فيديريكو غارسيا لوركا.. أخٌ وآخٌ لكل البشر

عرف بــ "الشاعر القتيل" وقيل إن مصرعه سيكون سبباً في زوال نظام فرانكو في إسبانيا.. من هو فيديريكو غارسيا لوركا؟

  • فيديريكو غارسيا لوركا (1898 - 1936)، رسم: ماريا نصر الله
    فيديريكو غارسيا لوركا (1898 - 1936)، رسم: ماريا نصر الله

ما الذي يمكن قوله عن فيديريكو غارسيا لوركا (1898 - 1936) بعد كلّ ما قيل عنه؟ لقد وقعتْ جريمة في غرناطة، تتردّد هذه الكلمات لرفيق لوركا وزميله في الموت أنطونيو ماتشادو. ولا يزال أهالي غرناطة يندبون الشاعر وينشدون أشعاره وأغنياته العميقة في كلّ ذكرى لمولده. وقد خرق لوركا، بموته الأسطوريّ فجر 19 آب/أغسطس عام 1936، قاعدة أن يُكتَب عنه لقول شيء جديد عن شعره أو مسرحه أو محاضراته أو لوحاته أو موسيقاه، من دون ذكر مقتله.

 يقول الفرنسي لويس بارو: "لقد شُيّد نظام فرانكو على قتل لوركا، وإنّ هذه الجريمة هي التي ستكون السبب، يوماً، في مصرع هذا النظام. وإنّ ذكرى الشاعر القتيل، وحدها تعادل، اليوم، جيشاً، بقوتها".

يُكتَب عن لوركا كأخٍ وآخٍ لكلّ البشر: شاعراً شهيداً، وإنساناً مرهفاً، وأسطورةً من لحم لم ينضج في العالم، ودمٍ متفجّر ولا يزال يتدفّق في إثر الرصاص. إنّ الكتابة عن لوركا، هي محاولة من محاولات كلّ أخوته، لترميم ورتق الفجوات والجراح التي تركها الرصاص في جسده.

ترك قلبه كلّه

لوركا الذي قال في تقديمه لديوانه "قصائد متفرقة" إنه يريد أن يترك في الكتاب قلبه كلّه، فعل ذلك ومضى. دواوين الشعر بالنسبة إليه خريفٌ ميت، وكواكب تعبر السكونَ الصامت. الشِعر مرارة، وعسلٌ سماوي، وهو تحويلُ المستحيل إلى ممكن، والقيثار إلى قلوب ونيران. صوتُ القارئ هبوب الريح، الشاعر شجرةٌ ثمارها الحزن وأوراقها جافة، لكي يبكي الأشياء الحبيبة إلى نفسه. وهو وسيطُ الطبيعة، يفهم كل ما لا يُفهم، ويسمّي الأشياء البغيضة بأسماء صديقة حبيبة. 

لوركا الذي كان نابغة وفكهاً، كونياً وريفياً، هو خلاصة أعمار إسبانيا وعهودها، صفوة الازدهار الشعبي، كما يصفه بابلو نيرودا. وفي مكانٍ آخر يصفه: "كان ومضة متجسّدة من الاستنارة. قوة في حركة دائمة، مهرجاناً، روعة. سحراً سوبرمانياً في جملته. وجوده سحري، ذهبي، والسعادة تتدفق منه".

ما يؤكد أنّ لوركا ترك قلبه كلّه في شعره، ما جاء في رسالة كتبها لصديقه جورج زالاميا عام 1928 يقول فيها: "إني متجه إلى إبداع شعر يتدفق مثل تدفق الدم حين تقطع رسغك، شعر أخذ إجازة من الواقع ومكتوب بشعور يعكس كل حبي للأشياء واستمتاعي بالأشياء حتى الموت، واللعب مع الموت".

وعن هذا التارك قلبه كلّه، ثمة كتب كثيرة، تتحدث عنه أو عن غرناطته أو شعره، منها كتاب "غرناطة لوركا" لإيان جبسون، وكتاب "فدريكو غارسيا لوركا قيثارة إسبانيا - دراسة في حياته وشعره ومسرحياته" لشاكر الحاج مخلف.

و"لوركا؛ سيرة الشباب والشعر" لنجاح الجبيلي، و"قيثارة غرناطة فيدريكو غارسيا لوركا؛ خط سير رحلته الإبداعية" لسعد عبد الله الغريبي، إضافة إلى كتاب ماهر البطوطي "لوركا شاعر الأندلس". كذلك فإن المقدّمة التي كتبها علي سعد لترجمته لمسرحية "عرس الدم" عام 1954، تشمل عرضاً وتحليلاً لآثار لوركا. 

كما ترجم خليفة محمد التليسي، قبل ترجمته لأعمال لوركا الشعرية الكاملة في جزءين، كتاباً بعنوان "لوركا، دراسات نقدية" صدر في الستينيات عن دار نشر أميركية، واشتركت في تأليفه مجموعة من الدارسين والشعراء وأصدقاء لوركا ومن أتيح له أن يكون على صلة أو معرفة شخصية به.

