حرب المعلومات: الوجه الآخر للخراب

يقول كولون: في هذا الصراع لم تستخدم أي دولة سلاح المعلومات أكثر من الولايات المتحدة". من هنا، نستعرض سياقاً تاريخياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصطلح "حرب المعلومات.

  • حرب المعلومات: الوجه الآخر للخراب
    حرب المعلومات: الوجه الآخر للخراب

يعدّ ديفيد كولون David Colon، مؤرّخاً فرنسيّاً بارزاً، وأستاذاً في معهد العلوم السياسية في باريس. وهو معروفٌ بتدريسه تاريخ الدعاية وتقنيات الإعلام، وحاصلٌ على جائزة أكروبوليس عام 2019 عن كتاب ألّفه حول تلاعب البروباغندا السياسية بالجماهير. وفي كتابه الجديد "حرب المعلومات: كيف تسيطر الدول على عقولنا" (دار هاشيت/ أنطوان (2025)، يُفكّك الحربَ بمفهومها المعاصر، والشكلَ الذي اتخذته الصراعات الحالية بعيداً عن صيغ الحرب التقليدية؛ حيث لا حدود للسلم والحرب، ولا صياغة محددة للرسمي وغير الرسمي، بل تتجسد حرب العالم اليوم من خلال لجوء متعاقدين خارجيين إلى جيوش بالوكالة وجماعات مرتزقة. تلك الغاية الخفية لحروب العالم المعاصر؛ أي وجود صراعٍ خفيّ من غير الوصول إلى حربٍ معلنة، يجعلنا في موقع ارتباك. ذلك أن مقاتلي حرب المعلومات لا يقاتلون من جبهة أمامية أو من نهاية ميدان ما، بل يستغلون الظروف لبلوغ حربٍ سيبرانية؛ حيث يمكن استخدام مختلف مكونات الفضاء السيبراني لغايات السيطرة والتحكم.

وحيث تدور رحى الحرب في شبكة المعلومات، مروراً بالحرب الإلكترونية التي تتسع ساحاتها وحيث يغيب توازن الحرب الباردة ليحل محلها اضطرابٌ تفرضه حروب المعلومات. يشير كولون- من خلال كتابه الذي نقلهُ إلى العربية أدونيس سالم - إلى أنه في غضون سنوات فقط، أصبحت قوة الدول تعتمد بشكل غير مسبوق على قدرتها على استخدام المعلومات بوصفها سلاحاً لأغراض عسكرية أو سياسية أو دبلوماسية. أما بالنسبة إلى الأنظمة الاستبدادية فقد أصبحت المعلومات هي السلاح المفضل لتقويض العالم الغربي، وتخريب عقول الشعوب المستفيدة من الديمقراطية ونزع إرادتها السياسية. من هنا يطرح كولون أسئلة جوهرية تثير مسألة الحرب من زاويةٍ مغايرة: كيف نعرّف مصطلح المعلومات؟ وكيف استجاب خصوم الولايات المتحدة لحربٍ تقودها أميركا ذاتها؟ وما الذي تفعلهُ الدول العظمى لحماية نفسها من حرب المعلومات؟ وكنقطة انطلاق للمصطلح، يشير كولون إلى أن الولايات المتحدة وبعد الحرب الباردة أكّدت تفوّقها العسكري والتكنولوجي خلال حرب الخليج، حيث تجلى تفوقها المعلوماتي من خلال استخدام الحرب الإلكترونية وتطبيق مبدأ الهيمنة على المعلومات. ومع حرمان الخصم من هذه القدرة، إلا أنّ هذا التفوق يتجلى في مجال الإعلام بواسطة التأثير الكبير لوكالات الأنباء، ولا سيما قنوات الأخبار، في إنتاج معلومات لوسائل الإعلام العالمية. 

يقول كولون: "في هذا الصراع لم تستخدم أي دولة سلاح المعلومات أكثر من الولايات المتحدة". من هنا، نستعرض سياقاً تاريخياً يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمصطلح "حرب المعلومات"، ونطلع على الكيفية التي ابتدأ فيها، ومسار تطوره وانتقاله إلى مرحلة المواجهة بين الدول العظمى. إذ يواصل الباحث تركيزه على القضايا المعاصرة لحرب المعلومات في عصر وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية وانتشار المحتوى الفيروسي. حيث بات من المتاح لأي فردٍ أن يعلن نفسه صحافياً وطنياً، ويعطل أجندة الإعلام. والأسوأ من ذلك، أن يصبح جندياً في جميع الحروب من غير أن يعلم. ويفسر كولون ذلك لكون البيئة الرقمية تهيئ البيئة المادية بسهولة، ويتخذ مثالاً على ذلك: سيطرة تنظيم "داعش" على مدينة الموصل عام 2014، حيث نجح التنظيم في بث مقاطع فيديو تحتوي تعذيباً وعمليات تصفية وإعدام لإضعاف معنويات أعدائه. وهو ما نجح فيه التنظيم بعد استغلاله الدعاية الإعلامية وتقنيات التسويق الفيروسي الحديث لتطبق الجماعات الإجرامية طرقاً تدفع الجماهير للتفاعل معها. وهو ما يصفه بقوله:

