الرأسمالية والطبقية في دول الخليج العربية

ينظر الباحث في كيفية التشكّل الطبقي في دول الخليج العربية، وهو يُضيء بقوّة على الدور الذي تقوم به دول الخليج في المشرق عبر الاستثمارات المباشرة وإنتاج شخصيات مؤثرة تابعة لها.

  • الرأسمالية والتكوّن الطبقي في دول الخليج العربية
    كتاب "الرأسمالية والطبقية في دول الخليج العربية" للباحث آدم هنية.

 الكتاب: الرأسمالية والتكوّن الطبقي في دول الخليج العربي

المؤلف: د.آدم هنية (أستاذ الدراسات التنموية في مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية في جامعة لندن). 

ترجمة: د. إيمان معروف |

كتاب آدم هنية بحث جاد يتناول كيفية تشكل طبقة العائلات الحاكمة في دول الخليج العربية ودورها في الاقتصاد العالمي من خلال رأس المال الخليجي المبني على أساس هرمي حول المحور السعودي-الإماراتي.

يحلل الكاتب العمليات التي أدّت إلى دمج هذه الدول في مسيرة الاقتصاد الرأسمالي العالمي عبر تدويل رأس المال، ودورها الذي بات واضحاً في النظامين الاقتصاديين العالمي والإقليمي.

التشكل الطبقي في دول الخليج العربية

يدور المحور الرئيس في الكتاب حول مسألة فهم تشكل المجتمع العربي المعاصر في منطقة الخليج، حيث يسعى إلى رسم خريطة عملية تكوّن الطبقة الرأسمالية والتي انبثقت بسرعة وبأسلوب "البيوت الدفيئة"، من مجموعاتٍ تجارية ذات طابعٍ عائلي، ولم تلبث أن أصبحت هي الدولة. يرى الكاتب أن السمة الرئيسية للاقتصاد السياسي في المنطقة هي التدويل "internationalization" الواضح للرأسمالية الخليجية، إذْ تنظر التكتلات الخليجية العملاقة إلى أنشطتها الربحية على مستوى دول المجلس بدلاً من اقتصارها على الدول الأعضاء منفردةً.

يُقدم الكتاب عرضاً واسعاً لتاريخ نشوء طبقة التجار في دول الخليج العربية، والدور الأساس الذي أدّاه الاستعمار البريطاني في نشوء الكيانات السياسية التي تسيّد عليها هؤلاء التجار ممن كانوا من شيوخ القبائل ومن العائلات التي عمل الاستعمار البريطاني على رعاية بروزها وتمكينها. بعد هذا ينتقل إلى الكتل التجارية الجديدة التي ظهرت مع بدء الحقبة النفطية، والتي هي عملياً من رؤوس تلك العائلات المرعية، (مما تبيّن وتثبت كواقع تاريخي بين دفتيّ الكتاب، بالرغم من أن الكاتب لم يُشر صراحة إليه). 

وبينما ينظر د. هنية في كيفية التشكّل الطبقي في تلك المنطقة، يُضيء بقوّة على الدور الذي تقوم به دول مجلس التعاون الخليجي في المشرق عبر الاستثمارات المباشرة أو عبر بروز (إقرأ: إنتاج) أثرياء جاؤوا، كأنما من العدم، ولم يكونوا معروفين من قبل، وهم ممن كانوا باشروا مسيرتهم في بلدان الخليج العربية حيث جرى "تحضيرهم" ليعودوا الى بلدانهم أثرياء ويحتلوا مناصب مؤثّرة فيها، من أمثال رفيق الحريري في لبنان ومنيب المصري في فلسطين.

يقدم الكاتب تحليلاً لطبيعة العمليات التي أدّت إلى دمج دول الخليج العربية في دورة الاقتصاد الرأسمالي العالمي، من خلال تدويل رأس المال، ومسيرتها التي استجدت بفعل ذلك، في النظام الاقتصادي العالمي والإقليمي. وهو يحرص على متابعة الأدوار المختلفة التي أدّاها رأس المال الخليجي المدوّل والمتركّز حول المحور السعودي ــ الإماراتي، وكذلك رأس المال المستتبع له. وفي رأيه، فإن فهذا التدويل كان عملية تشكّل طبقيٍ وثيقة الارتباط بالتطور السريع لاقتصادات منطقة الخليج والتحولات المادية التي طرأت وتطرأ على المدن الخليجية.

