من بيروت إلى دبي: كيف أعادت النيوليبرالية تشكيل المدن العربية؟

من بيروت والقاهرة وصولاً إلى دبي. ما الذي ميّز تشكل المدن العربية ما بعد الاستعمار عن نظيراتها الأوروبية؟ وما المقصود بـ"الحق في المدينة"؟

في "طواحين بيروت"، يكتب الأديب اللبناني الراحل، توفيق يوسف عواد (1911 – 1989)، عن مدينة تتآكلها التناقضات، حيث تصطدم أحلام التغيير بجدران الفساد والطائفية إلى ساحة صراع مستعر بين بيروت القديمة وبيروت الجديدة. أي بين من يحاولون التشبث بالذاكرة، وبين من يسعون إلى إعادة تشكيلها وفق مصالح رأس المال.

لا تظهر بيروت في رواية توفيق يوسف عواد كساحة سياسية مضطربة فحسب، بل مختبرا لتحولات عمرانية واقتصادية عميقة، تجعلها نموذجاً مبكراً لما شهدته لاحقاً مدن عربية أخرى. إذ لم يعد التغيير يأتي فقط نتيجة للنزاعات السياسية، بل أيضاً من هيمنة منطق السوق والاستثمار.

وكما هي الحال في رواية "بيروت بيروت" للمصري صنع الله إبراهيم، تتجلى بيروت كمدينة تفقد تدريجياً طابعها الاجتماعي المتنوع، حيث يتم استبدال الأحياء القديمة بمشاريع استثمارية ضخمة، ويُعاد تشكيل مركز المدينة ليخدم مصالح نخب اقتصادية ضيقة.

هذه المسحة النيوليبرالية التي أعادت رسم بيروت بعد الحرب الأهلية اللبنانية لم تكن مجرد استثناء، بل جزء من تحول أوسع في المدن العربية، حيث تشهد عواصم عربية مثل القاهرة وتونس والدار البيضاء عمليات مماثلة من إعادة الهيكلة العمرانية التي تفصل الأغنياء عن الفقراء، وتجعل المدينة مجرد أداة في يد الرأسمالية العقارية.

في المقابل، تصعد مدن مثل دبي والدوحة والرياض أخيراً، لكنها لا تنمو كامتداد طبيعي للمجتمع والتاريخ، بل كمنتجات عمرانية مصممة وفق منطق اقتصادي بحت. هكذا تصبح الأبراج الفاخرة والفضاءات التجارية الضخمة رموزاً لحضور رأس المال العابر للحدود، وليس لحياة حضرية نابعة من سياق اجتماعي وثقافي متراكم.

تعكس هذه التحولات انقلاباً في الاقتصاد السياسي للمدينة العربية، وعليه لم تعد المدينة فضاء عضوياً للحياة الاجتماعية، وباتت تخضع لإعادة تشكيل تخدم مصالح رأس المال والنخب الحاكمة. فهل نحن أمام مشهد حضري جديد تُمحى فيه المدن التاريخية لصالح مراكز مالية معولمة؟ أم أن العواصم القديمة لا تزال تمتلك القدرة على المقاومة، رغم كل ما يتهدد بتحويلها إلى مجرد سلعة في السوق العالمية؟

المدينة العربية ما بعد الاستعمارية: صراعات الذاكرة والهويات الهجينة

  • الصراع على الهوية يتجلى في شكل المدينة نفسها
    الصراع على الهوية يتجلى في شكل المدينة نفسها

شهدت المدن العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار تحولات جوهرية لم تكن مجرد قطيعة مع الماضي الاستعماري، بل استجابة معقدة لمجموعة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي شكلت أنماطها الحضرية والهوياتية.

لم يكن الاستقلال السياسي كافياً لتحرير هذه المدن من تأثيرات القوى الاستعمارية. إذ أعادت إنتاج نفسها داخل بنى جديدة من التبعية، فاستمرت النخب السياسية والاقتصادية في استثمار رواسب الاستعمار ضمن ديناميات "الاستعمار الداخلي"، وهو ما يعكسه، الفيلسوف والعالم السياسي الكاميروني، أشيل مبيمبي، في تحليله لبنية ما بعد الاستعمار.

