"جامع الأويسية" المملوكي: هندسة متقدّمة تمهّد للمرحلة العثمانية

ينتمي إلى الحقبة المملوكية ويحمل إسمه نسبة إلى محيي الدين الأويسي.. تعالوا نتعرف إلى جامع الأويسية.

يقع الجامع يمين أول طلعة قلعة طرابلس الأثرية، يحجبه بناء حديث عن الطريق العام، وتمثّل هندسته مرحلة الانتقال بين الحقبتين المملوكية والعثمانية، وتسهّل مئذنته الجميلة والمُتباسقة التعرّف على موقعه.

حمل المسجد إسم الأويسية نسبة إلى صاحبه محيي الدين الأويسي، حسب وقفيّة الجامع التي يرجع تاريخها إلى سنة 865 هجرية.

ولمزيد من التأريخ للمسجد، لا بدّ من العودة إلى المؤرّخ الطرابلسي الدكتور عمر تدمري الذي يوضح أنه "في السنة التي بُنِيَ فيها الجامع حسب ما تقول الوقفيّة،كان يتولَّى نيابة طرابلس الأمير أيَّاس المحمّدي الناصري المعروف بالطويل. وقد تولَّى النيابة فيها في ربيع الآخر سنة 863هــ عوضاً عن الحاج إينال اليشبكي".

يمكن الولوج إلى الجامع من باب خارجي في الجهة الجنوبية، ومنه إلى ممر على يمينه وبضع درجات تؤدّي إلى باب صغير يفضي إلى جناح الجامع الغربي. وينتهي الممر إلى باحة الجامع حيث الفسحة السماوية المستطيلة الشكل والتي تغطّي أرضيّتها قطع من الرخام. 

وعند منتصف الباحة، ينفتح باب الحرم الرئيسي للجامع الذي يزدان بإطار من الزخرفة المملوكية الشائعة والمنتشرة في العديد من الأبنية المملوكية في طرابلس القديمة. وللجامع مصلّى صيفي تقام الصلاة فيه هرباً من شدَّة الحر، ويقع على يمين الباب الرئيسي، وله محراب صغير.

يبلغ ضلع المربّع الذي يتكوّن منه حرم الجامع 10 أمتار ونصف المتر، وفي الجهة الغربية حرم أصغر يرتفع عن مستوى الحرم الرئيسي وله محراب خاص يخلو من الزخرفة، وهو ظاهرة لم يسبق أن لوحظت في أيّ مسجد آخر من مساجد المدينة المملوكية.

قبّة الجامع كبيرة نسبة إلى بقية قباب مساجد المدينة، ويتميَّز الجامع بضخامتها، ويفسّر تدمري الظاهرة بأنها  "تمهِّد لظهور القباب التركية"، ويقع محراب الجامع داخل إطار مستطيل الشكل ويخلو من الزخرفة، غير أن عمودين صغيرين يقومان على جانبيه ترتكز عليهما قنطرة المحراب. 

بساطة المحراب تؤشّر إلى بنيانه في فترة قريبة من العصر العثماني، وعلى حدود المرحلتين العثمانية والمملوكية. على يمين المحراب، يقوم المنبر الخشبي الذي تزينه زخرفة بتقطيعات هندسية جميلة تعتمد ما يعرف اليوم بفن الأرابيسك، ويبلغ طوله مترين ونصف المتر، وعرضه متر واحد.

ومئذنة الأويسية تتباسق فوق الجدار الشمالي المشرف على البلاط، وتتميَّز بأنها أسطوانيّة الشكل، ويقارن تدمري بينها وبين مئذنة جامع أرغون شاه العثماني، ويقول إنهما تتشابهان، مُستدركاً أن "مئذنة الأويسية أكثر سموقاً من مئذنة أرغون شاه". 

و"للمئذنة إفريزان دائريان كالسوار يحوطان ساقها، وتقوم فوق الساق الأعلى زخرفة من المقرنصات، والمجوّفات، والتوريقات، ويلفت تدمري إلى تدرّج هذه الأشكال الهندسية الجميلة في الاتّساع حتى تُكَوِّن دائرة أكبر حجماً من ساق المئذنة تقوم عليها الشرفة"، كما يلاحظ أنه "في وسط الشرفة يرتفع أسطوان أصغر حجماً ثم رأس المئذنة المخروطي".

ويُفيد تدمري أنه "قد جرى تجديد هذه المئذنة في سنة 941 هـــ. على يد نائب طرابلس، الأمير حيدره في أيام السلطان العثماني سليمان القانوني"، مُستدلاً على ذلك من كتابة نقشت في بلاطة من الرخام الأبيض، مُثبتة فوق عتبة باب شرفة المئذنة إلى الجهة القبليّة"، كما يقول. 

والكتابة من سطرين وفيها: "عُمِّر في أيام السلطان سليمان، جعله الله...(ثلاث كلمات غير واضحة)...أيام نايب القلعة وطرابلس، 941 الفقير حيدره حفظه الله في كل حال".

وعن سبب اهتمام السلطان سليمان القانوني بتشييد مساجد، أو التشجيع عليها، يُعَرِّف تدمري بالسلطان سليمان الأول أنه كان يمثّل العصر الذهبي للأتراك العثمانيين، ولُقِّب بالقانوني بسبب التشريعات الإصلاحية التي أصدرها، وجعلها دستوراً للحُكم، وهو عاشَر السلاطين العثمانيّين".

وفي زمن السلطان سليمان الأول، بُني أحد مساجد المدينة الفريد من نوعه، وهو الجامع المُعلّق لأنه يقوم فوق الطريق العام، ورغم أنه لا يرتكز على الأرض، لكن مئذنته ترتكز عليه وهو مرتفع، وذلك بحرفة معمارية شديدة الخصوصية تسمح للمئذنة المرتفعة كثيراً أن تستمر من دون تشقّق فيها ولا انهيارات. وقد بنى هذا الجامع محمود لطفي الزعيم مع قصر ومصلّى وحديقة مجاورة.

يُلاصق جامع الأويسيّة من الجهة الشرقية مسجد صغير بناه الأمير محمود بك السنجق المُتوفّى سنة 1020هــ. صاحب الجامع المعروف به قرب باب التبّانة القديم. وللمسجد بلاط على جامع الأويسية في الجهة الغربية ويواجه هذا الباب ضريح تعلوه قبّة، ويُدعى صاحب الضريح أحمد باشا.

ويلاحظ تدمري أنه في الجهة الشمالية من البلاط التابع لجامع الأويسية، تقوم غرفة تفضي إلى أخرى كان فيها ضريح لأحد العبيد الأولياء، وقد أُزيل الضريح منذ أكثر من نصف قرن، وينقل تدمري أن الدفين في الضريح كان "الأُوَيسيّ القُرَني".

ويعلِّق تدمري على إسم "حيدره" الموجود في الكتابة الوقفيّة ويقول إنه "نائب طرابلس، وقلعتها"، ويضيف إنه "يبدو أن في أيامه بُنِيَت مئذنة جامع القبّة القديم، على يد البَنّاء الماروني المعلّم إبراهيم الحصروني". كما يلاحظ وجود ضريحين في باحة المسجد الخارجية.