الطريق إلى القدس: وحدة الساحات أمام الهجمة الصهيونية

يذكر "طريق القدس"أن القدس تعرّضت للتدمير مرتين، وحوصرت 23 مرة، وهوجمت 52 مرة، وتمّ غزوها وفقدانها 44 مرة. 

  • كتاب:
    كتاب: "الطريق إلى القدس" لمحسن صالح

كتاب غنيّ موثّق وحافل بالمعلومات. سهل العبارة، بعيد عن الجفاف والتعقيد، وبين دفّتيه إضاءات وافية على مجمل تاريخ القدس وفلسطين وقضيتها من وجهة نظر إسلامية. 

مدخل 

لطالما كانت مدينة القدس عبر التاريخ نقطة ارتكاز حضارية قبل أن تكون حالة سياسية، ووجهة أساسية لعملية تحرير فلسطين واستعادتها من المحتل الغاصب، سواء الصليبي أو البريطاني أو الصهيوني. وكتاب أ.د. محسن محمد صالح يوفّر دراسة تاريخية عسكرية واجتماعية وافية ترسم مسارات عروس المدائن وتجربة الأنبياء على أرضها، منذ العصور الأولى وحتى القرن الحادي والعشرين. 

الكتاب يوثّق الفتح الإسلامي للمدينة، ويُفرد فصولاً لعمليات تحريرها من أيدي التتار والصليبيين، ويستقرئ واقعها الحديث والمعاصر منذ أواخر الدولة العثمانية حتى اليوم، مُسلّطاً الضوء بشكل خاص على دور الحالة الإسلامية في الانتفاضات والثورات والحروب التي شهدتها عبر التاريخ القديم والوسيط والحديث والمعاصر، انتهاءً بالعمل المقاوم ضدّ الاحتلال والكيان الصهيوني الغاصب الذي يراه الكاتب مشروعاً عدوانياً استيطانياً إحلالياً توسّعياً، ليس معادياً للشعب  الفلسطيني وحده وإنما للإنسانية جمعاء بقدر ما هو للأمة العربية والإسلامية.  

يستند الكاتب إلى منهجية إسلامية علمية بريئة من الأهواء والظنون، فيعرض كيف تمّ فتح القدس أكثر من مرة من خلال المواجهات بين المسلمين من جهة ومحتلّيها من جهة أخرى، ويحرص على تسليط الضوء على دور التيار الإسلامي في الانتفاضات والثورات والعمل المقاوم، منذ فتحها الخليفة عمر بن الخطّاب وبعده، وصولاً إلى النضال ضدّ الاحتلال البريطاني ثم مواجهة الكيان الصهيوني المحتل، مُضيئاً بشكل خاص على حركات المقاومة الإسلامية، وتحديداً على حركة القسّام الجهادية، والإخوان المسلمين، وحماس، والجهاد الإسلامي.  

وجهة نظر

يرى المؤلف أنّ التجربة التاريخية لتحرير القدس وفلسطين ارتبطت بالإسلام أولاً وأساساً، منذ   الفتح العمري حتى وقتنا المعاصر. يعتبر أن مختلف الأيديولوجيات التي هيمنت على البيئة العربية والفلسطينية، ولا سيما في المئة سنة الأخيرة، سواء أكانت يسارية أم قومية أم قُطرية، فشلت بنسب متفاوتة في أن تقود مشروعاً حقيقياً للتحرير، حتى أمسك المسلمون الحركيون بالراية وشقّوا الطريق. ويرى أنه على الرغم من محاربة التيار الإسلامي بشراسة في المنطقة، وحرمانه من وسائل النهضة والتمكين، فإن الإسلام بقيَ المُحرِّض الرئيس في ثورات الشعب الفلسطيني ومقاومته وانتفاضاته، بحيث باتت المقاومة الإسلامية العمود الفقري لقوى المقاومة   المسلحة في فلسطين.

صحيح أن قضية فلسطين نالت الكثير من الاهتمام وحظيت بعدد وفير من  الدراسات والكتب، وما انفكت تشكّل محوراً لاهتمام الباحثين من عرب ومسلمين ويهود وأوروبيين وأميركيين وغيرهم، غير أن الأبحاث والكتب من وجهة نظر  إسلامية في هذا الشأن ما انفكّت مقصّرة إلى حدّ بعيد في تصوير الواقع  وتقلّباته، بحيث شكّل كتاب الأستاذ  الدكتور محسن محمد صالح الدراسة الباهرة التي تفتقد إليها المكتبة المعرفية، هذا مع ملاحظة أنه ناقش التجربة التاريخية على أرض فلسطين بناء على تصوّر  إسلامي ينبع من فهم المسلمين لقضيتهم بالارتكاز على تراثهم وهويتهم الحضارية، في مسارات الصراع بين الحق والباطل. 

