نماذج من الفلسفة السياسية الأميركية

يجمع المؤلف في كتابه أهم الفلاسفة الاميركيين الذين تحدثوا عن فكرهم السياسي.

  • "الفلسفة الأميركية المعاصرة" للباحث الجزائري نور الدين

يتحدث كتاب "الفلسفة الأميركية المعاصرة" للباحث الجزائري نور الدين علوش الصادر عن "دار الرافدين"  في بيروت، عن نماذج من الفلسفة الأميركية المعاصرة (مع إخفاق في تمييز ما يخصها حصراً ويشكّل ماهيتها)، من خلال أبرز الوجوه التي أذاعتها في العالم،عبر نصوص ومقالات مترجمة،فيعالج أهم الإشكاليات المطروحة على الفلسفة السياسية، في المجتمعات الحالية العاكسة للتحوّلات الفكرية والاجتماعية، في لغة غير المختصيّن في الفلسفة، لتكون بمثابة مدخل لمساعدة الطلاب والباحثين. والمفارقة أن المفتتح يأتي بعبارات الزعيم الصيني، ماوتسي تونغ:" فلندع ألف زهرة تتفتّح وألف مدرسة فكرية تتبارى" (1968). 

وأوّل النصوص ترجمة هو مقال فيلسوف القانون الكندي، بيجارن ملكفيك (B. Melkevik)، عن جون راولز (2002 – 1921)، الشهير بنظريته المتجددة عن العدالة، حيث يبيّن ركائز رؤيته القائمة على تقاليد فلسفية كبيرة: نظريات العقد الاجتماعي، النفعية، الحدسية، ونظرية الاختيار العقلاني. وأدخل راولز مصطلح "الوضع الأصلي" كقاعدة لاختيار مبادئ العدالة، وهذا يقوم على إدراك أن "الناس ذرات أخلاقية عليها أن تستعيد هذا الأساس الأخلاقي في حياتها، فالحدس الأخلاقي لأي فرد هو المعيار الوحيد الذي يمكن للناس انطلاقاً منه أن تؤسس لأفعالها وخياراتها". 

وعبقرية راولز، وفقاً لملكفيك، في الطابع المنهجي لكتاباته، وتقوم شهرته على إعادة صياغة الفلسفة النفعية التي قدّمها جيريمي بنتام (1832-1748)، منافحاً عنها، مُلبساً إياها ثوباً حديثاً. لكن مع نهاية العام 1950، سيذهب في اتجاه آخر، فأصدر في العام 1957 "العدالة كإنصاف"(أنجز الترجمة العربية حيدر حاج إسماعيل، وصدرت في بيروت في العام 2017)، وبدأت في العام 1971 تتبلور شيئاً فشيئاً نظريته عن العدالة، وفي الخلفية التبرير لدولة الرفاه، التي تلبي الحاجات الإنسانية لمواطنيها كجزء من حقوقهم السياسية، وهي الساعية لضمان الأمن الاجتماعي لمواطنيها، في وقت يُعاني فيه العالم من الاختلالات السوسيو-اقتصادية واللامساواة بسبب الجنس والعرق. 

واستفاد راولز من النقد الموجّه إليه وأعاد بناء نظامه الفكري، فكتب في العام 1993 "الليبرالية السياسية". ويلاحظ ملكفيك، أنّ مفهوم الحق يحتل مكانة أساسية عنده، مع تركيزه على فكرة الاختلاف وكيفية تأمين استقرار المجتمعات مع وجوده. فنظرية الليبرالية السياسية تهدف إلى "الدفاع عن دولة القانون والدستور والحقوق الليبرالية والتسامح".

استكمالاً لما سبق، يكتب علوش عن "العدالة في الفلسفة السياسية المعاصرة، نموذج جون راولز"، وبعد تعريفه لإطارها وقضاياها المستندة إلى سؤال الدولة والحكم والقانون، ومحاولة استبطان حركة التاريخ بدراسة فلسفته. 