في موضوع تشكّل الطبقات ونشوئها في تلك المنطقة، والذي يُركّز عليه، يرى آدم هنية أنه لم يعد من المناسب تحليل العملية استنادًا الى النظرية الكلاسيكية للدولة الريعية، بل يرى الى الدولة على أنّها تعبير محدد للتشكّل الطبقي بما هو مجموعة علاقات اجتماعية في صيرورة دائمة. وهو يلتزم بمنهج نظري واحد هو منهج "تدويل رأس المال"، فيشدّد على أنّ غزو المكان عبر رأس المال أو التدويل المالي هو من الأمور المتأصلة في طبيعة عملية تراكم رأس المال بالذات، أي أنه ليس خياراً سياسياً أو قراراً تتخذه القوى المحرّكة لبعض الدول. فكان بذلك يقدم بحثاً متقدّماً من نوعه يعالج مسألة تشكّل الطبقات الاجتماعية- السياسية في دول الخليج العربية النفطية.

وقد لاحظ الباحث أن عملية تدويل رأس المال، عكس البداهة السائدة، لم تلغِ الدور الذي تؤديه الدولة في التكوّن الطبقي أو في إعادة إنتاج الرأسمالية بحد ذاتها. فإذا كان تراكم رأس المال يجري في ظلّ نظام عالمي أحادي الطابع، فذلك لا يعني في رأيه أنّ الدول بحدّ ذاتها فقدت أهميتها. إن حاجة التدويل الرأسمالي الى قوانين هدفها إدامة شروط التراكم، من مثل تعديل التشريعات، وضبط قوة العمل وغيرها، تزيد من أهمية دور الدولة، لا العكس.

وإذ ينتقل هنية الى تعيين مطلع التكوّن الطبقي في دول الخليج، يتكلّم عن خاصيتين رآهما مميّزتين: "التمفصل المكاني والتراكم الأولي لرأس المال عبر دور الدولة في توجيه العوائد النفطية". فقد رأى أنه خلال الفترة التكوينية، سمحت الدولة بنشوء نواة متميّزة من الخليجيين تحلقت حولها لاحقاً طبقة رأسمالية نمت في قلب الدورتين السلعية والمالية في غياب دورة إنتاجية. وتشكّلت في الدورتين المذكورتين مجموعة من العلاقات الاجتماعية نشأ في طياتها رأس مال محلي ضخم، وثيق الارتباط بالدول ذاتها وبالطبقات التجارية الناشئة. وكانت الطريقة التي تطوّرت تلك الدورات من خلالها، منسجمة مع الاتجاهات السائدة في الاقتصاد العالمي منذ الحرب العالمية الثانية حتى أواخر سبعينات القرن العشرين، حيث ازدادت أهمية القطاع المالي على سائر القطاعات، وبات للنفط دور متزايد الأهمية في التراكم الرأسمالي.

ويرى الكاتب أن عملية التدويل في الدول العربية الخليجية قامت عبر عملية "أقلمة" مطلعها نشوء المحور السعودي ــ الإماراتي. وهذا ما يمكّننا، حسب رأيه، من فهم آلية نمو دور دول الخليج المشار إليها في عالم الأسواق العالمية، إذ أن خلف تدفق الأموال أو السلع، يقبع توسّع في العلاقات الاجتماعية التي تربط الطبقات الرأسمالية في تلك الدول الخليجية في ما بينها.

هيمنة المحور السعودي ـ الإماراتي

يعتبر الكاتب أن الرأسمال العربي الخليجي تشكّل بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي ودمج الصين في السوق الرأسمالية العالمية. ويهتم بدراسة وتحليل الدور الحاسم للتدويل الرأسمالي، وتبعات ذلك بالنسبة إلى منطقة الخليج بأسرها من منظار الاقتصاد العالمي والتنافس بين القوى الرأسمالية العالمية. وهنا يعرض جداول مفصّلة تشرح عملية التراكم، وتحدد المسيطرين عليها، وأماكن تمركزها في كلّ واحدة من دول الخليج العربية. وينتقل إلى تحليل عمليات الاختراق المتبادل للعلاقات الاجتماعية الرأسمالية، كما تعكسها مشاريع الملكية المشتركة (دولة ــ قطاع خاص)، وكذلك التداخل بين الإدارات الحكومية والشركات الرأسمالية في أكثر من 500 شركة ومؤسسة مالية ومشروع في دول مجلس التعاون الخليجي. ويخلص من ذلك الى نتيجتين: الأولى، ارتكاز رأس المال الخليجي على المحور السعودي ـ الإماراتي؛ والثانية، تركّز تراكم الرأسمال الخليجي العربي حول مشاريع البناء وتصنيع السلع عالية الاستهلاك للطاقة كالألمينيوم. ويرى أن تدويل دورة الإنتاج السلّعية يتجلّى في الدور التخزيني ــ التوزيعي الذي تؤديه دولتا السعودية والإمارات في المستوردات العالمية وفي تجارة الترانزيت. بعد هذا ينتقل إلى عرض وجهة نظره في كيفية هيمنة المحور السعودي ــ الإماراتي على الدورة المالية لرأس المال، فيرى أن نمو الأسواق الرأسمالية العالمية كان العامل الأساسي فيها، الأمر الذي يدلّ على مزيد من الترابط بين رأسمال دول الخليج العربية من جهة، وهندسة الأسواق المالية العالمية من الجهة المقابلة.

