خلل بناء الدولة العراقية كما شخّصه الشكرجي

لكن لا يمكن لأحد إنكار أهمية الحديث عن بنية العراق القبلية والعشائرية قديماً وحديثاً، لكونه جزءاً أساسياً من فهم الهوية العراقية، بل أمر حاسم فيه. 

  • كتاب
    كتاب "خلل بناء الدولة العراقية" للدكتور محمد الشكرجي.

صدر حديثاً عن دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع كتاب (خلل بناء الدولة العراقية، القوى الخارجية، القبيلة، الدين) لسعادة السفير العراقي السابق والأكاديمي، الدكتور محمد سعيد الشكرجي، وقد تشرفت بتقديم هذا الكتاب الذي يأتي في اطار بحث علمي سياسي / اجتماعي أنثروبولوجي نادر للحالة العراقية، وصفها في كتابه بالحداثة المفقودة، في محاولة علمية لتفسير أسباب فشل الدولة الحديثة منذ عام 1921، ومعرجاً على المنهج البنيوي في تفسير الأزمات السياسية. ولهذا فإن الكتاب الذي ليس كتاباً تاريخياً أو بحثاً سردياً بل دراسة عميقة للبنى السياسية والاجتماعية العراقية تقدم رؤى مترابطة لإشكالية بناء الدولة.

والمشروع الذي أطلقه الدكتور الشكرجي يشكل سلسلة علمية، إذ حمل كتابه الأول عنوان: "العراق، جذور مشاكل بناء الدولة، 1831- 1869: من أين أتينا ولماذا نحن بهذا الوضع؟"، (بغداد، 2017)، وقد تشرفت بتقديمه في أروقة معهد الخدمة الخارجية العراقية في وزارة الخارجية، عندما كنت معاوناً لعميد المعهد في حوارية غنية ومفيدة للكادر الدبلوماسي مع السيد السفير الشكرجي. حيث وجدت أن الكتاب الأول قد سلط الضوء على زوايا لم يشر إليها بالبنان بحثاً وتنقيباً في عوامل سوسيولوجية حاسمة في التحليل والتفسير والاستنباط لمعالم المجتمع العراقي وتحولاته التاريخية، ممهداً للإحاطة بالجذور العميقة للأزمة السياسية الحالية في العراق. وفي رؤية نادرة يرى الشكرجي في عام 1831 منطلقاً لعملية بناء الدولة العراقية، إذ شهد إلحاق الولايات العراقية وتوحيدها تحت إشراف والي بغداد وبدء تشكّل السوق الوطنية، أي إرساء دعائم العراق الحديث، وهذه رؤية علمية مهمة تستحق النقاش والبحث تفرد بها الشكرجي. 

واليوم يقدم المؤلف كتابه الثاني، حيث يدقق ويحلل الأحداث والوقائع التاريخية في مختبر سياسي واجتماعي لتفسير الظواهر الأساسية التي صاحبت عملية بناء الدولة العراقية، ثم يربط الوقائع والأحداث الأخيرة التي مر بها العراق منذ تأسيسه حتى حربه على الإرهاب، مستعيناً بأفكاره النظرية، ضمن تأثره بالمدرسة الفرنسية في العلوم السياسية ورؤيته كباحث عراقي مستقل وتجربته، لا سيما كسفير سابق في السلك الدبلوماسي العراقي. اذ اتسم بحثه العلمي بالوقوف ضد تحويل النظريات العلمية الى نوع من الأيديولوجيا. كما ابتعد عن مناهج التحليل السياسي الشرقي التي تعتمد على التصورات المسبقة والتصنيف الجاهز، الملائكي والشيطاني والوطني والعميل، وبالابتعاد عن مدح تلك الدولة أو ذم تلك الجماعة، محذراً من التصنيفات المسبقة أو التأثيرات الأيدولوجية أو المذهبية أو القومية.