لوركا الشاعر

يعالج إدوارد ستانتون في كتابه "لوركا والغناء الأندلسي العميق" (ترجمة حسين مجيد عن "دار أزمنة" 1999) علاقة لوركا بموسيقى التراث الأندلسية المعروفة بالأغنية العميقة، أو الفلامنكو. ويشرح في كتابه منحى لوركا النظري والعملي في الوصول إلى الأغنية العميقة كما جاء في المحاضرات التي ألقاها عن الموضوع خلال مهرجان أقيم عام 1929، كما يبحث عن الأصداء المباشرة وغير المباشرة لهذه الموسيقى في الشعر اللوركي، مثل الحزن الأسود والقيثارة والثور ومصارعة الثيران. ويتوصل ستانتون أخيراً إلى إيجاد الموازي الرئيس بين عمل الشاعر والأغنية العميقة، متمثلاً في ما يسمّيه "الأسطورة المأساوية".

كُتِب الكثير عن إنتاج لوركا، على غزارته، إذ ترك 13 ديواناً شعرياً و11 مسرحيّة وعدّة أحاديث ومقابلات ولقاءات صحافية، ومراسلات مع أهم أدباء الفترة التي عاش فيها.

تؤرّخ رشا علي إسماعيل وتشرح إنتاج لوركا الشعري في مقدمتها للديوان الكامل، في جزءيه الصادرين عن "المركز القومي للترجمة"، بترجمة خليفة التليسي. تنطلق من الأندلس كسمة ورؤية في عوالم لوركا الشعرية، كما تعرض أهم السمات الأخرى، عبر تناولها لكلّ ديوان من دواوين الشاعر على حدة.

عن الفترة قبل ذهابه إلى نيويورك وكتابته "شاعر في نيويورك" بأسلوب ينحدر جزئياً من السورياليين الفرنسيين، كتب سلفادور دالي في "الحياة السرية" عن صداقته المضطربة مع لوركا: "كان هناك ظلٌّ آخر هو ظل فيدريكو لوركا يعتم عذرية الأصالة في روحي وجسدي. كانت هذه لحظة الذروة في تأثيره الشخصي وهي اللحظة الوحيدة في حياتي التي فكّرت فيها أن ألمح ما يمكن أن يكون عليه عذاب الغيرة [...] وحيث كنت أعرف أنّ لوركا يتألق ويشع مثل ماسة متقدة مجنونة، وفجأة أهرب فلا يراني أحد لثلاثة أيام". 

"إلى أبعد بيت في أبعد قرية"

يتردد أنّ شعار لوركا المسرحي كان "إلى أبعد بيت في أبعد قرية". إنّ الالتصاق بالبسطاء من الناس في زمنه، شعراً، ظلّ موجوداً، بل وازداد، عند انتقاله إلى المسرح.

كوّن لوركا فرقته المسرحية الخاصة خلال عامي 1931 و 1932، وسماها "البراكة" أي الكوخ. كان المشروع واضحاً بالنسبة له وللآخرين: تقديم المسرحيات الكلاسيكية للشعب. وقد قدّمت الفرقة عروضها للجماهير الريفية وسط ميادين قرى قشتالة. كان لوركا يدير ويخرج ويمثل ويعتني بالإضاءة. ويبدو أنه تمكّن من تحقيق مشروعه إذ نقل عنه خوان كاباس عام 1933: "أنا الآن حقاً مدير مسرح حقيقي". وفي مكانٍ آخر قال: "المسرح مدرسة الألم والضحك، إذا حار النظارة أمام بعض المشاهد، فلم يعرفوا ما يفعلون، أيبكون أم يضحكون، فذلك هو نجاحي".

جدير بالذكر وجود مقالة لأنخيل ديل ريو في كتاب "لوركا، دراسات نقدية" بعنوان "مسرح لوركا"، يعرض فيها تأريخاً وتحليلاً لإنتاج لوركا المسرحي، تليها مقالة لسوزان بلاكيرن بعنوان "الهيومير في مسرح لوركا"، ومقالة لفرنسيس فرجسون بعنوان "مسرح لوركا الشعري". 

 أغنية الرجل الذي اقتيد إلى الموت

كتب الروائي جوزيه لويس دي فيلالونغا رواية بعنوان "هيجان، محاكمة وقتل لوركا" يقصّ فيها حقيقة ما جرى، مؤكداً أن التفاصيل التاريخية قُدّمت إليه من قبل شهود للأحداث، كما تأكد من دقتها وصحتها.

كذلك، في مقدمة علي سعد لعرس الدم، يفرد فصلاً عن مقتل لوركا، وموعده مع الموت، والتنبّؤ به في شعره. هذا الموت نفسه، وحضور الشاعر وجوهره الإنساني، جعل عدداً من الشعراء العرب يجدون في سيرة لوركا معادلاً فنياً لتطلعاتهم الإنسانية أبرزهم بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي ومحمود درويش وصلاح عبد الصبور وعبد العزيز المقالح. هذا ما يقف عنده راتب سكر ويوضحه في بحثه عام 2005 بعنوان "استلهام شخصية لوركا وأدبه في الشعر العربي الحديث". 

إنّ لوركا، الذي "كأنه القدر" كما يقول السياب، قُتل في الساعة التي يطلّ فيها الضوء. صحيحٌ أنه قال "لم تنظم بعد القصيدةُ التي تنغرز في القلب كما ينغرز السيف"، لكنّ شعره ينفي ذلك. لوركا، الذي يقول إنه ليس برجل، ولا بشاعرٍ أو ورقة، بل نبضة مجروحة تسبر الطرف الآخر من الأشياء، كان قد توقّف نبضه، في اللحظة التي أطلّ فيها الضوء. ولا يزال أهالي غرناطة (غرناطته) يندبون.