"خرج والمفروض يعد": حنين إلى طفولة مصرية في الخليج

"خرج والمفروض يعد" معرض لقي نجاحاً باهراً في القاهرة، واستعاد المصريون من خلاله ذكريات طفولتهم في دول الخليج. كيف كان المعرض؟ وماذا عرض؟

خلال فعاليات "معرض القاهرة الفني"، أو "معرض القاهرة للكتب الفنية"، والذي اختتم أعماله في 10 كانون الأول/ديسمبر الجاري، شارك أحد أنجح المعارض، والذي أقيم مؤخراً في القاهرة، وهو معرض "خرج والمفروض يعد".

ومن خلال كتيب بشأن المعرض ينقل إلينا مؤسسوه والمشاركون فيه تجربة يساهم محتواها الفكري ومحتواها الإبداعي في كشف الكتابات الأدبية المتعلقة بهجرة المصريين إلى دول الخليج، من خلال مقالات متعددة وحوارات مع الفنانين والفنانات المشاركين في المعرض. تعالوا نَسْتَعِدْ معاً معرض "خرج والمفروض يعد"، كيف كان؟ وما هي محتوياته؟

***

إذا سألتَ عائلة مصرية تقليدية في الثمانينيات والتسعينيات عن أمنياتها، فسيكون بين أُولى الإجابات السفر إلى إحدى دول الخليج لتأمين المعيشة. في حال تحقق هذه الأمنية، ستجد الأسرة نفسها بكامل أفرادها في وطن آخر، يفتقدون الوطن الأم، ثم يعودون محمَّلين بالذكريات.

من هذا المنطلق جاءت فكرة معرض "خرج والمفروض يعد"، والذي لقي نجاحاً باهراً في القاهرة، وزاره كثيرون من الأشخاص الذين تأثروا بمحتوياته، وتفاعلوا مع الذكريات المحمَّلة بالحنين إلى الطفولة، التي تبثّها اللوحات تجاه من وُلدوا وعاشوا في بلدان الخليج، في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.

نزهة داخل المعرض

عند دخولك المعرض، الذي أُقيم في "مركز الصورة المعاصرة"، وسط العاصمة المصرية، تستقبلك لوحة خُطَّت فيها عبارة "تذكّر أنَّ إقامتك هنا موقتة". وعلى الرغم من أنَّ تلك العبارة ليست ترحيبيةً، لكنَّ كلَّ من زار دول الخليج وأقام بها يعرفها، فهي العبارة التي تجدها عند دخولك أيَّ دولة منها.

احتوت أول غرفة إلى يمين المدخل على أعمال فنية بصرية متنوعة، تستخدم تقنيات عرض مميزة، مثل "الديكوباج"، والتي تُعرض من خلالها قصة طفلتين صديقتين في سلطنة عُمان، وأخرى لعمل فني يضمّ المصطلحات التي تُطلَق على المرأة.

ونلج من هذه الغرفة عبر مدخل إلى غرفة مشابهة، تُعرض فيها أعمال من أنماط أخرى، إذ نرى فيها أعمالاً صوتية ممزوجة بصور، التُقِط البعض منها خلال فترة التنزّه العائلي، كما نرى في صور أخرى عائلات مجتمعة معاً. وفي صالة المعرض الرئيسة، هناك صورة بحجم الحائط، يظهر فيها طفل من دون صفات مميزة، يشبه جميع الأطفال، كما أنّه يلبس الملابس ذاتها المميزة للفترة الزمنية التي يعود إليها المعرض. كما أنَّ ديكور البيت وطراز الأريكة يعودان بنا إلى الفترة ذاتها. 

إلى جانب تلك الصورة، ثمّة عدد من الصناديق الورقية، التي كانت تحمل الهدايا من الوطن وإليه، كُتِب عليها أسماء المراسِلين والمُرسَل إليهم. كما نجد في غرفٍ أخرى أعمالاً فنية بصرية، عبر تقنية الفيديو، أحدها يعرض شريطاً سجّله رجلٌ، متوجّهاً فيه إلى عائلته، بالإضافة إلى شرائط متعددة تحمل أصواتاً من الغربة، وحنيناً إلى العائلة، وألبوم ذكريات من الصور والهدايا الرمزية، وشرائط كاسيت لمطربي تلك الفترة.

