الطفل والمرأة.. ثنائية الأمان في أعراف الحرب في اليمن
خلال أي معركة تحكم الأعراف في اليمن منح المرأة والطفل حقّهما في الحياة والتنقّل بما فيها إيصال المؤن إلى المتحاربين. ما الهدف من أعراف وتقاليد كهذه وعلى ماذا تنصّ؟ وما حكم انتهاكها؟
عادةً ما تأتي أعراف الحرب القبلية في اليمن؛ للحفاظ على مستوى من الأمن غير المتأثر بأحوال الحروب وأعرافها وتداعياتها، في سياق منظومة من الإجراءات الدقيقة، التي تحكم المجتمع القبلي في مجالات الحياة المختلفة. ومن ذلك، نسق العرف، الذي يمنح الطفل والمرأة نوعاً من الخصوصية في أحوال الحرب (1)؛ إذ تكفل الأعراف والتقاليد الشعبية الحماية الكاملة للنساء والأطفال، فلا يسري عليهم ما يسري على المتحاربين، الذين إن ظهر واحد منهم في مرمى الطرف المعادي، فإنه سيكون صيداً سهلاً لذاك الطرف، الذي لن يتوانى عن قنصه، طالما كان في مستطاعه ذلك.
المزرعة والماء والمرعى
-
تتمثل الغاية من أعراف حماية المرأة والطفل في تحقيق نوع من الضمان لاستمرارية الحياة
تتمثل الغاية الرئيسة - من أعراف حماية المرأة والطفل - في تحقيق نوع من الضمان لاستمرارية الحياة، من خلال تأمين أمور 3، تقوم عليها حياة المجتمع القبلي في اليمن، هي: المزرعة والماء والمرعى.
ولا يمكن تحقيق هذه الغاية إلا بتوفير الحماية لمن في مستطاعه العمل على استمرارية هذه المقومات الثلاثة في البيئة القبلية. وما دام الرجال المتحاربون في متاريسهم، وليس في مقدورهم الخروج لتدبر شؤون حياتهم، فإن الأكثر أهليةً للنيابة عنهم في ذلك هن النساء وأطفالهن؛ لذلك أكدت أعراف الحرب في اليمن حرمة الاعتداء على المرأة والطفل، في أي حال من أحوال الحرب والاقتتال.
واستناداً إلى هذا النسق العرفي الاجتماعي واطمئناناً إلى قوته الفاعلة في توفير الحماية المطلقة لثنائية الأمان هذه (النساء/الأطفال)،يأتي دور المرأة ومعها أولادها الصغار، في ما تحمله على عاتقها من اعتناء واهتمام بشؤون الزراعة، طيلة فترة الحرب، التي قد تطول؛ فتصل إلى شهور، بل إلى سنين في بعض أحوال الحرب الضارية.
كما أن المرأة هي من تتولى الاعتناء بالمواشي؛ فحرية التنقل في الطرق العامة، ومثلها حرية الوصول إلى موارد الماء وساحات المراعي، أمر مقصور على المرأة والطفل من دون غيرهما.
مهام لوجستية
-
تؤدي المرأة دورها اللوجستي بأريحية مطلقة فهي محمية بقوة العرف القبلي
لا تقتصر قوة هذا النسق من أعراف الحرب في اليمن على تخويل المرأة تلك الأعمال ذات الطابع السلمي فحسب، بل تتجاوز ذلك، إلى منحها الحرية والأمان في ممارسة أنشطة متعلقة بالحرب. إذ تؤدي دوراً يمكن وصفه بالدعم اللوجستي، يتمثل في اعتماد المتحاربين عليها، في تزويدهم ما يحتاجون إليه من الماء والغذاء.
كما أن نساء كل طرف من أطراف الحرب هنّ وحدهن من يستطعن الوصول إلى المناطق، التي يسيطر عليها الطرف المعادي؛ لحمل جثث القتلى وأسلحتهم، والعودة بهم إلى قراهم.
تؤدي المرأة دورها اللوجستي هذا بأريحية مطلقة، فهي محمية بقوة العرف القبلي؛ فمن المستحيل أن تتعرض لأي اعتداء من أي طرف من أطراف الحرب؛ لأن نساء كل طرف يقمن بذلك على مرأى رجال الطرف الآخر، سواء في حمل الماء والزاد وإيصاله إلى متاريس المقاتلين، أم في إخلاء ساحة المعركة من جثث القتلى.
العرف اليمني ومعطيات الحداثة
-
أكثر المناطق القبلية في اليمن التي لا تزال قوة النسق العرفي راسخة فيها هي برط والجوف ومأرب
لا شك في أن متغيرات الحياة المعاصرة ومستجداتها وتفاصيلها قد نالت _ إلى حد ما _ من حيوية بعض الأعراف القبلية؛ تداعياً مع حتمية الطفرة المتسارعة في وسائل الإعلام وثورة الاتصالات الحديثة. وذلك، هو ما يسري، بشكل أو بآخر، على أعراف الحرب، ولا سيما ما يتعلق منها بهذا النسق الخاص بحماية المرأة والطفل.
