زيارة مستعارة لعالم عزيز نيسين.. الغريب كصالح في ثمود

من أبرز كُتّاب الكوميديا السوداء في العالم، ولقّب بـ"موليير تركيا"... إليكم قصة عزيز نيسين.

  • السخرية هي
    السخرية هي "السلاح الأخير" في يد ضعفاء الشعب، وفق تصوُّر نيسين

لعلّ في الكوميديا شيئاً يعزّي النفس عن الخسارات والتجاهلات لقيمةٍ ما يحملها الإنسان، كالإبداع أو الموهبة، وكلّما كانت الكوميديا مغرقة في السواد، كانت محقِّقة لهدف العزاء الأكبر والاستلقاء على الظهر من كثرة الضحك المشوب بالدموع. 

في قمة هرم الكوميديا السوداء، يتنكّر الأديب المبدع للواقع ولكل حقيقة فيه، بما فيها حقيقته هو، وأول عنوان للحقيقة المتروكة هو اسم يحمله كل منا في مقدمة حياته، مستكملاً به العمر كغريب، تترك حتى اسمك خلفك، وتعيش قيمة مستعارة في زمنٍ وبلدٍ ينكرانك.

من أبرز كُتّاب الكوميديا السوداء في العالم عزيز نيسين (1915 - 1995)؛ الأديب والشاعر والعسكري التركي، الذي يشكّل امتداداً حيّاً لأسطورة المبهم المعلوم، والذي سبقه كثيرون في قائمة الكُتّاب أصحاب الأسماء المستعارة. فقد اختار لنفسه اسمه الأدبي المعروف، بدل اسمه الحقيقي محمد نصرت نيسين، ربما تهرّباً من واقعٍ تطارده فيه قوات الأمن في بلاده، أو إخفاءً لألم لا يستطيع مواجهته، أو ربّما تعالياً على الواقع وإنكاراً له، وقد يكون تناسياً لذاته التي لا يعرفها حق المعرفة.

"موليير تركيا"

وصف النُّقّاد كتابات نيسين بالساخرة المُرّة، ولقّبوه بـ"موليير تركيا"، كأنّ الضحك على الأشياء من وجهة نظر أعماله يُفقدها معناها وتُربتها الخانقة، يحررها من القيود ويُطلقها في فضاءٍ من الضحك القاتم.

نيسين، الذي كرّمته بلدان كثيرة ولم تكرّمه بلاده إلى أن مات عام 1995، وُلِد في منطقة قريبة من اسطنبول، في عالم مُريب وغريب بالنسبة له، لذا قرّر أن يتعامل معه بمنطق الشغب، ففي الشغب تبدو البراءة الطفولية في مواجهة وحش الواقع، وفيه أيضاً يبدو العبث سيداً للموقف، ولم تكن هناك ساحة شغب أكبر بالطبع من الشغب مع السلطة، الأمر الذي كلّفه سنواتٍ من الاعتقال.

السخرية هي "السلاح الأخير" في يد ضعفاء الشعب، وفق تصوُّر نيسين، في مواجهة القوى التي تمنعهم من التنفس، وقد بدا ذلك جليّاً في عمله ذائع الصيت "باشا زاده"، ذلك المحتال الذي يكسب تعاطف الجمهور عبر انتحاله صفاتِ غيره، من ضابط إلى أمين مخزن. ربما يشبه نيسين أبطاله في حزنهم، رغم أنّه انتصر لذاته الضعيفة الهاربة فيهم، فقد تلقّوا قدراً من الحب رغم أنّه محكوم عليهم من قبل السلطات بأنّهم دون مستوى الشبهات، "هكذا هي الحياة؛ تكشف البعض وتعتّم على البعض الآخر"، كما يقول نيسين على لسان أحد أبطاله.

نيسين بين مأساة وملهاة

نشأ عزيز نيسين فقيراً بين أفراد مجتمع غني، الأمر الذي ولّد لديه حاجة ماسّة إلى خدمة الفقراء، وهو في هذا لم يكن ناقماً على الأغنياء قط، بل كان يعتبر نفسه حسن الحظ لأنّه لم يولد لعائلة مشهورة وغنية، حسبما كتب في سيرته، لذا لم يسعَ في حياته إلى التجارة أو الكسب، بل كان مدافعاً عن أولئك المقهورين بنار الرأسمالية العالمية في فترة صعبة من تاريخ الصراع الكوني، سواء فور مولده بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، أو بين الحربين، أو بعد الحرب العالمية الثانية.

