دي غويا والوجه الآخر للعالم

تقمص المجتمع الإسباني برمته ورسم اعترافات جارحة سبقت لوتريامون وفرويد والسورياليين،و كشفت وفضحت كل ما في الخفاء والظلال، ويقول تزفيتان تورودوف إن الرسم عنده أحد أشكال الاعتراف بالحقيقة الداخلية، فمن هو فرانشيسكو دي غويا؟

ينحدر فرانشيسكو دي غويا (1746 - 1828) من عائلة بسيطة. بدأ تمارينه الأولى على الرسم في 14 من عمره، وفي العام 1771 حصل على تقدير من أكاديمية بارما في إيطاليا، فكلف بتصوير جداريات كنيسة "نوسترا سنيورا ديل بيلار" في سرقسطة بإسبانيا.

عاد إلى مدريد عام 1774 إثر تكليفه بتصميم لمصنع الأقمشة الملكي بإشراف المصور فرانشيسكو بايو، فأنجز لوحته الشهيرة في ذلك الوقت "المسيح على الصليب" وهي موجودة الآن في متحف "برادو" وتعدّ من أجود أعماله حينها. كما عرضها غويا عام 1780 عندما قُبل عضواً في أكاديمية سان فرناندو.

مر عام 1793 قاسياً على غويا فأصيب بأمراض عدة تركته أصمّ لبقية حياته. انجذب نحو الأحداث السياسية في بلاده، وآمن بشعارات التنوير والحرية والعدل والمساواة التي سادت في فرنسا آنذاك بفعل كتابات فولتير وروسو. وكان الاعتقاد في ذلك الوقت أن هذه الأفكار ستكون بمنزلة منقذ ومحرر وسيرحب بها في إسبانيا، لكن ما حصل كان على النقيض من ذلك. ففي العام 1808 اجتاح نابليون بونابرت إسبانيا وارتكب أفظع الجرائم من إعدامات ومجازر جماعية بحق الشعب الإسباني.

بعد هذه الحرب، صار غويا انطوائياً وسوداوياً، فضلاً عن معاناته من الصمم، فزادت حدة اضطراباته النفسية وطغت عليه طبائع سلوكية قاسية وحادة مع نفسه ومحيطه. فالصمم جعله يقترب أكثر من أفكاره الداخلية وشحذ تصوراته البصرية، وصار تصويره أكثر كآبة وغمة ومأساوية. هكذا انفصلت أعماله عن الفن في عصره وصار مسكوناً بالغرابة والآثام والنفور، بعدما كان قريباً من مدرسة الباروك المصقولة والبهيجة في أعماله الأولى.

ظهر التحول في فن غويا بشكل واضح في لوحتيه (العملاق) و(الثالث من مايو). وكذلك في سلسلة (ويلات الحرب) حيث يصور غويا مراحل الحرب في أدق تفاصيلها وأثرها ووحشيتها، والمجاعة التي حصلت في مدريد نتيجة الحصار، كما أوضح عمق مأساته في أن هؤلاء الفرنسيين الذين كان معجباً بهم وبأفكارهم يقطعون أوصال إسبانيا.

بعد انتهاء الحرب، تلقى غويا انتقادات عدة من الملك فرديناند السابع على رسوماته وأفكاره آنذاك. كما انصرف عنه جمهور الصور الشخصية نتيجة تبدل أسلوبه والتغييرات التي طرأت عليه. وفي تلك الظروف، ضاقت الأحوال على غويا أكثر فأكثر فقرر أن ينعزل في بيت بعيد عن مدريد أطلق عليه اسم "بيت الصمم". عاش فيه وهو في حالة صحية متدهورة، فاقداً للسمع والتواصل مع العالم، وفي ظروف صعبة. إذ فقد زوجته وصديقته ماريا تيريزا. حينها، ملأ غويا جدران منزله بسلسلة أطلق عليها اسم (اللوحات السوداء) وهي الأعمال الأكثر غموضاً ورعباً ووحشية وتأثيراً.  إذ اتسمت بقتامتها ومواضيعها وفجائعيتها، سجل فيها غويا أوهامه وآلامه وصراعاته الداخلية، وشكلت تطوراً هاماً في تاريخ الفن،  باعتبار أنه سبق السورياليين بعقود، ومن تلك المجموعة لوحته الشهيرة "ساترن يأكل أبناءه" التي عدّها البعض اللوحة الأكثر ترويعاً في تاريخ الفن.

يعرف غويا عمله "النزوات" بأنه أعمال فنية تتعلق بموضوعات نزوية ناقدة، تسخر من الظواهر اللا إنسانية، وتدعو إلى إيقاف الاعتداء على الأخلاق، وتثور على التحايل والانتحال والرياء والنفاق. وتطرح صوراً تتخطى بجرأتها وقوتها كل الحدود وخصوصاً في قدرتها التعبيرية والكشف وفضح مشكلات الإنسان والمجتمع الإسباني في ذلك الوقت. كما شكلت نقداً لاذعاً وانعكاساً لأعماق اللاشعور تدل على مهاوي النفس وتبرز مراميها الأخلاقية.

ففي محفورة "الكل يسقط" كتب غويا: "يا له من أمر عجب، فأولئك الذين يتهاوون لم يعتبروا من سقوط السابقين، فلا سبيل للخلاص، لأن الناس جميعاً سينهارون لا محالة"، وتتألف النزوات من 3 مجموعات شكلت رسالة فلسفية نفسية بصياغة فنية جديدة قطعت آخر صلاتها بالجمالية الكلاسيكية نحو ذروة التعبير الصارم والعنيف، فجذبت الكثير من مصوري (الرومانسية) في فرنسا وفي مقدمتهم دولاكروا.

فتحت رسومات غويا آفاقاً واسعة أمام الرومانسية والواقعية والانطباعية والتعبيرية والسريالية والرمزية، وتأثر به عدد كبير من الكتاب والشعراء والمصورين الكبار. كما أثّر في أعمال فنانين تشكيليين ومخرجين سينمائيين معاصرين تبنوا رؤيته في "النزوات" مثل: الأسترالية ترايسب موفات والكولومبي فرناندو بوتيرو، والأميركي روبرت لونغو، وغيرهم. فقد شكلت شخصية غويا علامة فارقة في  أنحاء العالم كافة، وأنجزت عشرات الأعمال التوثيقية والتاريخية والفنية عنه.