يعرض الباحث لمفهوم راولز عن العدالة، ويتضح له أن " هدف نظرية العدالة كإنصاف هو محاولة الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بإمكانية تحقيق مجتمع عادل يضمن لأفراده الحرية والمساواة، بحيث تكون الحدود المنصفة للتعاون موضع توافق بين المواطنين أنفسهم ما دام الدخول إلى مجتمع التعاون يفترض المرور بمرحلة الوضعية الأصلية كإجراء لعرض نظرية العدالة كإنصاف". 

وينقل لنا وجوه النقد الموجّهة لراولز من اليمين واليسار على حد سواء، فاليمين الليبرالي يأخذ عليه تقليص نطاق الحرية لصالح المساواة، وينتهك حقّ التملّك بزيادة الضرائب على الأثرياء لمساعدة الأقل حظاً. بدوره، يعتبر اليساري أنطونيو نغري أن مصطلح "الوضع الأصلي" يتسم بالغموض وعدم الدقة، وكذلك يفعل يورغن هابرماس، فيرى أن المفهوم عاجز عن "تفسير وضمان الموقف غير المتحيّز الذي ينبع منه مبدأ العدالة، من حيث طابعها الإجرائي". ويُقدّر علوش أن نظرية راولز في العدالة كإنصاف أعادت التفكير في دور الدولة الليبرالية وأثارت الأسئلة حول "حيادها وانخراطها في معمعة المطالب الاجتماعية".

ولتعريفنا للفلسفة السياسية عند كل من حنا أرندت (1975-1906) (الألمانية، حاملة الجنسية الأميركية)، والفيلسوف الألماني يورجن هابرماس؟ (أتساءل جدياً عن إدراجه ضمن الفلسفة الأميركية؟) يترجم نور الدين بحثاً يدور حول "العودة إلى مفاهيم المواطنة والفضاء العمومي عند حنا أرندت وهابرماس من أجل التفكير في استمرارية السياسي من العصور القديمة إلى الحداثة" للكاتب، دولا فيكتوار، كوينتين المنشور في العام 2008. 

تشتغل المقالة على مفهوم "الفضاء العمومي" مدخلاً للتفكير في مفهوم السياسي (المعني بالتنظير للسياسة، وهذه الأخيرة تهتم بالأحزاب والمنظمات السياسية)، ولا سيّما في المجتمعات التي تشهد توتراً بين المثال الديمقراطي والفردانية. وترى أرندت أن "السياسي هو الحرية"، وهذه تمارس في الساحة العامة للمدينة، فالسياسي فيها، يعتمد على الممارسة (Praxis) وعلى الخطاب (La Lexis)، والمدينة جد مهمة عندها، وتعرّفها: "هي تنظيم الشعب انطلاقاً من تشاور عمومي ومن فضائه الحقيقي الذي يشمل الناس الذين يعيشون من أجل هدف مشترك وفي مساحة جغرافية حيث يقيمون". (أرندت 1983) ".

وهذا الفضاء هو من سمح للإنسان بالترقي والاكتمال وصولاً إلى الإنسانية، وتعتبر التجربة الإغريقية مثالاً، فالمدينة هي من تمنح المواطن اسماً، وفي الفضاء العمومي يجري التشاور، ولكل رأي وزنه، حيث لا انقسام بين حاكمين ومحكومين. والتأسيس اليوناني ما زال حاضراً في الديمقراطية الحديثة، بيد أن أرندت تميل إلى فكرة المجالس من دون أن تلغي دور الدولة، صاحبة الدور السياسي. وما ترومه البحث في شروط "انبعاث المواطن الحرّ من جديد"، والعمل على جعل الأفراد "مواطنين كاملي المواطنة"، في مؤسسات تتيح ممارستها. 

يميّز فيلسوف التواصل بين الساحة العامة اليونانية (الأغورا) القديمة والفضاء العمومي البورجوازي الخاص بمرحلة تاريخية محددة، المتشكّل عنده، من التفاعل بين الأفراد، فهو "إمكانية اجتماعية لا يمكنها التحقّق تاريخياً إلا عبر مشاركة تعددية للأفراد"، ولهذا قدّر هابرماس دور المجتمع المدني في عملية التغيير، وثمّن الديمقراطية التشاورية المُحددة في النقاش العقلاني والحقوق التواصلية المتساوية للمشاركين في فضاء تشاوري يتيح أفضل المساهمات الممكنة، ويتأتى تهديد الديمقراطية من الفرد المنتصب في مواجهة المواطن.