   من المسلم به في البحوث والدراسات في علم الاجتماع السياسي أن الأحكام المسبقة تشكل عقبة كبرى أمام البحث العلمي في المجالات الإنسانية، كالعلوم السياسية والاجتماعية، وبسب تكرار الأزمات في العراق قديماً وحديثاً وتشابك المصالح المحلية والدولية، تزايدت المعوقات أمام البحوث والدراسات حول هذا البلد. وهو حال مراكز الدراسات الغربية أيضاً، إذ تتأثر تلك الدراسات بالتصورات المسبقة خصوصاً عن عراق ما بعد عام 2003 وحتى قبل ذلك، اذ يُروى أن حنا بطاطو عندما زار العراق في ثمانينيات القرن العشرين صادف صديقاً له أخبره أنه قرأ كتابه عن العراق، تعجّب بطاطو وسأله عن كيفيّة حصوله على كتابه الممنوع، فأجابه أنه استعار نسخة فاضل البرّاك رئيس جهاز المخابرات العراقية في عهد صدام حسين. 

فالكتاب تارة ممنوع وتارة مغلوط عبر ما يسمّى بإعادة كتابة التاريخ، وتارة أخرى ضحية المسلمات والتصورات المسبقة، لكن ثمة دراسات مهمة حاولت رسم ملامح وجذور الأزمة في العراق وخصوصاً تلك التي تتعلق بإشكالية الدولة في العراق، وتقف في صدارتها دراسة الشكرجي. 

أما منهج البحث، فيمكن إيجازه كما يلي: 

1- التنقيب والكشف عن المعطيات المتبعثرة في كتب التاريخ والدراسات عن الوثائق القديمة، ولا سيما العثمانية والبريطانية، وتدقيق مصداقيتها.

 2- التزام المنهج النقدي بالابتعاد عن الأحكام المسبقة السائدة وعن تحويل النظريات العلمية، الغربية أساساً، الى أيديولوجيات جديدة.

 3- عقد المقارنات في الزمن، بين الماضي والحاضر، وفي المكان بين المناطق العراقية وبين العراق وبلدان أخرى. 

4- التنظير، حيث يسمح تراكم المعارف بتحقيق جهد التعمق وبلورة نظرية لتفسير فشل الدولة في العراق، كما في بلدان مماثلة. 

ونشير هنا الى أن النظريات السياسية الاجتماعية الغربية انطلقت من واقع المجتمعات الغربية، لا المجتمعات الأجنبية، كما استفادت من تراكم معارفها هي، ولا ينفي ذلك ما تضمّنته من نتاج الحضارات الأخرى والتي تم صهرها واستيعابها تدريجياً. 

وكانت قاطرة الكتاب ممتعة وتتحرك بسلاسة بين محطات مفيدة باحثة في أنماط الاقتصاد والتنظيم الاجتماعي ومنظومات الثقافة لقبائل البدو والرعاة والعشائر، كجماعات مهمة وأساسية في العراق الحديث إبان القرن التاسع عشر، وتأتيرها على بنية الدولة فضلاً عن نظامها الاقتصادي وتعاملها مع أنماط السلوك الديني ومرجعيتها المستقلة فضلاً عن تشكيل بوادر وعيها الوطني وتوصيف لسلوكها السياسي الذي غالباً ما امتاز بكونه سلوكاً مؤثراً بشكل كبير على صانع القرار العراقي، مفسراً في تحليل جيو- اقتصادي الأدوار التي وظفت الثروة الزراعية إلى جانب الموقع الاستراتيجي قبل ظهور النفط في بحث اقتصادي معمق. 

ولا يخفى أن دور المجتمع العشائري لا يزال مثاراً للجدل، فقد أراد البعض ترسيخه والبعض الآخر الغائه، لكن لا يمكن لأحد إنكار أهمية الحديث عن بنية العراق القبلية والعشائرية قديماً وحديثاً، لكونه جزءاً أساسياً من فهم الهوية العراقية، بل أمر حاسم فيه. 

