فلاديمير سوروكين في "الدكتور غارين": عن الفساد والسلطة العمياء
هذه الرواية ليست مجرّد حكاية روسية، بل هي نصّ عالمي، يعبّر عن قلق الإنسان في زمن تتداعى فيه الحضارات. وهي، قبل كلّ شيء، تذكير بقوة الأدب وقدرته على أن يكون مرآة للخراب، ووسيلة لمقاومته في آن واحد.
-
رواية "الدكتور غارين" للكاتب الروسي فلاديمير سوروكين
تأتي رواية الدكتور غارين للكاتب الروسي فلاديمير سوروكين كأحد أبرز الأعمال الأدبية التي أثارت نقاشاً واسعاً في المشهد الثقافي الروسي في السنوات الأخيرة. فهي ليست مجرّد حكاية مغامرة في فضاء غرائبي، ولا هي نصّ ديستوبيا تقليدي يكتفي باستعراض الخراب والوباء، بل هي رواية متشعّبة المستويات، تجمع بين الهجاء السياسي والفلسفة الأخلاقية والرمزية التاريخية، وتستدعي في الوقت نفسه تراث الأدب الروسي والعالمي لتضعه في مواجهة أسئلة الحاضر. من هنا يمكن النظر إليها باعتبارها نصاً أدبياً يعكس لحظة تاريخية حرجة، ويستثمر الخيال ليعيد مساءلة معنى الإنسان في زمن ينهار فيه كلّ يقين.
منذ الصفحات الأولى، ينخرط القارئ في رحلة الطبيب غارين، الذي يتحرّك في فضاء ينهشه الوباء ويهيمن عليه الخراب. المهمّة الظاهرية للطبيب هي مواجهة المرض وإنقاذ البشر، لكنّ النصّ سرعان ما يكشف أنّ الرهان أعمق: فالمعركة ليست ضدّ الجراثيم وحدها، بل ضدّ الفساد والسلطة العمياء وتفكّك المجتمع. الوباء يتحوّل هنا إلى استعارة كبرى، إلى رمز يختزل انهيار المنظومات الأخلاقية والسياسية، ويضع الفرد أمام امتحان مستمر بين الأنانية والتضامن، بين الرغبة في النجاة والالتزام تجاه الآخرين.
شخصية غارين محورية في هذا المعنى. فهو طبيب، أي حامل للمعرفة والعلم، لكنه أيضاً إنسان متناقض يتأرجح بين الأنا الفردية والواجب الجماعي. أحياناً نراه ينجرف وراء غروره أو مصلحته الخاصة، وأحياناً أخرى ينقذ من حوله من دون أن يطلبوا ذلك. في هذا التوتر تكمن قوة الشخصية: إنها مرآة للإنسان المعاصر الذي يعيش في عالم مرتبك، فاقد للبوصلة، لكنه يظلّ متشبّثاً ببصيص أمل. وهذا البعد الأخلاقي يمنح الرواية طابعاً يتجاوز السخرية السوداء التي اشتهر بها سوروكين، ليقترب من شعرية إنسانية مفعمة.
أسلوب سوروكين في الرواية يقوم على الهجنة اللغوية والفنية. فهو يستخدم لغة علمية دقيقة في وصف الأوبئة والعلاجات، لكنه لا يتردّد في إدخال نبرات عامية وفولكلورية حين يصوّر القرى الروسية وأهلها. هذا التداخل يخلق إيقاعاً متناقضاً، يعكس بدقة الانقسام الحضاري بين حداثة علمية متسارعة ومجتمع غارق في التقاليد والجمود. ومع ذلك، فإنّ هذا التنافر لا يُقرأ كعيب بل كقصد فني، إذ يعكس طبيعة الواقع الروسي الممزّق بين الماضي والمستقبل، بين الدولة السلطوية والإنسان البسيط الذي يواجه مصيره بوسائل بدائية.
الرواية لا تكتفي بالاشتغال على مستوى اللغة والحبكة، بل تفتح نفسها على فضاء التناص الأدبي والثقافي. القارئ الملمّ بالأدب الروسي يجد إشارات صريحة إلى تراث تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف، ليس بوصفها اقتباسات زخرفية، بل كحوار مع الماضي. الرحلة التي يقوم بها غارين يمكن أن تُقرأ بوصفها نسخة معاصرة من رحلات السندباد أو حتى من ملحمة جلجامش، لكنها في الوقت ذاته صدى للرحلات الروسية الكبرى التي وسمت القرن التاسع عشر. بهذا المعنى، فإنّ سوروكين يعيد كتابة تاريخ الأدب، يضع النصوص القديمة في مواجهة أسئلة الحاضر، ويؤكّد أنّ الأدب ذاكرة حيّة لا تنفصل عن واقعها مهما تغيّرت الأزمنة.
