"نبض الشارع": عن تأثير الاحتجاجات وأعمال الشغب

هناك تجارب تعلمنا بألا نستهين بالتأثير الذي يمتلكه الإبتكار والجرأة والأساليب السلمية في المساعدة على خلق عالم مختلف.

 
  • نبض الشارع
    نبض الشارع

يبدأ ستيف كراوشو كتابه "نبض الشارع: تأثير الاحتجاجات" برواية قصة عن السفيرة الأميركية مارغريت سكوبي في القاهرة في شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2008  كشفها لاحقاً موقع ويكيليكس، قولها إن أولئك المحتجين السلميين في مصر الذين يأملون بإطاحة حكومة الرئيس حسني مبارك الفاسدة والوحشية بحلول العام 2011 "هم غير واقعيين إلى حد كبير".

يقول المؤلف إن الرد غير المباشر على السفيرة الأميركية جاء بعد سنتين عبر منشور على فيسبوك أصبح تاريخياً الاَن. جلست أسماء محفوظ التي كانت واحدة من قادة حركة "شباب 6 إبريل" – التي لم تُثر اهتمام السفيرة – في منزلها في 18 كانون الثاني/ يناير عام 2011 وقامت بتسجيل رسالة صوتية إلى مواطنيها المصريين.

تحدثت محفوظ التي كان لا يتجاوز عمرها 26 عاماً، بحماسة على مدى 4 دقائق متواصلة وأعلنت أنها تريد إرسال رسالة مفادها: "علينا أن ننزل إلى ميدان التحرير في 25 كانون الثاني/ يناير للمطالبة بحقوقنا، حقوق الإنسان الأساسية". 

واجهت محفوظ مباشرة المفهوم القائل إن التغيير في مصر حسني مبارك هو أمر عصي على التحقق، قائلة لكل من يزعم أنه لن يتواجد هناك غير حفنة من الناس فقط أنه هو السبب، لأن المكوث في المنزل والإكتفاء بمشاهدة تحركاتنا في نشرات الأخبار أو الفيسبوك هو الذي يؤدي إلى إهانتنا".

انتشر مقطع الفيديو لمحفوظ على موقعي فيسبوك ويوتيوب انتشاراً هائلاً ولم يلزم المصريون منازلهم، بل توافد الملايين في 25  كانون الثاني/ يناير إلى شوارع القاهرة، وكل أنحاء مصر. أما الرئيس مبارك الذي تمسك بالسلطة بقوة على مدى 30 عاماً فقد أرغم على الاستقالة بعد مرور 18 يوماً من الإحتجاجات.

يقول المؤلف إن الأخبار الواردة من مصر في السنوات التالية بدت قاتمة وينقل عن الروائية أهداف سويف التي تعود بها الذاكرة إلى ما تصفه بـ"الأيام 18 الذهبية" قولها "إن القصة لم تنتهِ بعد".

ويعلق المؤلف على قصة محفوظ بأنه "لا شيئ غير عادي في عدم رغبة السفيرة سكوبي في تصديق أن الإحتجاجات السلمية بإمكانها إزاحة رئيس قوي وغير محبوب.  فرفض الذين يصفون أنفسهم بأنهم واقعيون تقبل احتمالات التغيير أمر ثابت عبر التاريخ. لكن الواقعيين يتراجعون مرة بعد أخرى أمام الذين يقومون بتحدي الواقع الموجود على الأرض. تحدت جرأة الذين يسعون إلى التوصل إلى عالم أفضل وأكثر عدالة على الدوام، الثوابت التي كانت تبدو غير قابلة للتغيير".

يعتبر ستيف كراوشو أن حرصه على ذكر القصص  التي تشمل المفاجآت والأحداث هو تحية للذين تحدوا الحكمة التقليدية وشقوا طريق التغيير أو عبدوها.

يذكر الكاتب قصصاً تؤكد كيف يساعد ثقل الأعداد الهائلة من الناس على جعل التغيير حتمياً. وهناك قصص يرويها المؤلف تبرهن كيف يمكن أن يرتكز التغيير على شجاعة فرد واحد ولياقته، وقصصاً  تحدى فيها فنانون في المسرح والموسيقى الأمر الواقع، وقصصاً عن عالم وسائل التواصل الإجتماعي الدائم التغيير الذي سمح للتحركات الصغيرة باكتساب صدى على صعيد العالم وجمع أعداد كبيرة من الناس وراء هدف واحد وأتاح سبلاً جديدة لكشف الانتهاكات أمام العالم أجمع.