وكما البحث السابق، يخلط علوش الفيلسوف الإيطالي أنطونيو نغري مع نظيره الأميركي ميخائيل هارت، فيترجم نصاً هو "قراءة في كتاب الأمبراطورية، لنغري وهارت"، وهذه مفارقة أخرى! والفيلسوف الأميركي،  هارت (Michael Hardt)‏ ناقد أدبي وصحافي وكاتب، ولد عام 1960 في بيثيسدا في الولايات المتحدة. 

وباختصار شديد الإمبراطورية هي "الشكل النهائي للرأسمالية المعولمة"، نجدها في حركية دائمة لا مركز لها، لكن، تبقى إمكانات النضال والمقاومة مفتوحة أمام الجماهير، وتظهر هذه الجموع على "شكل مجموع ذرات متفردة"، وتتشكل هويتها في مواجهتها للمؤسسات القائمة.

يكتب علوش عن الفيلسوفة الأميركية "ناسبوم وراولز"، وأنا سأركّز عليها فهي (ولدت في العام 1947)، وأعمالها مستلهمة من أمارتيا سين، من وجهة نظر نسوية من خلال حياة النساء الهنديات، وهي تركّز على فكرة امتلاك القدرات وكيفية توظيفها، وتقترح لائحة منها مثابة خلاصة لدراسات نظرية متقاطعة مع نقاشات وحوارات مع مجموعة منهن، وقد لاحظت رغبتهنّ في الحصول على ملكية خاصة، وهي مسألة مهمة تسهم "في تعريف الذات"، وتقترح ناسبوم العمل على منح النساء أدواراً أكبر في سبيل التغيير داخل جماعاتهن.

يعالج الباحث "تحوّلات الفضاء العمومي في الفلسفة السياسية المعاصرة: من هابرماس إلى نانسي فرايزر"، مع الخلط نفسه، والتركيز سيكون على موقف الفيلسوفة الأميركية (ولدت عام 1947) من الفضاء العمومي، وتنطلق من نقد هابرماس بسبب حصره الكلام في الفضاء العمومي البورجوازي وتغييب الفضاءات الأخرى. 

فتنظر إلى العلاقة الصراعية بينها، وتطالب بالمساواة بين المشاركين في الفضاء العمومي، فمن دونها لا يمكن للنقاش أن يتم، وعدم إقصاء أي طرف، ولا سيّما النساء، والسماح للكل بالتعبير عن هوياتهم ومطالبهم. وإذ يشهد العالم تحوّلات على الصعد كافة، تسأل فرايزر عن قدرة الفضاء العمومي على القيام بمهامه السياسية الديمقراطية.

ينقل لنا الباحث حواراً بين الفيلسوف أرشيبيكي والفيلسوفة الأميركية، ذات الأصول التركية سيلا بن حبيب (ولدت عام 1950)، وسأعرض لأهمّ أفكارها ولا سيّما مسألة الهجرة والحدود، فهي من المُنادين بفتحها، وتطالب الديمقراطيات الغربية أن تضع قيوداً، وهذه "يمكن أن تكون صارمة، كما يمكن أن تكون مرنة، فهي بإمكانها أن تسمح للناس بالمكوث في الداخل"، كما يمكن أن تطردهم إلى الخارج، وهي مع حق تقرير المصير الثقافي وإدماجه في بنيات عبر وطنية. 

يختم علوش نماذجه الأميركية بترجمة حوار مع الفيلسوفة النسوية، جوديث بتلر (ولدت عام 1956)، محوره قضية "الجندر" (النوع الاجتماعي) والسياسات الجنسية والدراسات حولها، فتطالب القبول بالتعدّد، وترى أن صاحب الهوية الجنسية في حال تفاوض دائم، ولا يشكّل، في زعمها، الانتماء إلى هذا النوع أو ذاك، موقفاً أخلاقياً، فهي مع المساواة والحرية بعيداً من المعايير المعتمدة من المجتمع.