لذلك، فإن الفراغ الذي ملأه السفير الشكرجي اليوم يشمل حقبة تاريخية كأنها دخلت غياهب الجب العلمي، تلك المدة الواقعة بين عام 1869، وإلى تأسيس الدولة العراقية عام 1921. ورغم أن مجهر المؤلف ركز على التطورات الداخلية، إلا أنه لم يغفل عن دراسة تأثير الصراعات الإقليمية، كالاقتتال التركي الإيراني منذ بدايات القرن السادس عشر، وكذلك الصراعات الدولية كالمواجهة بين الدولة العثمانية والقوى الأوروبية، والتي تفاقمت خلال القرن التاسع عشر، والتغلغل البريطاني في العراق، واكتشاف النفط الذي أسهم في رسم معالم العراق الحديث. كما اكتشف حقائق جديدة عن الواقع العراقي، بدءاً بحكم مدحت باشا (1869 ــ 1872)، إلى احتلال بريطانيا للبلد عام 1917، ثم تأسيس الدولة سنة 1921. كل ذلك عبر بحث وتنقيب إبستمولوجي، نقدي تجريبي، للتوصل الى بناء تصور شامل للأوضاع والتحولات السياسية/الاجتماعية بعيداً عن السياق التقليدي في وصف الحالة العراقية التي يتم تصغير دراستها عبر ثنائية تحتاج الى مراجعة ونقد مثل تأثير صراع البداوة والمدينة على المجتمع والتي كتب عنها الدكتور الراحل علي الوردي.

إضافة الى ذلك، تمكن الشكرجي من بلورة نظرية لتفسير الخلل في بناء الدولة الحديثة في العراق وفشلها، بدرجات مختلفة منذ تأسيسها سنة 1921 والى يومنا هذا. تنطبق هذه النظرية على العديد من البلدان التي منعتها السيطرة الأجنبية من بلورة خياراتها السياسية، بدرجات مختلفة بحسب قوة تماسك المجتمع ودرجة اندماج الجماعات الجزئية. لا يتعلق الأمر إذن بدولة انبثقت عن المجتمع نتيجة لصراعات ذاتية، كالتي حصلت في إنكلترا وفرنسا مثلاً، بل تشكّلت في الواقع من مجموعة مؤسسات على النمط الغربي وصفها بالفوقية، لكونها فُرضت عملياً على المجتمع في سياق سيطرة أجنبية أيدتها فئات اجتماعية محدودة، وهو ما يفسّر ضعف اندماج مجتمعاتها في إطار الدولة.

لذلك، لا نستغرب من تأثير هذا الخلل على مسار هذه البلدان وإخفاقاتها، فرغم محاولات القوى الحية في العديد منها إصلاح مسار الدولة والمجتمع بعد الاستقلال، ظلت، بقصد أو من دون قصد، أسيرة النفوذ الأجنبي والهويات الفرعية التي لم تنصهر بما يكفي للتمكن من تصحيح بناء الدولة وإنجاز استقلالها الفعلي. وفي نموذج العراق، تساعد هذه النظرية، وعموم البحث، أيضاً على معرفة سر تكرار الاضطرابات الدموية فيه، منذ سنة 1921 إلى حد الآن، وعلى معالجة الأسباب العميقة للأزمة السياسية المتجددة وربما تقدم أيضاً مساهمة علمية في محاولة الخروج من الوضع الحالي والمتميّز أساساً بمعاداة متجذّرة للدولة وضعف تماسك المجتمع الكبير، مقارنة بقوة الانتماءات الجزئية، سياسية أم دينية أم قَبلية.

وهنا يرى المؤلف بكل واقعية أن الحل يكمن في إعادة بناء الدولة عبر إسهام القيادات الاجتماعية، مثل النخب والوجهاء والقيادات الدينية على اختلافها والعشائر، الى جانب المؤسسات الرسمية في تحشيد مختلف أطياف المجتمع في اتجاه تقوية الانتماء الوطني وإعادة تشكيل ثقافة مشتركة وهوية وطنية راسخة توظّف الذاكرة الجماعية حول حضارات العراق القديمة لتجاوز التغنّي بها الى التوعية بضرورة التخلص من آثار الانقطاع الحضاري والانخراط في عملية إصلاح الحاضر وبناء المستقبل.