محل الميلاد سلطنة عُمان: تواصُل بعد 17 عاماً

  •  الخليج

شاركت نورهان عبد السلام في المعرض في عمل فني عنوانه "محل الميلاد: سلطنة عمان"، استخدمت فيه تقنية "الكولاج" للتعبير عن طبقات قصتها.

وُلدت نورهان وعاشت الجزء الأكبر من طفولتها في عُمان، وتنقّلت بين عدة مدن، كانت آخرها السويق، قبل أن تعود إلى مصر عام 2002، بعد 8 أعوام من الغربة. 

يحمل العمل قصة مثيرة، أنجزتها بعد أن سُجّلت في ورشة لـ"أنثربولوجي بالعربي". عمل نورهان هو عبارة عن صورة لها في طفولتها، وإلى جوارها صورة لطفلة أخرى، وخطاب حميمي كتبته، في الصف الابتدائي السادس، إلى صديقتها، التي لم تستطع رؤيتها في حفلة المدرسة بسبب غيابها عنها. وعلى الرغم من أنّها لم ترسل الخطاب إلى صديقتها، فإنّها احتفظت به، وفيه تشرح سبب حبّها الكبير لصديقتها، وتقدّم إليها وعداً بلقاء قريب.

بعد 17 عاماً، بحثت نورهان عن صديقتها كثيراً إلى أن وجدت حسابها في "فيسبوك"، وتحدّثتا طويلاً، ودعتها إلى حفل زفافها في عُمان، فتجدد الأمل داخل نورهان بلقاء صديقة طفولتها، لكنّه انطفأ سريعاً لأنَّ السفارة العُمانية رفضت طلبها الحصول على تأشيرة سفر.

صفارة سمسم: المناداة على الأم والأخت في الخارج

أحد الأعمال الفنية المميزة في المعرض، كان مشروع باسم "صفارة سمسم" لخالد الدمرداش، استخدم فيه تقنية الصوت المسجَّل على جهاز، وإلى جوار الجهاز صورة تظهر فيها أمه ممسكة بإحدى يديها طفلة، بينما تحمل طفلاً في اليد الأخرى. لكنَّ صورة الأم مشوشة، لا تظهر فيها ملامحها، كما أنَّ أجزاءً منها مُغبّشة، وهو تفاعل مقصود بحسب مخرج العمل.

وُلد خالد وعاش طفولته في مدينة جدة السعودية. وقال، في حديثه إلى "الميادين الثقافية"، إنَّ "سمسم هي كنية كانت تُطلق على والده"، أما الصفّارة، التي يستعيد بها ذكريات طفولته، فـ"كان والده يستخدمها في أثناء خروجهم إلى الأماكن العامة، بحيث لم يكن يستطيع أن يصيح باسم والدته أو باسم شقيقته بصوتٍ عالٍ، فاخترع صفّارة مميزة، ظل يستخدمها بعد عودتهم إلى مصر".

أمّا سائر الصور المرفقة مع "الذاكرة الصوتية"، فهي لبيتهم في جدة، والقصد من وجودها تعزيز الصورة البصرية لمشروعه، بحيث إنَّ أمه تفقد اسمها بعد الخروج من البيت، ويتحول اسمها إلى صوت الصفّارة. كما أنَّ التظليل المتعمَّد على الوجه والملامح لكل من أمه وشقيقته، هو ما كانت تفعله مطابع تحميض الصور في السعودية عند طبع صورة لسيدة.

"تورتة" عيد ميلاد القذافي

في أحد أركان المعرض غرفة منفصلة، تعمّدت المخرجة ناهد نصر أن تمنحها مظهر غرف الأطفال، وضعت فيها شاشة تلفاز قديمة ذات ألوان باهتة، وكرسياً إلى جواره شرائط كاسيت من تسعينيات القرن الماضي، بالإضافة إلى مجلات مصرية قديمة، تظهر في إحداها صورة القذافي مع السادات، بالإضافة إلى "الكتاب الأخضر" الذي وضعه القذافي.