في هذا السياق، صارت المدن العربية ما بعد الاستعمار فضاء للصراع بين القوى التقليدية التي تسعى للحفاظ على استمرارية مراكز الهيمنة، وبين قوى صاعدة تحاول إعادة تعريف علاقتها بالحداثة والعولمة.

هذا التوتر لم يكن مجرد انعكاس لصراع أيديولوجي، ذلك أنه متجذر في البنية العمرانية ذاتها. فالكثير من المدن العربية الحديثة نشأت من دون قاعدة صناعية متماسكة، على عكس التجارب الأوروبية التي رافقها تحولات اقتصادية قوية.

في العالم العربي، لم يكن التصنيع هو المحرك الأساسي للتمدن، لتأتي التحولات العمرانية استجابة لعوامل أخرى، مثل التدفقات المالية، والاستثمارات الكبرى في البنية التحتية، والتوسع الإداري للدولة، ما خلق مدناً تتوسع بسرعة لكن من دون أسس اقتصادية صلبة تدعم تحولها إلى مراكز إنتاجية مستقلة.

لقد أنتج هذا التشكل العمراني نوعاً من الهويات الحضرية الهجينة، حيث اندمجت عناصر من الماضي الاستعماري مع أنماط حداثية مستوردة، لكن من دون أن يتمكن السكان من تطوير نموذج حداثي خاص بهم. وهذا ما يجعل المدن العربية فضاء لإعادة إنتاج تناقضات اجتماعية تعكس الانقسام بين الأحياء الحديثة والمناطق العشوائية، وبين مراكز السلطة والمساحات المهمشة، وبين التصورات الرسمية عن الحداثة والتصورات الشعبية عنها.

هذا الصراع على الهوية يتجلى في شكل المدينة نفسها: في أنماط البناء، وتوزيع الثروة، والعلاقات الاجتماعية التي تحكمها المدينة، وحتى في سردياتها الثقافية التي تواصل استحضار الماضي الاستعماري كعنصر مهيمن في تشكيل الذات الحضرية.

في تحليله للعالم ما بعد الاستعماري، يسلط الناقد والأديب الهندي، بنكاج ميشرا، الضوء على كيفية استمرار المجتمعات في مقاومة الحداثة المفروضة عليها، بشكل تصبح "الحداثة" في حد ذاتها مشروعاً ملتبساً، يُفرض من الخارج لكنه يتشكل داخلياً بطرق غير متوقعة.

تعكس المدن العربية اليوم هذا التوتر، لأنها تتطلع إلى الحداثة، لكنها في الوقت عينه تعيد إنتاج أنماط تقليدية من السلطة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، ما يجعلها في وضع مستمر من إعادة التشكل من دون تحقيق قطيعة حقيقية مع ماضيها.

وهذا طبعاً على العكس من المدن الأوروبية أو بعض المدن الآسيوية. إذ لم يكن التوسع الحضري في العالم العربي مرتبطاً بمسار تصنيعي متصاعد، بل على النقيض، فإن مرحلة الاستعمار رسّخت نماذج اقتصادية قائمة على تصدير المواد الأولية، وهو ما تواصل حتى بعد الاستقلال، فبقيت الاقتصادات العربية في الغالب مرتبطة بالأسواق العالمية وفق منطق التبعية، ما منع تشكّل مدن صناعية قادرة على خلق ديناميات اقتصادية داخلية مستقلة.

نتيجة لذلك، جاءت عمليات التحضر حصيلة لعوامل أخرى، أبرزها الهجرة الريفية بحثاً عن العمل والخدمات، وسياسات الدولة التي ركزت على مشاريع البنية التحتية الكبرى أكثر من بناء قاعدة إنتاجية. الأمر الذي جعل من المدن العربية فضاءات غير متجانسة، تتجاور فيها أحياء الأثرياء مع العشوائيات، وتتداخل فيها أنماط معيشية مختلفة تعكس التفاوتات الاجتماعية العميقة.

هكذا أصبحت المدن العربية مساحات اختبار لهويات متعددة، فلم يعد السؤال المطروح عن كيفية التخلص من إرث الاستعمار، بل عن كيفية بناء نموذج حضري قادر على تحقيق الاستقلال الثقافي والاقتصادي في عالم متغير.