"إن الخطّ الفاصل بين المراقب والمشارك أصبح غير واضح [...] يمكن لأي شخصٍ أن يصبح مجرماً بالوكالة". في مقابل ذلك، شكلت الولايات المتحدة في سبتمبر عام  2014 حرب معلومات كاملة ضد التنظيم، بعد أن عيّن باراك أوباما الجنرال جون آلن مبعوثاً خاصاً للاتصال بائتلاف الدول التي تحارب التنظيم، وكلّفهُ بمهمة تشجيع الدول الإسلامية على الانخراط في تلك الحرب التي قال فيها الجنرال آلن: "إن المعركة العسكرية هي الأسهل، علينا الانتصار في معركة المعلومات". 

وفي أحد فصوله المهمة، يتحدث كولون عن قدرة القراصنة الروس على اختراق رسائل إلكترونية غير مصنفة سرية في وزارة الخارجية الأميركية، حيث هاجم القراصنة خوادم البيت الأبيض رغم محاولات ال (NSA) على إخراجهم. ويقول كولون إن تلك المعركة التي حدثت في خريف عام 2014، كانت أشبه بطيران القاذفات الاستراتيجية الروسية عند حدود المجال الجوي للدول الغربية، قبل أن تقوم مقاتلات حلف شمال الأطلسي باعتراضها. ومن هذه الحادثة يشير كولون إلى ميل الدول الاستبدادية إلى تقويض الديمقراطيات، ولذلك، فهي تطبق استراتيجيات فوضى منوعة، كما في حالة روسيا، حيث إن الأمر لم يعد متعلقاً بتحدي الهيمنة الغربية فحسب، بل بإضعاف أركانها بشكل جذري. ولأجل ذلك، تقوم الدعاية الروسية بتوفير منصة لجميع القوى الطاردة، والأصوات الناقدة. إلى جانب أكبر تأثير ممكن على التوترات الاجتماعية والهجمات الإرهابية. وفي سياقٍ آخر، يوضح كولون كيف يستغلّ مروّجو المعلومات المضللة خصائص وسائل التواصل الاجتماعي من تشجيع على نشر محتوى، وإعجابات مضللة فقط لأنها تولّدُ تفاعلات وتعليقات، لذا فإنّ المخترقين يستغلون ثغرات أنظمة المعلومات وكلّ عيب محدود في العقل البشري. هذه الفوضى والعبث لغاية تجنيد أتباع، وتوفير حملات سياسية مستقبلية، هي في معظمها لخدمة المتصيدين وبناء جيوش سياسية. 

من هنا، لا بد من الإشارة إلى رصدِ كولون لنظريات المؤامرة بوصفها سلاحاً مفيداً في استراتيجيات الحروب النفسية والاضطراب السياسي، ذلك أنها كثيرة، وتُغرق الجماهير في منعطفات معتمة، وأبرزها التجاوزات العرقية والطائفية. إذ بات من الممكن لدعاتها استخدام الذكاء والتلاعب الاصطناعي لإنتاج مقاطع فيديو مزيفة، ومعززة بالحشو، وتُدفَعُ عبر التهويل، نحو فئة الشباب الذين يُعدون الفئة الأكثر استهدافاً. لذا بات من الصعب لأي جمهور أن يكون بمنأى عن حرب المعلومات هذه. 

في النهاية، يُشبّه ديفيد كولون حرب المعلومات في الشبكة الاجتماعية "بحرب أفيون جديدة"، وهي نوع من الحروب التي تهدف إلى إخضاع الغربيين عبر استغلال "الدوبامين بوصفه ناقلاً عصبياً " ومساهمته في تحويل السلوك الجديد مثل تصفّح مقاطع فيديو قصيرة، ليتحول إلى أيديولوجيا محرّضة، ويشير إلى ضعف الديمقراطيات اليوم في مواجهة الحروب السيبرانية. وهو ما يدعو إلى ضرورة تأسيس ما يسمّى توعية الرأي العام. "لأننا في حرب المعلومات، لم يعد ثمة أرض محايدة، فقد كنّا بالأمس، ونحن اليوم، وسنكون جميعاً غداً جنوداً في حرب المعلومات، وهي الآن باتت حرباً شاملة، وتشمل كلّ أبعاد مجتمعاتنا ووجودنا، سواء وعينا ذلك أم لا". 

اخترنا لك