من النتائج الأخرى المهمة للدراسة، تحليل الإصلاحات العثمانية ودور حكم الاستبداد في منع التطور السياسي وفي إدامة التفكك الاجتماعي، لاستناده الى الخطاب الطائفي وتوظيفه للمؤسسة الدينية الرسمية لدعم سلطة مرفوضة، وهو ما أدى الى فقدان مصداقية هذه المؤسسة حتى لدى أتباعها. كما يشير إلى تحول العديد من عشائر السنة، خلال القرن الثامن عشر، الى المذهب الشيعي الذي تميّز بحيويته الفقهية واستقلالية مراجعه عن السلطة. دولياً، اهتمت الدراسة ضمن أمور أخرى بتأثير التغلغل البريطاني وبضعف الدولة العثمانية البنيوي في مواجهة القوى الغربية الصاعدة الى نشوب الحرب العظمى، حيث برزت مفارقة قتال علماء وعشائر الشيعة الى جانب الدولة العثمانية وغياب علماء المذهب الرسمي وأتباعهم عموماً عن المشهد، برغم فتوى شيخ الإسلام في إسطنبول بالجهاد ونصرة الدولة. 

كذلك سلّط الشكرجي الضوء على ظواهر مهمة، كإقصاء الشيعة من قيادة الدولة الحديثة بعد ثورة العشرين وعدّها مظهراً لضعف الدولة وتفكك المجتمع في العراق الحديث، ثم انطبق ذلك لاحقاً على محاولات بعض السياسيين الانتقاص من "الحشد الشعبي" والمطالبة بإبعاده عن المدن بعد مساهمته القوية في تحريرها من سيطرة تنظيم "داعش"، سنة 2016. وإضافة الى معالجة صراع البداوة والحضارة بـ"نسخته العراقية"، كشفت الدراسة عن تشوه الوعي الوطني العراقي الوليد قبل وأثناء ثورة العشرين، مع تشخيص ظاهرتَين لا يزال العراق يعاني من آثارهما: الوعي الوطني العمودي، مقارنة بالوعي الوطني الأفقي العابر للجماعات الجزئية والمؤسس لثقافة وطنية، وغياب القائد لعموم الحركة الوطنية، وبينّ كيف أن البريطانيين وظّفوا هذا الوضع لترشيح أحد أولاد الحسين، شريف مكة، ملكاً على العراق. كما بينّ تأثير هذا الوضع على الحياة السياسية الى اليوم، كما في دستور عام 2005، حيث أسس لرئيس حكومة ضعيف إزاء رؤساء الكتل السياسية وزعماء الجماعات الجزئية في مجلس النواب.

المؤلف الشكرجي هو باحث أكاديمي وسفير سابق. بعد نيله البكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة بغداد، سنة 1970، حصل على الماجستير من جامعة بواتييه (فرنسا)، سنة 1975، وعلى ماجستير الدراسات السياسية المعمقة من جامعة غرينوبل، سنة 1979، ثم دكتوراه الدولة بدرجة الشرف الأولى من معهد الدراسات السياسية في باريس Science po، سنة 1985. بعد الكتاب الأول الذي ذكرناه عن الدولة والمجتمع وإرساء دعائم الدولة الحديثة، والكتاب الذي نحن بصدده، سيتبع ثالث يختص بما تضمّنته عملية بناء الدولة الحديثة من تدميرٍ للمجتمع العراقي، باقتصاده وتنظيماته وثقافاته. وبهذا سيستكمل الدكتور الشكرجي ترجمة ومراجعة أطروحته للدكتوراه، مع التنقيح الذي تفرضه ديناميكية البحث العلمي.