هنّات غير هينات

هنا يتجلّى بوضوح الشطط الذي نعتقده في استعراض الكاتب للحالة التي يبحثها. فقد اكتفى بالبقاء على مسافة من الحدث من دون الغوص في أعماقه، مما شكّل هنّات غير هينات في البحث ونواقص كان ينبغي بأي باحث حصيف استدراكها. فهو اعتمد رأس المال مثابة المحور الأوحد لتحليلاته، من دون أن يضيء على علاقة الطبقة الرأسمالية التي تكونت في السنوات التي تلت تدويل المال، بالطبقات الأخرى في دول الخليج العربية. فكيف يجيز باحث لنفسه، وهو يتحدث عن تكوين الطبقات في مجتمع ما، أن يقصر حديثه على الطبقة الرأسمالية فيه فقط، ويُغفل أي تطرق للطبقات الأخرى، كأنها غير موجودة...؟! 

من جهة أخرى يلاحظ الكاتب أن رأسمال دول الخليج العربية (في دورات التوزيع السّلعية والوكالات الحصرية للشركات العابرة للجنسيات، وفي القطاع المالي والبيع بالتجزئة)، يتركز  فقط في القطاع المالي والبيع بالتجزئة، ثم لا يستغرب كيف أن منطقة يقوم اقتصادها على النفط بشكل أساسي، يتركز الرأسمال فيها ضمن دورات لا وجود للنفط فيها على الإطلاق!

وهنا لا بد من طرح السؤال: من هو، على المستوى العالمي، الطرف الذي يقرّر طبيعة الدورات الاقتصادية التي حقق ويحقق فيها رأس المال العربي الخليجي عملية تراكمه؟ هل هي دول الخليج العربية نفسها التي، في هذه الحالة، تعمل ضد مصالحها، أم أن طرفاً أو أطرافاً أخرى، عالمية، هي صاحبة القرار في ذلك؟

ثم أليس من المستغرب عدم الإشارة بوضوح تلقائي إلى إن عدم نجاح الاندماج السياسي بين دول مجلس التعاون، على الرغم من التناغم الاقتصادي خلف الرأسين (الإمارات والسعودية)، إنما يعود إلى مصالح أساسية لكل واحدة من الأسر الحاكمة في تلك الدول، ولو على حساب الدولة ذاتها والشعب الذي هو صاحب الحق الأول، ولأن النخب السياسية لا تزال ذات مصلحة أساسية في الحفاظ على سياسات مستقلة كي تحفظ مصالحها الذاتية والاستحواذ على الريع بكامله، كل نخبة في الدولة التي تمتلك ناصيتها؟

 إن إغفال التطرق إلى الأمور من الزوايا المشار إليها، يكشف مستوى من المحاباة للأسر الحاكمة في دول الخليج العربية، مما لا يليق برصانة البحث وموضوعيته.

من جهة أخرى، يرى د. هنية أن مختلف الأنماط الاستثمارية الخليجية قد جُرّبت في سائر دول المشرق العربي. وقد حاول البرهنة على أنّ عملية التدفق الرأسمالي من بلدان مجلس التعاون الى بلدان المشرق، إنما ترتبط بدور أكبر للرأسمال الخليجي في توجيه السياسات الاقتصادية (وغيرها)  للدول المعنية. ويعرض كدليل على ذلك "مؤتمر باريس"، حيث لعبت دول الخليج العربية دوراً أساسياً وتحملت أكبر قدر من الالتزامات المالية تجاه لبنان، متخطية بذلك المبالغ التي وعد بها البنك الدولي والولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية مجتمعين. وقد تبيّن بالفعل في ما بعد أنّ مجموعة من الشركات المرتبطة برأس المال الخليجي ــ بشقّيه العام والخاص ــ كان لها النصيب الأوفر من توفير هذه الدفوق داخل الإقليم.

