النفسية المعنونة باسم" باخوس في العيادة" التي استعرضت أزمة شخصيتين: هما عياش الحارس المتهم بسرقة تمثال باخوس وعمره الذي أمضاه بالمعتقل في تهمة بريء منها، وشخصية تهامي الكاتب المصاب بحبسة الكتابة نتيجة قتله ابنه بخطأ غير مقصود وهجران زوجته له في إثر ذلك، كما يستعرض في زاوية أخرى من العمل قصة اغتصابه لسعاد في موقع الفسيفساء، وقد توقّعت أن يضيء الكاتب تبكيتاً ما لضميره  في هذا الشأن ولكنها تنضوي ضمن اكتئابه النفسي والشرخ في حسّه الإنساني وتوقّف قدرته على الكتابة وخاصة عندما يرسمها الكاتب كشخصية تعاني تشوّهاً في وجدانها الشعوري وتراكم وجهين على نقيض مما يظهر وتحتاج لانتصار ما كي تستعيد ذاتها وقبول الآخرين لها، مضمّناً تلك المذكّرات حوارات مثقّفين استشفائية عبر استحضار تراجيديا اسخيليوس وكذلك فتحت نافذة على الأطباء النفسيين الذين امتهنوا الكتابة من نوال السعداوي إلى الروسي بولغاكوف مروراً بألغاز أغاثا كريستي وسواها، وهناك شخصية جرى الإشارة إليها بعجالة وهي لينا مالكة البيت الأميركيةالقريب من الخرائب الأثرية والتي تربطها علاقة ما بأغلب شخوص العمل. هل أراد الكاتب التنويه للدور الأميركي الوارث للاستعمار التاريخي القديم وقدرته على تحريك أذنابه للاستيلاء على مقدّرات الشعوب وموروثها من ثروات وآثار ونتاجات فكرية،كاحتمال يبقى التساؤل مفتوحاً حوله.

كذلك تيمة القتل حاضرة عبر تنويعات عديدة تتابعت من أشكال إعدام الرومان للأموريين عبر إطلاق الذئاب الجائعة على بشر محبوسين في قفص في تجسيد لوحشية الغازي إلى مشهد الاعتداء الجائر على إيدمون الذي أنهاه كإنسان ورجل، لتختتم بالجريمة الخاتمة وهي قتل سارق الأعمال الأدبية تهامي للكاتبة أدريانا،لينتقل إلى تيمة السرقة والسرقة الأدبية تحديداً التي كثر منتحلوها في زمننا الحالي وتختزن في داخلها جريمة تبدو صغيرة، ولكنها تشتمل على تداعيات تقود إلى سرقة حياة الآخرين وجهدهم وإبداعاتهم الخالقة في سقوط أخلاقي مريع  لا يختلف فيها من يسرق الآثار عمن يسرق النصوص.

الألعاب السردية: 

اعتمد عيسى ناصري على التشكيل الفني في تجاور ثلاث حكايات وتداخلها، وضع  لكلّ منها عنواناً وحلقات متسلسلة أثّثها بأشكال سردية متنوّعة تراوحت بين الوصف الآسر للأشخاص والأحاسيس وجماليّات المكان والطبيعة المحيطة به، كما عمل على استدعاء المادة الحلمية بكلّ ما تختزنه من أضغاث وهواجس ورؤى كامنة،بالإضافة إلى أسلوب الحوار والمذكّرات الشخصية كما حفلت باتكاء واضح على الأساطير والحكايا والتي كانت منبع إلهام صنّاع الفسيفساء حيث طغت على أسلوبهم في تأريخ حياتهم وصراعاتهم في الميثولوجيا العاكسة لاستيعابهم ثقافات إغريقية قديمة، اجتمع فيها الجانب الرومانسي معا لإحالات النفسية والتاريخية لتنتهي بلمحة بوليسية مع العبارة الأخيرة للمحقّق الذي وجد في كتاب التهامي المسروق من ثلاث ضحايا تفسيراً لحادثة قتل الكاتبة أدريانا الغامضة وتجميعاً لخيوط العمل المتشابكة بقوله عن حفل توقيع الكتاب: "طبعاً سأحضر ومعي الرواية وزوج من الأصفاد".

موجة من السحر المدهش تخيّم على القارئ وهو يقرأ حروف الناصري المنضّدة كقطع مرصوفة، حيث فسيفساء الكلام يتناظر مع الإبداع الفسيفسائي للحجر وقطع الزجاج، في تبادلية تناوب ذلك الإبداع الذي نرى مقتنياته في متاحف العالم ليكون التساؤل متى يتوقّف نهب الإرث المغربي والمشرقي عموماً، ومتى تعي الشعوب المضطهدة أهمية تراثها وموروثها وتكافح للحفاظ عليه وصيانته من الضياع.