يسلط كتاب "نبض الشارع: تأثير الاحتجاجات والشغب"، الضوء على بعض الاحتجاجات الأكثر شهرة من جميع أنحاء العالم، من ثورة عبد الغفار خان الذي كان الصنو المسلم للمهاتما غاندي وحليفه ضد الاستعمار البريطاني، في عشرينيات القرن الماضي، وحتى الاعتراض على منع المرأة من قيادة السيارة في السعودية قبل أن تتوقف المملكة عن هذا المنع أخيراً، مروراً بكل حركات الاحتجاج السلمي التي شهدها هذا العالم في هذا الوقت. 

  • الرئيس البولندي السابق ليش فاليسا
    الرئيس البولندي السابق ليش فاليسا

لقد تمكن كراوشو في كتابه هذا من جمع كل التحركات المهمة مثل ربيع براغ في  عام 1968 وثورة نقابة تضامن في بولندا في ثمانينات القرن الماضي وثورة السود ضد العنصرية في أميركا، وثورات الربيع العربي.. ، فضلاً عن التحركات السلمية في الصين وروسيا وغيرهما. وتميّزت هذه الثورات بحسّ الفكاهة والشجاعة والإبداع وتمكّنت من إحداث تغيير وصل في بعض البلدان إلى الإطاحة بأنظمة حديدية لم يتصوّر أحد أن تُفككها احتجاجات أدواتها بسيطة إلى هذا الحد.

يركز المؤلف بأن هناك تجارب تعلمنا أن لا نستهين بالتأثير الذي يمتلكه الإبتكار والجرأة والأساليب السلمية في المساعدة على خلق عالم مختلف.

ينقل المؤلف عن صاحب نوبل الشاعر البولندي تيشسلاف ميلوش صاحب كتاب "العقل الأسير" قوله: "تعني نزعتنا الغريزية لوضع الممكن في خانة الماضي، إننا كثيراً ما نتجاهل أعمال معاصيرينا ممن يقومون بتحدي نظام الأمور الذي يعتبر غير قابل للتعديل وهكذا  يحققون أموراً  كانت تعتبر مستحيلة في بادئ الأمر".

يؤكد المؤلف ستيف كراوشو أنه شهد بنفسه عندما كان يعيش في بولندا عام 1980، ولأول مرة  "نظاماً غير قابل للتعديل وهو ينقلب رأساً على عقب" فبدأت الإضرابات في ذلك العام وما لبثت المطالب الإقتصادية أن تصاعدت بسرعة لتتضمن إنشاء نقابة عمالية حرة.

يقول ستيف إن المعلقين الغربيين أصروا في ذلك الوقت على أن مطالب كهذه، كانت عسيرة التحقق ضمن النظام السائد الذي فرضه السوفيات منذ عام 1945.

ويضيف الكاتب أن صحيفة ذا تايمز اللندنية عكست هذا الإجماع عندما استنتجت أنه من "الواضح أن السلطات البولندية  لا يمكنها الموافقة على مطلب تأسيس نقابات عمالية حرة". ويتابع: "بتعيبر أوضح كانت الصحيفة تأمل بأن يكون البولنديون حكماء بما يكفي لحصر مطالبهم ضمن الأمور التي كانت السلطات مستعدة بالفعل لتلبيتها. لكن الأمور لم تجرِ على هذا النحو".

ويعترف ستيف بأن المخاوف من لجوء السلطات البولندية إلى القمع كانت لها أسسها المتينة. وقد كان الزعيم السوفياتي ليونيد بريجينيف معروفاً بغزو البلدان التي تخرج عن طاعته، وهو الأمر الذي عرف لاحقاً بمبدأ بريجينيف. وسبق أن أرسل الدبابات إلى تشيكوسلوفاكيا في العام 1968، وإلى أفغانستان عام 1979. فدلائل التغيير السلمي كانت ضئيلة.

تحقق المستحيل. وبعكس التوقعات تراجعت السلطات الشيوعية أمام مطالب العمال المضربين التي لقيت دعماً من ملايين الناس في كل أنحاء البلاد. قطعت محطات الإذاعة والتلفاز في البلاد برامجها لتعلن الإذعان لمطالب المضربين. رأى المشاهدون بفرح ومن غير تصديق قائد حركة الإضرابات "ليش فاليسا" أثناء مصافحته لنائب رئيس الوزراء في بولندا عندما جلس إلى جانبه جلسة الند للند. ووافقت الحكومة على مطالب المضربين. 