عن القدس

استوطن البشر الموقع الذي شُيّدت فيه المدينة منذ الألفية الرابعة ق.م، الأمر الذي يجعل من القدس إحدى أقدم المدن المأهولة في العالم، لذلك فهي تُصنّف على أنها موقع تراث عالمي.

والقدس مدينة مقدّسة عند أتباع الديانات السماوية الثلاث: اليهودية، المسيحية، والإسلام. فهي ثالث أقدس المدن الإسلامية بعد مكة والمدينة المنورة، وهي أولى القبلتين، حيث كان المسلمون يتوجّهون إليها في صلاتهم بداية بعد أن فُرضت عليهم نحو سنة 610 للميلاد، وهي أيضاً تمثّل الموقع الذي عرج منه نبي الإسلام محمد بن عبد الله إلى السماء. تحوي المدينة القديمة عدداً من المعالم الدينية ذات الأهمية الكبيرة، مثل: كنيسة القيامة، حائط البراق والمسجد الأقصى – الذي يضمّ عدة معالم مقدّسة -أهمها مسجد قبة الصخرة والمسجد القبلي.

خلال تاريخها الطويل، تعرّضت القدس للتدمير مرتين، وحوصرت 23 مرة، وهوجمت 52 مرة، وتمّ غزوها وفقدانها 44 مرة. 

يفرد الباحث قسطاً وافراً من مؤَلَّفِه للحديث عن نضالات الجيوش الإسلامية عبر التاريخ في سبيل القدس وتحريرها. 

يتحدث بداية عن تحريرها على يد الخليفة عمر بن الخطاب في شوّال من العام 15هـ. الموافق لشهر تشرين الثاني/ نوفمبر من العام 636 م. حيث أكد المسلمون توطيد سيطرتهم على المدينة ومعها كل فلسطين. يتحدث كذلك عن تحريرها من الروم بعد الانتصار عليهم في معركة "أجنادين" في العام السادس عشر للهجرة حيث استولوا على مدن فلسطين الشمالية، ثم تحوّلوا إلى بيت المقدس، أولى القبلتين ومسرى الرسول الكريم، فحاصروها حتى سقطت بأيديهم واضطر الروم إلى تسليم المدينة صاغرين. وبفتح بيت المقدس سيطر المسلمون مجدداً على معظم بلاد الشام. وهكذا استمر الأمر حتى احتلال المدينة من قبل الصليبيين بعد ذلك بمئات   السنين. 

 ثم يمرّ على حدث تحرير المدينة من الصليبيين بعد معركة "حطين" الفاصلة بقيادة السلطان الأيوبي صلاح الدين، وذلك في ربيع الثاني من العام 583هـ. الموافق 4 تموز/ يوليو من العام 1187م. 

ويختتم هذا العرض باحتلال العدو الإسرائيلي للمدينة كاملة بعد حرب حزيران/ يونيو العام 1967، حيث تمكّن الجيش الإسرائيلي وبعد قتال عنيف مع الجيش الأردني، من السيطرة عليها وضمّها إلى الكيان المحتل، حين انطلقت العمليات الفدائية الفلسطينية بهدف استعادة الأرض والمدينة والوطن من براثن المغتصبين. وقام المحتل بترحيل وطرد نحو 20.000 مسلم ومسيحي من أهالي القدس الغربية من منازلهم وبيّاراتهم ولم يُسمح لهم بالعودة أبداً.

القدس في التاريخ المعاصر

يُعتبر النزاع القائم حول وضع القدس مسألةً محورية في الصراع العربي الإسرائيلي. 

كانت حرب سنة 1967 بين الجيوش العربية والإسرائيلية محطة فاصلة. فبعدها أقدمت حكومة الاحتلال على ضمّ القدس الشرقية التي كانت تتبع الأردن، وألحقتها بالقدس الغربية التي كانت تحتلها. إلا أن المجتمع الدولي بأغلبيته، لم يعترف بهذا الضم، وما زال ينظر إلى القدس الشرقية على أنها منطقة متنازع عليها، ويدعو إلى حل القضية عن طريق إجراء مفاوضات سلميّة بين "إسرائيل" والفلسطينيين.

