ناصر تحت المجهر.. قراءة معاصرة بلا رتوش

حرص د. عمرو منير في كثير من مواضع الكتاب... على الظهور في صورة المحايد وهذا نهج مهم... ولكن بعض الأحداث والمواقف... لا يصلح فيها الحياد.

  • "ناصر تحت المجهر.. قراءة معاصرة بلا رتوش" لعمرو منير محمد

منذ أن برز اسم الزعيم جمال عبد الناصر على الساحتين الإقليمية والدولية.. وتحديداً بعد مجموعة الأحداث الكبرى التي بدأت بمؤتمر باندونج لدول عدم الانحياز عام 1955 ... ثم تأميم قناة السويس عام 1656 والانتصار على العدوان الثلاثي الذي ضم إنجلترا وفرنسا والكيان الصهيوني في العام ذاته... ثم رفض الانضمام إلى حلف بغداد لحصار الاتحاد السوفياتي من جنوبه...وغير ذلك من الأحداث المهمة... تحول عبد الناصر ومواقفه إلى مادة ثرية وشيقة للعديد من الكتاب والمفكرين... فظهرت عشرات الآلاف من المقالات والكتب... التي ما زالت تتوالى حتى بعد رحيله بخمسة وخمسين عاماً... وقد تخطت الكتب التي تناولت سيرة عبد الناصر ومواقفه الثلاثة آلاف كتاب... وقد خرج أحدث هذه الكتب تحت عنوان ناصر تحت المجهر... قراءة معاصرة بلا رتوش للدكتور عمرو منير... الذي يعمل أستاذاً لطب وجراحة العيون بكلية الطب في جامعة سوهاج بصعيد مصر... كما أنه أديب أصدر عدة روايات ومجموعات قصصية... ومنها مغارة الجبل الغربي وحفرة المساخيط وفرح ابن العمدة وسلوفان... وقد بدأ كتابه عن عبد الناصر بإهداء إلى والده أحد أبناء يوليو المخلصين كما وصفه... ثم نشر مقطعاً من قصيدة يعيش جمال عبد الناصر للشاعر عبد الرحمن الأبنودي والتي يقول فيها... يعيش جمال حتى ف موته... ما هو مات وعاش عبد الناصر أعداؤه كرهوه ودي نعمة... مَن كرهه أعداؤه صادق... في قلبه كان حاضن أمه... ضمير وهمة ومبادئ... ساكنين في صوت عبد الناصر...

ثم يستشهد بكلمة للفيلسوف السويسري جان جاك روسو عن الوطن يقول في بدايتها الوطن هو المكان الذي لا يبلغ فيه مواطن من الثراء ما يجعله قادراً على شراء مواطن آخر... ولا يبلغ فيه مواطن من الفقر ما يجعله مضطراً لأن يبيع نفسه أو كرامته ويقول روسو في نهاية كلمته القصيرة الوطن هو حيث يكون المرء في خير وطمأنينة وسلام... وفي مقدمته الخاصة يقول المؤلف... قدمت في هذا الكتاب وجبة فكرية مكثفة ودسمة وسريعة... تناولت فيها عهد عبد الناصر وثورة 23 يوليو... ويتمنى على شباب الوطن العربي... أن يعرفوا سيرة هذا الزعيم... الذي آمن به شعبه... وحارب هو من أجلهم حتى النفس الأخير من حياته...

ويتناول د. عمرو حملة التشويه التي طالت عبد الناصر... والتي ما زالت مستمرة حتى الآن... وأكد أن أقطاب هذه الحملة يتركزون في قوى الهيمنة العالمية... ممثلة في الاستعمار بكل صوره... وفي الحلف الصهيوــ أميركي... ثم في قوى الرجعية العربية كما سمّاها عبد الناصر... والتي كانت ترى فيه وفي نموذجه القومي خطراً يهدد عروشها... ولا سيما أن مشروع الوحدة العربية بمفهومه الناصري... يستلزم التصادم مع القوى العظمى الاستعمارية التي ترتبط بمصالح مع الرجعية العربية... أما القطب الثالث من أقطاب حملة تشويه الزعيم فيكمن في جماعات الإسلام السياسي... وخاصة جماعة الإخوان... التي حاولت احتواء ثورة يوليو والسيطرة عليها، أما القطب الرابع فيكمن في المتضررين من ثورة يوليو... أبناء الطبقة الأرستقراطية... بداية من العائلة المالكة وامتداداً إلى الإقطاعيين والرأسماليين... أما القطب الخامس من أقطاب حملة تشويه الزعيم فيكمن في خليفته أنور السادات ونظامه... الذي انقلب على كل إنجازات ومبادئ عبد الناصر... وارتمى في أحضان الحلف الصهيو  - أميركي...

وبعد هذا الفصل يضع المؤلف سطرين من كتاب أنور السادات  يا ولدي هذا عمك جمال على سبيل المفارقة المضحكة المبكية... يقول فيهما عمك جمال هذا يا بني يمتاز بالإقدام والإيمان بمصر واستقلالها وكرامتها... إيماناً صلباً عنيداً... ألمسه منذ حداثتنا في معاملته لنا نحن أصدقاؤه... ثم يقدم المؤلف فصلاً قصيراً عن علاقة السادات بنظام عبدالناصر أهم ما فيه... ما قاله الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين على لسان الخبير الاقتصادي الكبير دكتور علي الجريتلي.. الذي أكد أن أحد كبار المسؤولين عن البنوك في سويسرا قال له إن المخابرات الأميركية والصهيونية أهلكتنا على مدى شهور طويلة، للبحث عن الحسابات السرية للرئيس عبد الناصر ولكنها لم تجد شيئاً.