جرى حفل ذلك التوقيع في أحواض بناء السفن في غدانسك عام 1980 وكان أمراً لا يصدق ومهد الطريق لتغييرات عديدة حدثت في ما بعد.

وكما توقعت صحيفة التايمز فبعد مرور 16 شهراً على النصر الذي حققته نقابة التضامن، غزت الدبابات شوارع بولندا واُعلنت الأحكام العرفية في البلاد في عام 1981 وتم حظر نقابة التضامن وأُلقي  القبض على قادتها وتمكن المشككون من الزعم بأنهم كانوا على حق منذ البدء.  

ومع ذلك، يؤكد المؤلف بأنه رغم الاعتقالات والقتلى الذين سقطوا لم تعد الأمور على ما كانت عليه وصمدت اَمال  البولنديين "غير الواقعية". ويقول إن تصريحات المنشق البولندي اَدم مشنيك بأنه "عاجلاً أم اَجلا سننتصر، لكنني أعتقد باننا سوف نفوز عاجلاً"، والتي صنفت يومها بأنها مجرد كلام حالم"، كانت محقة. فبعد 4 سنوات أُعيدت لنقابة التضامن صفتها القانونية وتمكن مرشحو  نقابة التضامن من الترشح للانتخابات النيابية التي جرت في عام 1989.

يروي ستيف أنه اندهش أثناء جولة له في أنحاء اوروبا الشرقية عام 1989 وهي السنة التي حفلت بتغيرات دراماتيكية عندما لاحظ  أن السياسيين الغربيين والحكام الشيوعيين يتشاركون في أمر واحد هو أن الجانبين وجدا أن من المستحيل تخيّل أن تتغير الأمور الأساسية في وقت من الأوقات. وفوق ذلك كانوا يظنون أن التغيير الحقيقي لا  يأتي إلا من سياسيين أقوياء من أمثالهم ومن داخل الكرملين على الأخص.

يتحدث المؤلف عن جدار برلين الذي كان كان يشكل رمزاً بشعاً للحرب الباردة الذي شطر قارة أوروبا إلى شطرين وكان ينظر إليه بأنه عقبة ينبغي التفاوض بشأنها. فقد دعا الرئيس الأميركي رونالد ريغان حينها في العام 1987، الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف إلى "هدم هذا الجدار". لكن تلك الدعوة  كانت أقرب ألى شعار صوتي من أن تكون وصفة تهدف إلى التغيير. لكن لا ريغان ولا غورباتشوف كان يتوقع سقوط الجدار بالفعل.

لقد كان سقوط الجدار مفاجأة للسياسيين الذين ذهلوا لأنه لم يخطر لهم أنه في مقدور المواطنيين إنجاز هذا القدر من التغيير من تلقاء أنفسهم وهذا الرفض  للجرأة الفردية للناس يبقى حتى هذه الأيام.

  • الرئيس التشيكي الراحل فاكلاف هافل
    الرئيس التشيكي الراحل فاكلاف هافل

ويروي المؤلف في كتابه عن لقائه بالحائز على جائزة نوبل الرئيس التشيكي فاكلاف هافل، قبل 10 أيام من سقوط جدار برلين، فقد وصف بلاده بأنها أشبه بطنجرة ضغط ستنفجر.

انفجرت طنجرة الضغط هذه بعد مرور 3 أسابيع فقط. وقول المؤلف إن العنف الذي مارسته السلطات التشيكية ضد المتظاهرين أقنع أكبر عدد من الناس بالخروج إلى الشارع، إلى درجة أن أحد الأشخاص عبّر عن مشاعره عندما قرر المقاومة للمرة الأولى في حياته بالقول: "شعرت بأنني حر حين كنت مطروحاً على الأرض وكانت قوات الشرطة تنهال عليّ بالضرب".

استقالت حكومة براغ بعد أسبوع من التظاهرات عام 1989. وبعد مرور شهر عقد البرلمان جلسة انتخب فيها هافل رئيساً للبلاد بعدما كان رئيس وزراء براغ قد اعتبره نكرة قبل أسابيع من بدء الثورة.