رفضت "إسرائيل" الانتقادات الدولية لخططها المعلنة لضم القدس كاملة، ثم للعمل على بناء المستوطنات فيها لأسرلتها وتهويدها، بينما توالت موجة الإدانات الدولية والمطالبات بإزالة العقبات من طريق السلام، في حين واصل أهلها نضالاتهم لتحريرها من الاحتلال.

يؤكد الباحث صالح في كتابه أن فلسطين والقدس عاصمتها لن تتحرّر إلّا بعد تحقيق كلمة التوحيد، والرجوع الكامل إلى دين الله، وتحكيم شريعة الله، معتبراً هذا من أعظم أسباب النصر والتمكين، فما أخذ بالقوة لا يُرد إلا بالقوة. وهذا يفتح الباب على أهمية وضرورة العمل بمقتضى خطة "توحيد الساحات"، بخاصة وأن الثورة المتواصلة بهدف التحرير باتت تضمّ "معسكراً" واسعاً، ينتشر على مدى عربيّ وإسلاميّ رحبٍ وغنيّ ومتماسك يقف في مواجهة جهود العدو في عزل أهل الأرض عن عمقهم على امتداد العالمين العربي والإسلامي. والواضح الذي أكدته تجارب المقاومة يُشير إلى أنّ الطريق إلى القدس لن يكون إلا من خلال توحيد المسارات ووحدة الساحات أمام الهجمة الصهيونية الشرسة والمتصاعدة بحق الشعب الفلسطيني، مشدّداً على اعتبار أن المقاومة هي الحل الوحيد في مواجهة العدو.

والواقع أن ثمة مجموعة من ساحات العمل، تضمّ كوكبة من الفاعلين الذين تتقاطع مصالحهم وأهدافهم على العداء لعدو واحد، وعلى أن الإضرار به ومنعه من تحقيق أهدافه، وإضعافه مادياً ومعنوياً، هي أمور تصبّ في المصالح الكلية -الدنيوية والأخروية-لهؤلاء الفاعلين، الأمر الذي يتطلّب منهم جميعاً أن يتحدوا في مواجهة العدو وضربه واستهداف مصالحه، في معركة يكون لكل طرف منهم فيها نصيب. وهذا هو التفسير الكلي للمفهوم الاستراتيجي لوحدة الساحات.

 وهذا ليس مجرّد استشراف نظري. لذلك يتوجّه العدو لتوسيع الخلافات بين قوى المقاومة الأساسية في غزّة أولاً بين القوتين الفاعلتين في القطاع وهما "حماس" و"الجهاد"، ويعمل بشكل دؤوب على عزل حركات المقاومة في الداخل عن حاضنتها الشعبية. لذا أعلن استبعاد "حماس" في معركة "سيف القدس" على سبيل المثال، وامتنع عن استهدافها، مع تعميم هذا الواقع والشغل عليه واستثماره سياسياً وإعلامياً على أوسع نطاق لإثارة الضغائن بين الفلسطينيين، وصنع وتشكيل رأي عام يتبنّى فكرة عدم التدخّل العسكري لحماس ضمن القطاع، والتركيز على استهداف مراكز وقوى "الجهاد الإسلامي" وحدها.

إلا أن وعي قوى المقاومة وبيئتها الشعبية الحاضنة، وتفعيل قوى المقاومة بعد معركة "سيف القدس" التي خاضتها "الجهاد" بكفاءة عالية، وتأسيس الكتائب المجاهدة في مناطق الشمال (كتيبة جنين، كتيبة نابلس، كتيبة طوباس، كتيبة طولكرم وكتيبة بلاطة، كتيبة جبع، وغيرها من المجموعات المقاومة)... وتنشيط العمليات الجهادية في الضفة الغربية، مع التحوّل من طريقة التفكير الفردي والفصائلي لحل المشاكل ومواجهة الصعوبات، إلى حالة من التفكير الجمعي الذي تشاركت فيه مختلف القوى والبنادق، تفكيراً وتدبيراً واجتراحاً للحلول، كلّ ذلك أفشل مخططات العدو في إيقاع الفرقة والتشرذم داخل الصف المقاوم، وأعجزه عن دقّ الأسافين بين الفصائل الفلسطينية من جهة، وبين المقاومة وبيئتها في الداخل.