وبعد ذلك يدخل المؤلف في صلب موضوع كتابه... حيث تناول العديد من الموضوعات... التي كانت الأكثر تناولاً من قبل المهاجمين لتجربة عبد الناصر... ومنها قضية الإصلاح الزراعي... وتوزيع جزء بسيط من أراضي الإقطاعيين على الفلاحين المعدمين... ثم قرارات التأميم بداية من تأميم قناة السويس عام 1956... وبعدها تأميم بعض الشركات انطلاقاً من قوانين يوليو الاشتراكية عام 1961. واجتهد المؤلف في تقديم أسباب تلك التأميمات وملابساتها ونتائجها... ثم تناول سريعاً ما تردد عن سياسة الصوت الواحد وقمع الحريات... وقد حرص المؤلف على أن يسبق كل فصل من فصول كتابه بمقطع قصير من كلام الرئيس عبد الناصر وكأنه تمهيد لموضوع هذا الفصل.

وقد تناول ضمن فصول كتابه الخلافات حول قانون تأميم الصحافة... ذلك القانون الذي صدر في مايو 1960... تنفيذاً لرغبة أصحاب الصحف... ويمكن الرجوع في ذلك إلى أقوال إحسان عبد القدوس ومصطفى وعلي أمين... ورغم ذلك راح محترفو التسويه يصفون القانون بأنه قمع للصحافة... كما تناول د. عمرو منير ما عُرف بمذبحة القضاء... ولم يكن في الأمر أي مذبحة... ولكن بعض القضاة انحازوا إلى طبقتهم على حساب الفلاحين الغلابة... فكان لا بد من إبعادهم عن منصة العدالة... ثم تناول المؤلف عدوان يونيو 1967... وشجاعة عبد الناصر في تحمل تبعات كل نتائج هذا العدوان... ثم تناول المؤلف تبعات حرب اليمن... وحاول أن يجيب عن السؤال المهم... هل كانت تلك الحرب سبباً في إضعاف الجيش المصري... ما أدى إلى حدوث كبوة يونيو 1967... وقدم المؤلف شرحاً مختصراً عن كيفية مساهمة الوجود المصري في اليمن بنقل هذا القطر الشقيق... من غياهب العصور الوسطى... إلى أنوار العصر الحديث.

ويرد المؤلف على أكذوبة ضياع رصيد مصر من الذهب بسبب حرب اليمن... وفي هذا الإطار قدم شهادة مهمة للفريق محمد فوزي من كتابه "حرب الثلاث سنوات"... عن الوجود المصري في اليمن لمساندة ثورة سبتمبر 1962... كما حرص المؤلف على تفنيد فرية مسؤولية عبد الناصر عن انفصال السودان عن مصر. فعلاوة على أن السودان لم تكن في أي وقت من الأوقات جزءاً من الأراضي المصرية... فقرار الانفصال كان قرار السودانيين أنفسهم..

وفي أحد فصول الكتاب يتناول المؤلف علاقة عبد الناصر بفصائل اليسار المصري... تلك العلاقة التي تأثرت سلباً وإيجاباً... بحسب توتر العلاقات بين مصر والاتحاد السوفياتي... ثم تناول المؤلف الوحدة المصرية السورية... من حيث الأسباب التي أدت إليها... والمؤامرات التي أدت إلى فشلها... وتناول المؤلف سريعاً ذمة عبد الناصر المالية... وكيف أثبتت اللجنة التي أجبر أنور السادات على تشكيلها نزاهة الزعيم الخالد... تلك النزاهة التي امتدت لتشمل عدم محاباة أقاربه أو أي إنسان من عائلته... ورغم أن الدكتور عمرو منير قد لجأ إلى تسعين مرجعاً... ما بين كتاب أو مقال أو دراسة... إلا أن القارئ عندما ينتهي من قراءة الكتاب... يشعر بعدم الإشباع... ولا سيما أن السنوات القليلة الماضية شهدت صدور العديد من الكتب... التي تناولت الموضوعات ذاتها بتفصيلات أكثر... ويمكن الرجوع إلى كتب عبد الله السناوي وعبد الحليم قنديل ومحمد الشافعي وطارق صلاح وعمرو صابح... إلخ.

وقد حرص د. عمرو منير في كثير من مواضع الكتاب... على الظهور في صورة المحايد وهذا نهج مهم... ولكن بعض الأحداث والمواقف... لا يصلح فيها الحياد... لأن الحق فيها أوضح من نور الشمس... ورغم ذلك نجح د. عمرو منير في تقديم وجبة تاريخية مهمة وسريعة استطاعت الرد على كثير من ادعاءات وأكاذيب... الذين تفرغوا للهجوم على تجربة عبد الناصر... كما نجح د. عمرو منير في تقديم ملف صور رائع في نهاية الكتاب... كما نجح في تجميع عدد من أقوال عشرات المشاهير من العرب والأجانب التي تمتدح عبد الناصر الزعيم والإنسان... وفي النهاية فإن كتاب ناصر تحت المجهر كتاب يستحق القراءة.

اخترنا لك