تقدّم ناهد المشروع في هيئة "Video Installation"؛ أي فيديو مرفق ببعض الأعمال التوضيحية الأخرى، والتي تنتمي إلى الفترة الزمنية عينها التي يتناولها الفيديو. 

موضوع الذهاب إلى الخليج يشغل بال ناهد كثيراً، لأنّه يتماسّ مع ما عاشته في صِغَرها، على الرغم من أنّها لم تذهب إلى دولة خليجية، لكن الوضع في ليبيا كان مشابهاً لدول الخليج، بالإضافة إلى إحساس الغربة عن الوطن الذي يشعر به المصريون في المكانين.

اختارت ناهد هذه الصيغة لإخراج مشروعها، الذي عنونته "تورتة عيد ميلاد القذافي"، لأنَّ الفيديو هو الطريقة الأقرب إلى قلبها في التعبير عما تريده. ويصوّر الفيديو فترة الثمانينيات، وهي الفترة التي عاشت فيها طفولتها في ليبيا، وأرادت إخراج ما عاشته في تلك الفترة من خلال الصورة المتشكّلة في ذهنها على هيئة عمل فني، يبدأ باتفاقية "كامب ديفيد"، مروراً باغتيال السادات.

في تلك الفترة، لم تكن العلاقات جيدة بين القذافي والسادات، فكانت خطابات الأول موجودة باستمرار داخل أسرتهم.

لعبة الحظ

إيمان مجدي، مخرجة وفنانة بصرية مصرية، وُلِدت في المدينة المنورة في السعودية، وعاشت فيها حتى انتهاء الثانوية العامة، ثم تابعت دراستها الجامعية في مصر. تشارك إيمان في المعرض في عمل فني، عنوانه "لعبة الحظ"، يتمثّل بطاولة خشبية في ركن هادئ، عليها أوراق من "التاروت"، التي تقرأ الماضي والحاضر والمستقبل، إلى جانب قصة مكتوبة توضح تسلسل حكايتها عند عودتها إلى مصر، والأحداث التي مرّت فيها.

توضح إيمان، في حديثها إلى "الميادين الثقافية"، أنّها، من خلال عملها الفني، "كانت تقدّم قراءة طالع لحياتها عام 2000، حينما عادت من السعودية إلى مصر، وتنبؤاً بمستقبلها كذلك، في تسلسل فني قصدته بترتيب بعض الأوراق، كما تناولت طاقة العائلة من خلالها". وتضيف: "كان المشروع يقوم على اللعب بالزمن في طبقات تكشفية تفسيرية".

حكاية "خرج والمفروض يعد"

تقول فرح حلابة، مؤسِّسة مبادرة "أنثربولوجي بالعربي"، المنظِّمة للمعرض، في مطبوعة المعرض التعريفية، إنّ المعرض بدأ ورشةً تشاركية تفاعلية امتدّت فترة 3 أشهر، تناولت هجرة المصريين إلى الخارج، متأثرة بقصة شخصية حدثت معها، حينما سافر والدها إلى السعودية في التسعينيات، ولا يزال مقيماً هناك من أجل تأمين مستقبل أفضل لهم. وتأثّرت فرح بطلب الأب أن يُدفَن في مصر عندما يُتوفى. 

يبدأ المعرض بفهم الطفل زمانيته في أثناء تجربة الهجرة، وينتهي بالعودة إلى مصر. ومع كل غرفة من غرف المعرض، ينمو الفهم للوجود المصري الموقّت في الخليج. 

وكان الهدف من هذا التصميم مواءمة التجربة الشخصية مع مسار المتفرج عبر المعرض، من أجل مشاركة المهاجرين في زمنهم الخاص، ليصبح وجود المتفرج في تلك المساحة مُعاراً أيضاً.