ذلك أن المدن ليست مجرد تجمعات سكانية، بل انعكاس لبنية السلطة، والعلاقات الاجتماعية، ومسارات التنمية التي تحدد مآلات المجتمعات بأكملها. من هنا، يصبح فهم المدن العربية اليوم مرتبط بتحليل علاقات القوة التي تحكمها، وبالكشف عن آليات إنتاج الهيمنة داخلها، والتي لا تزال تتجلى في استمرار الفجوات الطبقية، والتناقضات العمرانية، والتوترات الهوياتية التي تجعل منها فضاءات ديناميكية مفتوحة على احتمالات متعددة، لكنها في الوقت نفسه محكومة بقيود موروثة من الماضي الاستعماري ومن سياسات ما بعد الاستعمار.

الحق في المدينة: بين السيطرة السياسية وغياب الديمقراطية

  • بنكاج ميشرا:
    بنكاج ميشرا: "الحداثة" في حد ذاتها مشروع ملتبس يُفرض من الخارج لكنه يتشكل داخلياً بطرق غير متوقعة.

عند مقاربة مسألة الحق في المدينة في السياق العربي، تظهر إشكالية العلاقة بين المدينة والسلطة بوصفها علاقة تتراوح بين الاحتواء والقمع، وبين الإنتاج الثقافي والرقابة، وبين الفضاءات المغلقة والهوامش المنفتحة.

فالمدينة، كما يراها عالم الاجتماع والمخطط الحضري الفرنسي، هنري لوفيفر، ليست مجرد تجمع عمراني، بل مجال لإنتاج المعنى، وإعادة تشكيل الفضاء العام، والمشاركة السياسية. ومن هذا المنظور، نجد أن المدن العربية الكبرى مثل القاهرة وبيروت قدمتا تجربتين متباينتين حول العلاقة بين الفضاء الحضري، والسلطة، والإنتاج الثقافي.

فالقاهرة تمثل نموذجاً للمدينة التي أنتجت الحداثة الثقافية في العالم العربي لكن داخل أطر سلطوية صارمة. فمنذ القرن العشرين، كانت القاهرة عاصمة النشر والإنتاج السينمائي والمسرحي، واحتضنت حركات فكرية وأدبية مؤثرة، لكنها في الوقت ذاته ظلت فضاء يخضع لرقابة الدولة.

هذه المفارقة جعلت القاهرة مدينة تنتج الأفكار لكنها لا تمنحها الحرية الكاملة للحركة، مما أدى إلى خلق نوع من "الثقافة المحاصرة"، بشكل يُسمح بالإبداع طالما أنه لا يتجاوز الخطوط الحمراء السياسية والاجتماعية التي ترسمها السلطة.

هذا التناقض بين الحيوية الثقافية والقمع السياسي يمكن فهمه من خلال تحليل لوفيفر حول "الحق في المدينة"، حيث تصبح الأخيرة مجالاً تُنتج فيه الحياة الاجتماعية، لكنها في ذات الوقت تُستغل كأداة للسيطرة السياسية. فالفضاء العام في القاهرة لم يكن متاحاً بحرية، إذ بقي خاضعاً لتدخلات الدولة، سواء عبر الرقابة المباشرة على الصحافة والمسرح والسينما، أو من خلال السيطرة غير المباشرة التي مارستها النخبة الحاكمة على الأوساط الثقافية.

على النقيض من القاهرة، قدمت بيروت نموذجاً مختلفاً. فقد شكّلت ملاذاً للمثقفين العرب الهاربين من الأنظمة الديكتاتورية في مصر وسوريا والعراق وليبيا ودول أخرى. ومنذ منتصف القرن العشرين، أصبحت بيروت المدينة التي يلجأ إليها الصحفيون والمفكرون والكتّاب الذين لم يكن بإمكانهم التعبير بحرية في بلدانهم الأصلية.

في فترة الخمسينيات والستينيات، كانت بيروت تحتضن دور نشر مثل "دار الآداب" و"دار الطليعة"، التي ساهمت في نشر أفكار يسارية وتحررية لم يكن بالإمكان تداولها في معظم العواصم العربية. كذلك، احتضنت بيروت صحفاً ومجلات مثل "الآداب"، و"الحوادث"، و"السفير"، التي شكلت منصات للفكر النقدي، وللجدل السياسي والأيديولوجي الذي لم يكن ممكناً في بلدان أخرى بسبب القمع السياسي.