إن أكثر المناطق القبلية في اليمن، التي لا تزال قوة هذا النسق العرفي راسخة فيها، ـ هي تلك المناطق، التي تقع في الأجزاء الشمالية والشرقية، ولا سيما في: "برط"، و"الجوف"، و"مأرب". ومثلها عدد من المناطق، الواقعة في الأجزاء الشمالية الغربية، من مثل مناطق: "جماعة"، و"سحار"، و"الأهنوم"، امتداداً إلى ما يجاورها من مناطق متعددة، في سهل تهامة الشمالي.
أما المناطق التي تراجعت فيها قوة هذا النسق من أعراف الحرب في اليمن، فهي على مسارين، يتمثل الأول في مناطق التراجع المتسارع لممارسات هذا النسق في المناطق الوسطى، وتحديداً في أرياف المحافظات الثلاث: الحديدة، وتعز، وإب.
بينما يتمثل النسق الثاني، في مناطق التراجع الأكثر تسارعاً لهذه الممارسة العرفية، في الشطر الجنوبي من الوطن؛ تداعياً مع القيم الثورية، التي انتصرت لها ثورة 1963، وما أحدثته من تحولات جذرية في مختلف المجالات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، وما ترتب على ذلك من انحسار لهذا النسق العرفي، إلى مستوى يمكن القول في توصيفه بأنه يكاد يكون منعدماً.
عقوبات صارمة
-
أعراف الحرب في اليمن تلحق العار بمن يعتدي على المرأة
يستمد هذا العرف القبلي رسوخه وقوته من مرجعية الإسناد القبلي، ومن التوافق المجتمعي على ما فيه من جدوى، وما يقوم عليه من أهمية محورية لاستمرار مقومات الحياة القبلية، في أحوال الحرب وظروف الصراع المختلفة. بما في هذه المرجعية من التفات، إلى التعاطي مع من يتجاوز هذا العرف، فيعتدي على طفل أو امرأة، سواء في أحوال الحرب أو في أحوال السلم؛ إذ تؤطر التقاليد هذا الاعتداء ضمن ما يعرف بجرائم "العيب"، التي لها خصوصيتها العقابية، من مثل جرائم الاعتداء في "يوم الجراد"، أو "يوم السيل"، وغيرها من الأحوال، التي يكون فيها المعتدى عليه محمياً بقوة العرف الاجتماعي، كوجوده في السوق، أو المسجد، أو انتمائه إلى بعض الشرائح الاجتماعية، التي منها _ من دون شك _ الأطفال والنساء [2].
وبذلك؛ فإن أعراف الحرب في اليمن تُلحق العار بمن يعتدي على المرأة، كما تنص على عقوبة صارمة يجب أن تُفرض عليه؛ وفقاً لتقدير حال الاعتداء (3): فإن كان المعتدي قد اعتدى على المرأة عمداً؛ فإن عقوبته هي العقوبات الخاصة بجرائم "العيب"، التي منها التشهير العلني.
أما إن كان اعتداؤه على المرأة غير متعمد، فعقوبته أن ينفذ إجراءً آخر، تنفيذاً متناسباً مع هذه الحال، يُطلق عليه في المحكية اليمنية مصطلح "المربوع"، الذي ينص على معاقبة من اعتدى على امرأة من غير عمد بأن يدفع تعويضاً مالياً، يساوي دية 4 نساء.
(1) بمعية المرأة والطفل أيضاً يدخل في حماية أعراف الحرب القبلية في اليمن ما يعرف بـ"الرغل"، وهو الرجل أو الشاب غير المختون، الذي يكون معروفاً لدى الآخرين بأنه لم يطهر بعد؛ فمن العادات، في بعض المناطق القبلية في اليمن حينما يرزق الأب الذي يكون كبيراً في السن، ومطالباً بثأر من آخرين بمولود ذكر، فإن هذا الأب يحرص على عدم تطهير مولوده؛ رغبة منه في الإبقاء على حياته؛ لأن هذا المولود حينما يصل إلى مرحلة البلوغ، يصبح مطلوباً لصاحب الثأر، الذي سيسعى إلى أخذ الثأر منه لا من أبيه الجاني.
ولا يحول دون ذلك إلا أن يكون هذا الشاب "رغلاً" (غير مطهر)؛ لأنه في هذه الحال سيكون محمياً بذاك العرف القبلي. وقليلون هم الشباب الذين يتصالحون مع وضعهم هذا، لكن الأكثرية منهم - بعد أن يصلوا إلى مرحلة البلوغ - ويعرفوا السبب في عدم تطهيرهم ينتابهم الشعور بالنقص، لذلك يسارعون إلى سد هذه النقيصة بتطهير أنفسهم بأنفسهم، ثم يظهرون أمام القبيلة ملوحين بآثار دم التطهير، مؤكدين أنهم صاروا كغيرهم، وأنهم على استعداد لتحمل أي مسؤولية، بما في ذلك مسؤوليتهم في مواجهة قضية الثأر على أي حال.
(2) ماريك براندت، "بعض الملاحظات حول الثأر في اليمن المعاصر، في القبائل في اليمن الحديث: مقتطفات". مطبعة الأكاديمية النمساوية للعلوم، فيينا، 2021، ص28.
(3) محمد النجار، وعبد الملك عيسى، ونورية شجاع الدين، والحسن القوطاري، "الأدوات التقليدية اليمنية لحل النزاعات ودور النساء والرجال"، مؤسسة تنمية القيادات النسائية، 2018.