"مسعود هجر وخلّف المصائب"... سردية أحزان الهجرة في الأغنية اليمنية
على مرّ التاريخ، ارتبط الإنسان اليمني بالهجرة، التي انعكست تداعياتها النفسية والاجتماعية في العديد من الفنون الإبداعية. كيف عكست الأغنية اليمنية موضوع الهجرة والفراق؟
منذ أقدم العصور، ارتبط الإنسان اليمني بالهجرة؛ لأسباب متعددة، أهمها بحث المهاجر عن مصادر الرزق في أقاصي الأرض، مُخَلِّفاً في بلده أسرته، التي تظل تتجرع مرارة الفرقة وتداعيات الهجرة وأهوالها. تلك التداعيات، التي انعكس كثير منها في الفنون الإبداعية الكتابية وغير الكتابية، لا سيما ما تجلّى منها، في مضامين الأغنية اليمنية.
سردية الشجون وفاتحة المأساة
-
عبد الباسط عبسي
تناولت الأغنية اليمنية مأساة الهجرة من زوايا متعددة، فاختلفت تفاصيلها من أغنية إلى أخرى، وتميّزت بعض الأغاني بما يرتقي بها إلى صدارة هذا النوع من الغناء، من مثل أغنية "مسعودْ هَجَرْ" التي كتب كلماتها الشاعر الراحل، سلطان الصريمي، ولحّنها وغنّاها الفنان عبد الباسط عبسي ــ تميّزت بتسريدها لمأساة الهجرة في حياة زوجة المهاجر، المسحوقة بالمعاناة طيلة غياب الزوج الذي قد يعود، وقد لا يعود، كما هي الحال في هذه الأغنية، المكتنزة بالحزن والعذاب المرير.
يبدأ سياق الأغنية في سرد مأساة الهجرة، من لحظة سفر الزوج، على لسان الزوجة المهيضة بمراسيم الوداع [1]:
مِن قِلّة المصْروفْ وكُثْرة الدَّيْن
بَكَّرْ مُسافِرْ فجْر يوم الاثنين
وقت الوداعْ سَلَّمْ وقالْ مُوَدَّعْ
لا تحْزَني شَشِقيْ سَنةْ، وشَرْجعْ
يتجلّى هنا سبب الهجرة المباشر، المتمثّل في الحاجة إلى المال. إذ اضطر الزوج إلى السفر ذات صباح حزين، مودّعاً زوجته، محاولاً تهوين المصاب عليها، من خلال تأكيده أنه سيعود بعد سنة واحدة؛ ضارباً لها الوعد الممهور بأيقونة الذكرى [2]:
شفارقكْ بعد الزواجْ بأسبوعْ
العينْ تِدْمَعْ والفُؤَادْ مَوْجوْعْ
شتذَكَّرَ الحِناء وَحُمْرَة الخَدْ
شَتْذَكّرَ الزَّفّةْ واليَدْ باليَدْ
فبعد أسبوعٍ واحد من زواجهما، يتشاركان أحزان لحظة الفراق والبكاء المثخن بجروح قلبيهما. وفي اللحظة نفسها، يعاهدها على العودة؛ ليحتفي معها بأول عيد لزواجهما، مؤكداً أنّه سيتذكر زينة الحناء، التي لم يزل لونها طريّاً في يديها، كما سيتذكر جمال احمرار خدّها، ولحظة زفافهما، التي اتصلت فيها مشاعرهما بإمساك كُلٍّ منهما بيد الآخر.
ودّعها وغادر المكان فظلت بعده مثقلةً بالوحدة، ثم مُعزِّيَةً نفسها بثمرة أسبوع الزواج الوحيد، التي بدأت تنمو جنيناً في بطنها، وبعد عام فرحت بخروجه إلى الدنيا، فهمست إلى حماتها بأمنيتها أن يُبشَّر أبوه به:
واعمّتي مِنوْ شِقوُلْ [3] لِمَسْعود
بِعَامنا الأول رُزِقْنا مَولودْ
مسعود هَجَرْ وخلَّف المصائبْ
والبُعد طالْ وزادَتْ المتاعبْ
لكن أمنيتها تلك تتمزّق باستحالة التواصل والغياب المتطاول، الذي وصل بها إلى ذروة يأسها من عودة الغائب، التي استعرت في تأوهاتها عتاباً وحيرة [4]:
واليوم لا مكتوبْ ولا صَدارةْ
وُعودْ خِلّي كُلّها خسارةْ
مَرّتْ سنينْ والقلْبْ مَسْكِنّ الدّودْ
ما حدْ درى أينَ الحبيب موجودْ
لقد انقطعت أخبار الزوج، وتناثرت وعوده رماداً، فلا رسالة قادمة منه، ولا هدية تحمل بعضاً من روحه، ولا وسيلة اتصال يمكن أن تبدد حيرة الزوجة؛ لتعرف المكان الذي يوجد فيه.