لكن المفارقة العميقة في حالة بيروت تكمن في أن هذا الانفتاح لم يكن نتيجة طبيعية لديمقراطية حقيقية، بل كان نتاجاً لحالة الفوضى السياسية، وعدم قدرة الدولة اللبنانية على احتكار السلطة كما هو الحال في البلدان ذات الأنظمة المركزية القوية. كانت المدينة، بحكم انقساماتها الطائفية وضعف الدولة، غير خاضعة لنظام سلطوي واحد، مما سمح بظهور مساحات حرية نسبية، ولو أنها كانت هشّة ومهددة بالعنف الطائفي والانقسامات السياسية.

مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حدث تحوّل غير متوقع في علاقة بيروت بالحرية. ففي حين أن الحروب عادة ما تقضي على الفضاءات الديمقراطية، خلقت الحرب في بيروت مفارقة فريدة: إذ بينما كانت الدولة تنهار، كانت بعض المناطق تتحول إلى فضاءات تعبير غير مقيدة بالرقابة المركزية. وعلى الرغم من أن الحرب مزقت المدينة، إلا أنها سمحت بهامش من الحرية لم يكن ممكناً في ظل الدول البوليسية التي كانت تحكم بقية العواصم العربية.

هذا الأمر جعل بيروت تستمر في استقبال المثقفين المنفيين حتى في ظل الحرب، حيث كانت بعض مناطقها مثل "الحمرا" و"الروشة" فضاءات تحتضن النقاشات السياسية والفكرية الممنوعة في بقية الدول العربية. هكذا تحولت بيروت إلى ما يمكن تسميته بـ "المدينة الملاذ"، للمنفيين السياسيين والمثقفين العرب لكي يواصلوا إنتاج الفكر، وإصدار الصحف، وتنظيم الحوارات الفكرية في المقاهي والمراكز الثقافية.

وإذا كان هنري لوفيفر يرى أن "الحق في المدينة" هو الحق في إعادة تشكيلها وفقاً لحاجات سكانها، فإن المدن العربية لم تصل إلى هذا المستوى بعد. وبينما ظلّت بيروت ملاذاً للمثقفين لفترة من الزمن، فإنها لم تتحول إلى نموذج ديمقراطي مستدام، فاستمرت تعاني من عدم الاستقرار. أما القاهرة، ورغم تاريخها الثقافي العريق، لم تتحول إلى مدينة مفتوحة بحق، إذ ظلت محكومة بمنطق الدولة السلطوية التي تحدد المجال العام وتتحكم فيه.

من هذا المنظور، يبرز تحليل المنظر الاجتماعي والجغرافي الماركسي من أصل بريطاني، دافيد هارفي، الذي يرى أن "الحق في المدينة" لا يقتصر على الحق في الوصول إلى الفضاء الحضري، ليشمل القدرة على إعادة تشكيله وفقاً لمصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، وليس فقط وفقاً لمصالح النخب السياسية والاقتصادية.

ويرى هارفي أن المدينة تتحول إلى أداة لإنتاج السلطة وترسيخ التفاوتات الاجتماعية، حيث يتم تخصيص الفضاءات الحضرية وفقاً لمنطق الرأسمالية والهيمنة السياسية، مما يؤدي إلى تهميش الفئات غير القادرة على فرض وجودها في المجال العام.

هكذا يمكن فهم المدن العربية كمجالات لممارسة السلطة أكثر من كونها فضاءات ديمقراطية. فقد تم استغلال الفضاءات الحضرية في القاهرة وبيروت وغيرهما من العواصم العربية لتعزيز مصالح الأنظمة الحاكمة، سواء عبر سياسات التحكّم في المجال العام، أو عبر توجيه التنمية الحضرية لخدمة طبقات محددة. لكن رغم هذه القيود، تبقى المدينة العربية فضاء قابلاً للتحول، كما يوضح هارفي، إذ إن النضال من أجل "الحق في المدينة" لا يتوقف عند المطالبة بالحرية، بل يشمل إعادة توزيع السلطة داخل الفضاء الحضري نفسه.

فالثورات العربية، والاحتجاجات التي شهدتها بعض العواصم، تشير إلى أن الفضاء الحضري لا يزال ساحة صراع بين الدولة والمجتمع، حيث تحاول الحركات الاجتماعية إعادة تعريف علاقتها بالمدينة، والمطالبة بحقوقها في المجال العام.