ووسط كل ذلك لم يتطرق الكاتب إلى هوية من يملك دفّة القرار في توجيه رأس المال العربي الخليجي، ودور القوى العالمية (الولايات المتحدة من باب أولى) في كل ذلك. 

كذلك فالكاتب لم يُشر إلى الطرف الذي يتخذ القرار في دول الخليج العربية ذاتها، وهل يملك مجلس التعاون الخليجي والمتحكمون فيه بالسلطة والمال، القدرة على توجيه السياسات الاقتصادية في دول الخليج العربية ذاتها، كما في الدول التي تحرص على توجيه سياساتها خارج منطقة الخليج.

لقد سعى الباحث إلى تفسير عمليات التشكّل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في دول الخليج العربية بمداخيل الدولة المستمدة من صادرات النفط، أي الريوع. وشرح أن الاستفادة من استعمال هذه الفكرة جاء لتفسير أمور عديدة في تلك المنطقة من العالم، من قبيل الاستبداد، وضعف المجتمعات المدنية، والتبعية إزاء شبكات الزبونية والمحسوبية، و"العقليات" الريعية ونماذج التنمية الاقتصادية. إلا أنه عاد لينتقد المشاكل الكبرى لنظرية الدولة الريعية كونها تنأى عن معالجة مجتمعات الخليج العربية بما هي مجتمعات لها خصوصياتها، حتى ضمن حالتها الرأسمالية.

الأمر الآخر الذي جنحت إليه معالجات الكاتب لنظرية الدولة الريعية، هو انتزاع المنطقة العربية الخليجية من الحالة العالمية الأوسع، حيث يجري تناول مسائل من قبيل الإمبريالية ودينامية السوق العالمية، باعتبارها أموراً ثانوية. وهذا أيضاً يجانب الحقيقة والواقع. فضلاً عن ذلك، فالكاتب لا يقدّم أيّ تفسير لغياب الديمقراطية في دول الخليج العربية ولا يأتي على واقع مركزية المنطقة بالنسبة للسلطة الأميركية منذ أمد بعيد، أو دعم الدول الغربية العسكري والسياسي الثابت للأسر الحاكمة.

أذكر أنه في مقابلة صحفية مع د. آدم هنية بعد نشر كتابه موضوع القراءة، يبدو وكأنه يحاول استعادة التوازن الفكري لبعض طروحاته الواردة في الكتاب، فيشير إلى الدور الرئيس الذي أدّاه "البترودولار" العربي الخليجي في بروز الولايات المتحدة الأميركية كدولة مهيمنة في العالم، وتوطدها بما هي قوة عالمية كانت مسيطرة طوال النصف الثاني من القرن العشرين. وقال إن دول الخليج العربية، بقبولها استثمار مداخيل البترول في سندات الخزينة الأميركية، وسندات القطاع الخاص والأسهم، وبتقويم سعر البترول بالدولار الأميركي، أسهمت بشكل مباشر وفعّال في توطيد تفوق الدولار بما هو "عملة عالمية".

الخاتمة

كتاب هنية يقدم نظرة عامة لا تخلو من البراعة على الاقتصاد السياسي لدول الخليج العربية، وعلى العلاقات العميقة بين دول مجلس التعاون الخليجي والاقتصاد العالمي. إلا أنه في محاباته للأسر الحاكمة في دول مجلس التعاون، ينتقص من القيمة الاقتصادية للكتاب الذي يبقى، على الرغم من ذلك، مدخلاً مهماً لفهم طبيعة دول الخليج العربية وكيفية تشكل أنظمتها الحاكمة.

كذلك يبيّن كيف أنّ رؤوس الأموال العامة والخاصة لدول مجلس التعاون تخترق الاقتصادات الوطنية لمختلف الدول العربية، وكيف تعيد الرأسمالية الخليجية صوغ طبيعة التراكم نفسه في تلك البلدان من خلال استحواذها على ملكية الشركات المالية والإنتاجية في مصر والأردن ولبنان وفلسطين خصوصاً، وبالتالي تأثيرها المباشر على حكومات تلك الدول، ولا سيما عبر الشخصيات (غير الخليجية) التي "أنتجتها" وبنت قواها المالية الهائلة، ثم أعادتها إلى بلاد منشئها لتقوم بتنفيذ ما تمليه عليها من سياسات.