يقول نيسين في مذكراته: "بدأتُ كتابة القصة أثناء فترة خدمتي العسكرية، ومنذ ذلك الوقت نعمت بالحنق والاستياء من رؤسائي كجندي يكتب للصحافة. لم أكتبْ باسمي الصريح إنما باسم أبي: عزيز نيسين، أما اسمي الحقيقي (نصرت نيسين)، فقد حُجِب وأصبح طيّ النسيان. بعد سنوات، عندما ذهبت لتسلم نقود حقوقي المحفوظة عن ترجمة كتبي للغات أجنبية، اكتشفتُ أنّه يتعيّن عليّ المعاناة أيضاً لإثبات أنّني هو ذاته الكاتب عزيز نيسين".

ربّما شكّل هذا المشهد المتناقض مأساة وملهاة للكاتب التركي متعدد المواهب والاهتمامات الإبداعية، فقد اكتشف أنّه صار مجرد اسم ورمز استعاري لوجوده الحقيقي، بعد أن هرب من دفاتر الدولة وصار شخصاً مغترباً وهو وسط قومه، مثلما شعر المتنبي حال اغترابه بين أهله، وعبّر عن ذلك بقوله: "غريبٌ كصالحٍ في ثمودِ".

هذه المفارقة ربما خلقت في الكاتب الحامل اسم أبيه نوعاً من الانقسام النفسي، وقد تكون السبب في اعتماده السخرية نهجاً كتابياً نهائياً؛ السخرية من كل شيء حقيقي لأنّه ربما رآه غير حقيقي، والعكس صحيح، هو الواقع في مساحة ملتبسة بين الوجود وعدم الوجود، فنراه ذات يوم يأخذ قصة من قصصه، كان يحاول دفع الناس فيها إلى البكاء، إلى رئيس تحرير إحدى المجلات، متوقعاً أنّه سيغرق في بكاء ونحيب طويلَين، لكنّ الرجل كان يقرأ ويضحك بصوت عالٍ قائلاً له: "برافو، رائع جداً، اكتب المزيد مثل هذه واجلبها إلينا"!

فُرجة على الذات

أن تكون شخصاً غير الذي أنتَ عليه، وترى نفسك من الخارج، هو خير وسيلة لتقييم ذاتك، هذا ما يمكن تطبيقه عبر رواية "سرنامة"، التي تذوب فيها المأساة وينعصر المجتمع متدلّياً من حبل السخرية وهو جالس على كرسي من الفساد.

هذا الخليط الذي يتبدّى مثلاً في مشهد الإعدام، الذي استحال عرساً كبيراً يُرينا كيف نتفرّج على الآخرين، بينما هؤلاء الآخرون هم نحن ولكن في ثوب مختلف، من هنا يبرز نيسين ككاتب عالمي، متجاوزاً ما يطرحه عن بيئة محلية تعاني انتهاكات بحق الإنسان، ومؤامرات فساد كبيرة.

صديق اليتامى

كثيرون من كُتّاب العالم الكبار يتبرّعون بمكتباتهم لمؤسسات ثقافية كبرى في بلدانهم، لكنَّ "الاشتراكي" عزيز نيسين قرّر تحويل بيته الواقع في إحدى ضواحي إسطنبول إلى دار للأيتام، تنفق على الأطفال وتصرف على رواتب العاملين بالمنزل من مبيعات كتبه، وعوائد إيجارات بعض العقارات، وتبرعات محبيه من قرائه من جميع أنحاء العالم.

يلائم هذا الخيار الأفكار التي عاش من أجلها عزيز نيسين، الروائي والشاعر والقاص والصحافي المتمرّد الخارج على الأطر والقوانين، مبتكر الشخصيات التي لا ترضى بذاتها ومصيرها، فتحاول صُنع مصيرٍ مختلف ولو عبر الخيال، تماماً ككاتبها الغريب عن نفسه، والذي حاول إذابة ذاته في ذوات الناس من قسوة ما كان يعانيه من اغترابٍ داخل وطنه.