من هذا المنطلق، فإن "الحق في المدينة"، كما يراه هارفي، ليس مجرد مطلب ثقافي أو سياسي، بل معركة اجتماعية تهدف إلى إعادة تشكيل الفضاء الحضري بما يخدم تطلعات السكان وليس فقط مصالح النخب الحاكمة.

 نحو مدينة عربية بديلة؟

  • أنتجت النيوليبرالية نمطاً من المدن العربية يُخفي خلف ناطحات السحاب والمشاريع الكبرى هشاشة اجتماعية عميقة
    أنتجت النيوليبرالية نمطاً من المدن العربية يُخفي خلف ناطحات السحاب والمشاريع الكبرى هشاشة اجتماعية عميقة

تكشف قراءة تحولات المدن العربية، من بيروت الممزقة بالذاكرة الطائفية والمشاريع النيوليبرالية، إلى دبي التي تنمو كمنتج معماري معولم، عن هشاشة التوازن بين التحديث والاغتراب، وبين التنمية العمرانية ومحو الملامح الاجتماعية، وبين إعادة الإعمار وتفكيك الهويات.

فالمدينة العربية الحديثة لم تعد فقط حيزاً عمرانياً أو وعاء ديموغرافياً، لتصبح ساحة مفتوحة لصراعات مركبة، تتقاطع فيها السياسات الأمنية مع المنطق الاستثماري، وتُختزل فيها طموحات الأفراد في معركة غير متكافئة مع بنى القوة والهيمنة.

لقد أنتجت النيوليبرالية، منذ تسعينيات القرن الماضي، نمطاً من المدن العربية يبدو للوهلة الأولى أنه يحاكي النموذج العالمي، لكنه في الحقيقة يُخفي خلف ناطحات السحاب والمشاريع الكبرى هشاشة اجتماعية عميقة، حيث تتجاور مظاهر الرفاهية مع مظاهر التهميش، ويُعاد إنتاج الفقر في قلب التمدّن نفسه.

فهذه المدن، خصوصاً في دول الخليج، لم تنشأ من تراكم تاريخي وثقافي، بل تم تخطيطها كمساحات عرض لرأس المال العالمي، بأسس أمنية صارمة وهندسة عمرانية تقصي الفئات غير المرئية عن المجال العام.

لم يعد الفضاء الحضري يُنتج من الداخل، بل يُستورد كمخطط جاهز، وتُزرع فيه رموز العولمة، من المراكز التجارية الفاخرة إلى المناطق "الآمنة"، في انفصال شبه تام عن النسيج الاجتماعي المحلي.

في المقابل، تظهر المدن العريقة مثل القاهرة ودمشق وبيروت كمواقع متصدعة لا تزال ترزح تحت عبء الماضي الاستعماري، وتُعيد إنتاج ذاتها داخل بنى غير مكتملة من التحديث.

فقد شهدت ضواحي القاهرة مثلاً، تشكلاً حضرياً غير رسمي نما خارج إطار الدولة، لكنه لم يكن معزولاً عنها، بل في تفاعل دائم مع أجهزتها الإدارية والأمنية. هنا، لا يظهر الحضور الرسمي للدولة فقط في القوانين أو السياسات، بل في التفاوض اليومي بين السكان والسلطة، حيث تتجسد السلطة في صورة الشرطي، أو الموظف المحلي، أو شبكة المحسوبيات. وهذا الحضور اليومي للدولة يعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والمدينة، ليس على أساس المواطنة والحقوق، بل من خلال أشكال مرنة من السيطرة والتفاوض.

هذه العلاقة المركبة بين السكان والدولة في المدن العربية تفتح أسئلة أعمق حول معنى "الحق في المدينة". فالمدينة، في تصورها الحداثي، ينبغي أن تكون فضاء للعيش المشترك، والإنتاج الثقافي، والمشاركة السياسية، والعدالة الاجتماعية. إلا أن هذا الحق ظلّ غائباً أو منقوصاً في التجربة العربية. ففي حين أنتجت القاهرة تقاليد ثقافية عريقة، بقيت المدينة رهينة سلطة الدولة التي تفرض شروطها على الفضاء العام، فتسمح بالثقافة المراقبة وتمنع التعبير الحرّ خارج خطوطها الحمراء.