ونتيجة لكلّ ذلك نهضت المقاومة وأثبتت قدرتها على إدارة حرب كاملة ضد الاحتلال (معركتي "بأس الأحرار" و"بأس جنين"، اللتين خاضتهما كتيبة جنين)، فتحقّقت من خلال ذلك وحدة الميدان والجغرافيا في الداخل الفلسطيني (غزّة، الضفة، القدس، الداخل). وبرزت البندقية المقاومة كساحة قادرة على قلب موازين المعركة من عمق الجبهة الداخلية للاحتلال، وعاد الداخل ليكون مسرحاً للمقاومة من خلال العمليات الفردية التي تولّت مهمة الرّد على جرائم الاحتلال في غزّة والضفة منذ أواخر العام 2021، وارتفعت وتيرتها ونوعيتها في عامي 2022 و2023، بعد إجماع الفصائل الفلسطينية على أنّ الداخل هي أرض فلسطينية مشروعة للعمل المقاوم أو للرّد على الاحتلال. 

وهذا ما أفضى إلى تثبيت الارتباط الديني العقائدي للعرب والمسلمين مع فلسطين المحتلّة ومقدّساتها في مواجهة المشروع الغربي الاستعماري. فطالما أنّ الكيان الإسرائيلي هو الواجهة الأولى للمشروع الاستعماري في المنطقة، فإنّ فلسطين وعاصمتها القدس هي الواجهة الأولى لمقاومة هذا المشروع.

هذا ما وجد صداه الإيجابي على امتداد دول الطوق الفلسطيني القريبة والمتاخمة للأرض المحتلة، كما تلك التي تأتي في الدائرة الثانية من دوائر التهديد المُعرّفة لدى العدو، من "حزب الله" في لبنان، مروراً بفصائل الحشد الشعبي والعشائري في العراق، وصولاً إلى حركة "أنصار الله" في اليمن، فضلاً عن الدعم الإيراني المتواصل، حيث أعلنت هذه القوى عن جاهزيتها للمشاركة في أي جهد تطلبه المقاومة الفلسطينية، بغض النظر أكان هذا الجهد عسكرياً تعبوياً مباشراً، أو معنوياً داعماً.

وكان ذلك كلّه بمثابة رصف وتعبيد للطريق إلى القدس. وعلى هذا الواقع ثبت للعدو أنّ تعدّد الجبهات وبالتالي وحدة الساحات هو أبعد من أن يكون مجرّد شعار خطابي، بل إن له واقعية أثبتتها الأحداث والمواجهات.

ولهذا اضطر العدو إلى تخصيص مناوراته الأخيرة لمحاكاة نوع من الحرب الشاملة التي لم يسبق له أن اختبرها. من هنا جاءت وحدة الفصائل والساحات في الداخل ونصرتها من مختلف دول المحور المقاوم في المدى العربي والإسلامي الواسع، لتبنّي وحدة القوى العربية والإسلامية في الخارج على طريق تحرير القدس وفلسطين. ولوحظ أن مختلف المستويات السياسية والأمنية في الكيان اضطرت مؤخّراً إلى تبنّي ما اعتبرته سيناريو شديد الاحتمال، يقتضي تعرّضها لحرب متعدّدة الجبهات، تشمل مختلف قوى محور المقاومة في الداخل المحتل وعلى مديات دول محور المقاومة.

خاتمة

بعد أن يُنهي الكاتب بحثه عن التجربة الإسلامية الحديثة والمعاصرة في فلسطين، يعتبر أن ما يجري هو صراع وجود وليس صراع حدود، وأنه كما واجه المسلمون الصليبيين والتتار، فهم يعملون على مواجهة المحتل الغاصب، مدعومين من ساحات عربية وإسلامية متكاتفة لا تنفصم عُراها.

وقد بات واضحاً اليوم أن النضال الفلسطيني المتكاتف في الداخل يرتكز خارجياً على أرضٍ صُلبة منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران. فالحدث رفع من أسهم القضية الفلسطينية لدى الشعوب العربية والإسلامية من خلال دعوة الإمام الخميني الى إحياء يوم القدس، الأمر الذي ساهم في ترسيخ فكرة أنّ فلسطين ملك للأمة العربية والإسلامية جمعاء، وبالتالي فمهمة تحرير هذه الأرض يقع على عاتق كل مسلم، ومن واجب العرب والمسلمين جميعاً أن يقفوا إلى جانب فلسطين، الإنسان والأرض والمقدّسات.

وفي نهاية كتابه يختتم صالح بخلاصات عن التجربة الإسلامية التاريخية على أرض القدس وفلسطين، وفق تصوّر ينبع من فهم المسلمين لهذه القضية المقدّسة، وبما يتوافق مع تراثهم وهويتهم الحضارية.

وهذا ما افتقرت إليه العديد من الأبحاث والكتب المتعلّقة بقضية فلسطين.