على مستوى البناء الفني، يستثمر سوروكين تقنيات ما بعد الحداثة من تفكيك وتهكّم وكسر للتتابع الزمني، لكنه لا يقع في فخّ التجريب العقيم. بل إنّ الرواية تظلّ محتفظة ببنية مغامرة تقليدية، مما يمنحها جاذبية للقارئ العادي الذي يتتبّع القصة، وللقارئ المتخصص الذي يتأمّل مستوياتها الرمزية. هذا التوازن بين البنية الكلاسيكية والروح التجريبية يجعل من "الدكتور غارين" نصاً يتجاوز تصنيفه كرواية خيال علمي أو ديستوبيا، ليغدو نصاً إنسانياً عنيفاً وشفّافاً في آن.
أما على المستوى السياسي، فلا يمكن إغفال ما تحمله الرواية من دلالات مباشرة. فالنص مكتوب في سياق روسيا ما بعد الألفية، حيث تتفاقم أزمة الدولة المركزية وتزداد التوترات الداخلية والخارجية. في هذا السياق، يظهر الوباء بوصفه صورة للسلطة الاستبدادية التي تنتشر وتفتك، وللمجتمع الذي ينهار تحت وطأة الخوف ويبدو بوضوح قراءة رمزية للواقع الراهن، ولا سيما في ظل الأزمات العالمية مثل جائحة كورونا وما كشفته من هشاشة البنى السياسية والاقتصادية.
لكن ما يجعل الرواية تتجاوز حدود السياسة المباشرة هو إدماجها للذاكرة الأدبية والفلسفية كجزء من مقاومة الخراب. فالأدب ليس مجرّد خلفيّة أو مرجع، بل وسيلة للنجاة، أداة تمنح الشخصيات القدرة على الصمود. هذا الحضور المكثّف للكتب والقصص داخل الرواية يذكّر القارئ بأنّ الأدب نفسه هو العلاج الحقيقي، وأنّ بقاء الذاكرة الجمعية هو الضمانة الوحيدة في مواجهة التفتّت. بذلك يوجّه سوروكين رسالة مزدوجة: النقد السياسي من جهة، والإيمان بقوة الأدب كفعل خلاص من جهة أخرى.
في ضوء كلّ ذلك، يمكن القول إنّ رواية "الدكتور غارين" ليست نصاً عن الوباء بقدر ما هي نصّ عن الإنسان في مواجهة الانهيار. الطبيب هنا ليس مجرّد بطل مغامر، بل هو رمز لإنسانية معلّقة بين الأنانية والتضامن، بين الأمل واليأس. والرحلة التي يخوضها ليست سوى استعارة لرحلة البشرية كلّها في زمن تتقاذفه الأزمات. لذلك يمكن النظر إلى العمل باعتباره شهادة أدبية على لحظة تاريخية حرجة، وفي الوقت ذاته نصاً فلسفياً يتأمّل معنى البقاء.
رواية فلاديمير سوروكين "الدكتور غارين" تمثّل ذروة جديدة في مسيرة كاتب عُرف بجرأته التجريبية وسخريته السوداء. في هذا العمل، يجمع سوروكين بين السرد المغامر والتأمّل الفلسفي والهجاء السياسي، ليقدّم نصاً متشابكاً يثير الأسئلة أكثر مما يقدّم الأجوبة. من خلال شخصية الطبيب الغامض، يعرض لنا صورة الإنسان الممزّق بين نزوعه الفردي والتزامه الجماعي، ويحوّل الوباء إلى مجاز لانهيار الأنظمة والقيم. الرواية بهذا المعنى ليست مجرّد حكاية روسية، بل هي نصّ عالمي، يعبّر عن قلق الإنسان في زمن تتداعى فيه الحضارات. وهي، قبل كلّ شيء، تذكير بقوة الأدب وقدرته على أن يكون مرآة للخراب، ووسيلة لمقاومته في آن واحد.