تجاعيد البوح
تزيد حال زوجة المهاجر سوءاً وشقاء فتجد نفسها تستجدي من حماتها التأمل في حالها، على سبيل الشكوى، لا على سبيل الطلب:
واعمّتي كيفَ البَصَرْ لحالي
ضاع الشبابْ وطالت الليالي
قُوْتِي القليلْ من الشقاء معَ الناس
البَسْلْ [5] أَكَلْ وجهي وشيّب الراسْ
يتجلّى هنا فَزَعُها من ذبول شبابها في رمضاء ليالي الفراق، كما يتجلّى واقعها البائس، الذي تتدبر فيه مقومات الحياة، بالعمل الشاق مع الميسورين في مزارعهم أو في منازلهم، حتى حوّلت الشمس ورد خدّيها إلى سواد، وشاب رأسها قبل أوان المشيب، فتصاعدت المكاشفة لتبلغ مستوى أعمق إيلاماً [6]:
واعمّتي ابني هِلِكْ من الجُوعْ
الحَبْ زَلَجْ وانِي مريضْ مفجوعْ
ركّ النظرْ وجرّحوا السّواعِد
وكم شكونْ صبريْ وكم شاجاهدْ
لقد بلغ الفقر أقصى شراسته جوعاً فاتكاً بها وبطفلها، ومرضاً قضى على قُواها المنهكة بضعف النظر المخيف، ومشقة العمل، وما ترتب على ذلك من حال عجز لم تستطع مواربتها [7]:
مَقْدِرْشْ عادْ أشْقِيْ ولا اقْدِرْ أسْأبْ
ولا أقدِرْ أتْمَهّرْ ولا اطْحنْ الحَبْ
شَهْريْنْ مرِيضْ ماحدْ ظَهرْ يراني
يا رب تِسامحْ الذي بلاني
تكشف شكواها عن حال العجز التي وصلت إليها. إذ لم يعد في مقدورها العمل لتوفّر قوتها اليومي. كما لم يعد في مستطاعها العمل المنزلي حيث لم تتشافَ حتى وقد تطاول مرضها شهرين كاملين. كما تطاول بمعيته هجرُها، ليس هجر الزوج البعيد فحسب، بل وهجر الأقارب، الذين لم يسألوا عنها، ولم يكلفوا أنفسهم القيام بزيارتها. لكنها على ذلك كله، لم تتخلّ عن طبيعتها النقية الوفية، التي تجلت في دعائها أن يسامح الله من تسبّب في حالها البائسة.
احتراقاً بالبكاء وسكرات الرحيل
يتوالى تسريد تداعيات الهجرة في حياة الزوجة المغلوبة على أمرها، فبدأت تستشرف الموت ضيفاً، رأت فيه خلاصها:
أحرقْتَنِي لا تبْكِي يا مُحمّدْ
الموتْ أفضلْ للفقيْر واسْعدْ
أبوكْ نسى الحناء وحُمرة الخَدْ
واني الوفاء لحْدي والموتْ يِشْهَدْ
تواصل فتكُ المرض بامرأة المهاجر، واحتدّت خطورته بعد أن صارت سكرات موت تقضّ مضجعها، وصولاً إلى موقف أشد قسوة، تداخلت فيه لحظات الرمق الأخير من حياتها باشتعال قلبها احتراقاً وهي تسمع بكاء ابنها فزِعاً من رحيلها الذي صار واقعاً لا مفرّ منه.
وعلى ذلك، التقطت من تلك اللحظة المأساوية فرحة الخلاص بالموت؛ بوصفه أغلى أمنيات الفقراء. وفي اللحظة نفسها أيضاً، لاحت لها الذكرى، التي ذبحتها بشفراتها الممتدة من لحظات الموت حتى يوم وداعها القديم لزوجها. إذ تشكو لابنها ظلم أبيه وعدم وفائه بالعهد، ونسيانه الحناء الذي وعدها بأنه سيتخذه بساط ريح يعيده إليها. كما أنها في لحظات الموت تلك لم تتخلَّ عن نُبْلها مؤكّدةً أنها ستظل وفيّة لأبيه، وستتخذ من الوفاء لحداً لها، يشهد فيه موتها على وفائها الاستثنائي، ويضم جسدها بعد انتهائها من إسماع ابنهما وصيتها الأخيرة:
وصِيّتيْ يا بْنِي تكونْ شِهادةْ
بأنّ ابوكْ أحْرَمْنِي السّعادةْ
لكنْ مسامحْ قدْ يكونْ معْذُورْ
وربّما هوَ الأخيرْ مقْبورْ
أوصت الولد المكلوم بأن يكون شاهداً على ما اقترفه أبوه في حقها من ظلم، وحرمان وتعاسة. كما يتجلّى في سياق الوصية وفاؤها نوراً مشعّاً بأصالتها ونقائها. إذ تحاول أن تلتمس ما يمكن التماسه من أعذار للحبيب الغائب، بما في ذلك تفكيرها في احتمالية أن يكون رفاتاً في قبر مجهول، احتمالية أن يكون قد سبقها إلى المصير نفسه، إلى الموت الذي لم يعد يفصلها عنه سوى استكمال وصيتها الأخيرة.
[1] "المصروف": النفقات. "ششقي": سأعمل. شرجع: سأعود؛ إذ تحل الشين في المحكية اليمنية محل السين الدالة على المستقبل في الفصحى.
[2] "شفارقكْ": سأفارقك. "شتذكّر": سأتذكر.
[3] "عمّتي": العمّة هي الحماة في المحكية اليمنية. "مِنُوْ شِقُل": من الذي سيقول.
[4] "مكتوب": رسالة. "صدارة": هدية أو ما شابه ذلك. "القلب مسكن الدود": مقولة شعبية، دالة على شدة الحزن وتراكم أشكاله في القلوب. "ماحْد": لا أحد.
[5] "البسل": سواد الوجه بسبب التعرض اليومي للشمس.
[6] "زِلج": انتهى. "رك النظر": ضَعُف.
[7] "مَقْدْرشْ عادْ أشقْي": لا أستطيع العمل مع الناس. "أسأب": أجلب الماء من البئر. "أتمهر": أعمل. "ماحدْ ظهرْ يراني": لم يزرني أحدْ.