أما بيروت، فرغم انفتاحها التاريخي النسبي، استندت إلى فراغ سلطوي أكثر منه إلى ديمقراطية فعلية، وهو ما جعل حرياتها هشّة ومهددة دوماً بانفجار التوازن الطائفي أو بتقلبات رأس المال.

وبين هذين النموذجين، تبرز المدينة العربية كفضاء متنازع عليه، تتقاطع فيه الدولة، والسوق، والمجتمع، من دون أن يتمكن أي منها من فرض هيمنته الكاملة. بل يمكن القول إن المدينة أصبحت حقل اختبار لتحولات أعمق: من السلطة، إلى الهوية، إلى الاقتصاد. في المدن التي عاشت الثورات والاحتجاجات، مثل تونس والقاهرة، ظهر جيل جديد من الفاعلين الحضريين، ليس بالضرورة منظماً في حركات سياسية كلاسيكية، بل يتشكل من خلال مبادرات ثقافية، ومطالب سكنية، واحتلال للفضاء العام، ومقاومة صامتة لرموز التهميش.

لقد بيّنت التجربة أن الفضاء الحضري ليس فقط موقعاً لعرض هيمنة السلطة أو تمظهرات النيوليبرالية، بل فضاء للتفاوض، والصراع، وإعادة التخيّل. إذ حتى في المناطق المهمشة، التي تبدو مقصاة من دورة الإنتاج الرسمي، تُنتج أشكالاً بديلة من الحياة، ومن التنظيم الاجتماعي، ومن المعنى.

هذه الفضاءات، وإن كانت غير معترف بها رسمياً، تمثل تجليات لمدينة أخرى ممكنة، مدينة لا تُختزل في البنى الفوقية، بل تنبع من القاعدة الاجتماعية، من سكانها الذين يصنعونها يومياً.

من هنا، فإن التحدي المطروح اليوم لا يقتصر على نقد نماذج "المدينة النيوليبرالية" أو "المدينة الأمنية"، بل على القدرة على تخيّل مدينة عربية بديلة: مدينة تُبنى من أجل سكانها، لا من أجل السوق. مدينة تُنتج فيها الحياة، وتُحترم فيها الاختلافات، وتُفتح فيها الفضاءات للمشاركة، لا للمراقبة. مدينة تحترم ذاكرتها دون أن تُحبس فيها، وتتقدم نحو المستقبل دون أن تقطع مع قاعدتها الاجتماعية. وهذا يقتضي إعادة النظر في السياسات العمرانية، وفي مفهوم الدولة، وفي موقع الفاعل الاجتماعي في صياغة المدينة.

في نهاية المطاف، المدينة ليست بناء مادياً فحسب، بل مرآة للعلاقات الاجتماعية، وتعبير عن توازنات القوة، وانعكاس للأمل أو الإقصاء. والحق في المدينة، كما فكر فيه لوفيفر وهارفي، ليس مطلباً تجميلياً أو ثقافياً، بل هو معركة يومية من أجل إعادة توزيع السلطة، والفرص، والمعنى. وربما هنا، في هذا التخيّل اليومي والمقاومة الصامتة، تكمن بذور المدينة العربية القادمة.

المصادر والمراجع

- لوفيفر، هنري. (1996). الحق في المدينة. ترجمة د. فؤاد شاهين، المركز الثقافي العربي (الترجمة العربية، 2010).

- هارفي، ديفيد. (2012). الحق في المدينة: منطق التراكم الحضري الجديد. ترجمة: مازن السيد، مؤسسة مؤمنون بلا حدود

- Mbembe, Achille. (2001). On the Postcolony. University of California Press.

- Bayat, Asef. (2012). Life as Politics: How Ordinary People Change the Middle East. Stanford University Press.

- Denis, Eric & Séjourné, Marie. (2013). La ville arabe en transition: mutations urbaines et changements sociaux. CNRS Éditions.

- Deboulet, Agnès. (2014). « Politiques urbaines néolibérales et résistances locales dans les villes arabes ». L'Année du Maghreb, n° X.

- Sassen, Saskia. (2001). The Global City: New York, London, Tokyo. Princeton University Press.

- Ismail, Salwa. (2006). Political Life in Cairo's New Quarters: Encountering the Everyday State. University of Minnesota Press.

 

 

اخترنا لك