"أصدقائي" لهشام مطر: تشريح الصداقة بمشرط المنفى

تجربة بحث الليبيين عن الأمان هي واحدة من الثيمات المتكررة عند مطر، ولا سيما أنه هو ذاته يعيش في المنفى. فهو يدرس نفسيّاتهم، محلّلاً بدقة كيف غيّر العنف والهجرة طريقة تفكيرهم وشعورهم وارتباطهم بأقرب الناس إليهم.

  • "أصدقائي" لهشام مطر: تشريح الصداقة بمشرط المنفى

كان الكاتب الليبي-البريطاني هشام مطر قد فاز عام 2017 بجائزة بوليتزر، فئة السيرة الذاتية، عن روايته "العودة"، وها هو يعود اليوم برواية "أصدقائي"، حائماً في فضاء الثيمات ذاتها التي استحوذت عليه.

صدرت "أصدقائي" بالإنكليزية في كانون الثاني/ يناير عام 2024 عن دار
"Penguin Random House" وهي تقع في نحو 400 صفحة. نالت هذه الرواية جائزة جورج أورويل للرواية السياسية لعام 2024، ووصلت مؤخّراً إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر. قالت عنها لجنة تحكيم البوكر: "إنها تأمّلٌ معقّد وغير مغرِق في العاطفية لِما تعنيه الصداقة، واستكشافٌ مؤثّر مؤلم لكيفية تأثير المنفى على أولئك المجبرين على العيش في حالة الضياع هذه. إنه كتاب أحببناه لاقتصاد اللغة فيه وسرده عميقِ التأثير". 

تخبرنا الرواية أنه في آذار/مارس 2011، تطلب مديرة مدرسة في لندن إلى أحد معلميها، وهو خالد عبد الهادي من ليبيا، أن يقدّم عرضاً للتلاميذ عن الحركة التي ستُعرف قريباً باسم "الربيع العربي". فيرفض خالد لأنه، بحسب قوله، لا يعرف الكثير عن السياسة. لكن هذه ليست إلا كذبة جلية، لأنه كما يقول حسام، صديق خالد، التاريخ "تيار" ولا أحد بوسعه السباحة بعيداً عنه؛ "إننا فيه ومنه". و"من الحماقة أن نعتقد أنّنا متحرّرون من التاريخ بقدر ما هي حماقة أن نعتقد أنّنا متحرّرون من الجاذبية".

حياة هشام مطر ذاته عرقلها ذلك التيار بقسوة، ورواياته تصوّر تلك العرقلة. تستكشف رواية "أصدقائي" الجريئة والحساسة عاطفياً وفكرياً الرابطَ المتين بين ثلاثة رجال ليبيين يعيشون في لندن بعيداً عن موطنهم. يجتمع الثلاثة في لندن، يصبحون أصدقاء، يتباعدون، يجتمعون مجدداً، ثم يفترقون للأبد. تمتدّ القصة إلى طفولتهم، وماضيهم في ليبيا، لكن السردية الرئيسية تبدأ عام 1984؛ السنة التي أطلق فيها حرّاس السفارة الليبية في لندن النارَ على حشد من المتظاهرين السلميّين. 

الراوي هو خالد عبد الهادي. ورؤيته استرجاعية، لكن من دون الغطرسة التي ينطوي عليها عادةً الإدراكُ المتأخّر. إنه يستمرّ بقول "لا أعرف لماذا فعلت ذلك"، و"لا أزال لا أفهم". ترك خالد ليبيا عام 1983، كان والده معارضاً لنظام القذافي، من دون أن يجاهر بآرائه أو ينشر دراساته السياسية. وخالد كذلك ليس ناشطاً بمعنى الكلمة، لكنه يوافق على حضور الاحتجاج قرب السفارة الليبية في لندن بعد أن أقنعه زميله في الدراسة في جامعة إدنبرة، مصطفى، ليكونا بهذا من بين من أُطلقت النار عليهم. يبقى الاثنان لأسابيع في المستشفى، يتعافيان من جراحهما في غرفة تحرسها الشرطة. وليقينهما أن الأخبار ستصل عن طريق جواسيس النظام الليبي، يصبحان عاجزين عن العودة إلى الوطن. هكذا يصبح المنفى إجبارياً، وتكون "بضع دقائق" أمام السفارة كافية لتغيير حياتهما إلى الأبد. في المستشفى، يقرأ خالد ومصطفى قصة قصيرة كتبها شاب ليبي يُدعى حسام، وهو سيغدو بعد ذلك ثالث أضلاع مثلّث "أصدقائي". حسام، أكبر سناً بقليل منهما، كاتب، وواحدة من قصصه السياسية التي تشجّع على مواجهة النظام الليبي تُقرأ عبر قناة BBC العربية، ليقتَل بعدها مذيع الأخبار المسؤول عن ذلك. تلك الجريمة، مثل حادثة إطلاق النار عند السفارة، حدثت فعلاً في الحقيقة. هكذا، يُدخل هشام مطر شخصياته التخييلية في المشهد التاريخي، معطياً لتلك الأحداث العامة مباشريّةَ التجربة الشخصية.

تبدأ الرواية عند نهايتها، عند اقترابِ افتراق الأصدقاء. لأنه، مع قدوم اللحظة الثورية، "الربيع العربي"، لاختبار الأصدقاء الثلاثة، يتغيّر كل شيء، ويستجيب الثلاثة بطرق غير متوقّعة. مصطفى، اللطيف الساخر، يصبح محارباً وينضمّ إلى الميليشيا في ليبيا. حسام، الكوزموبوليتانيّ، يقع في حبّ الوطن من جديد، وحبّ الشعر العربي. وخالد، المدرّس المنزوي الخجول، يقوم بما قد يكون الفعل الأكثر شجاعة: يقبل على الحياة المتواضعة التي خلقها لنفسه في لندن، ويقرّر الالتزام بها. لقد وجد نفسه، كما هشام مطر، أمام قرار صعب: العودة إلى ليبيا أو البقاء، فيقرّر أن يبقى. وعندما يدعوه رفيقاه إلى العودة، يقول: "المكان وأنا تغيّرنا وما بنيته هنا قد يكون واهياً وخنوعاً، لكنه أخذ كلّ ما لديّ".

في مساء 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، يقرّر خالد أن يذهب إلى منزله مشياً بعد أن قابل صديقه حسام. ومشي خالد الدائري يشكّل تقريباً بنية السرد وينتهي مع نهاية الرواية. هكذا ينقله فعل المشي من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، ليستعيد، ونستعيد معه، قصص الأصدقاء الثلاثة، تموجات حيواتهم، وثقل منفاهم. على هذا النحو، يأتي السرد عند مطر حلزونياً، يعود باستمرار إلى لحظات مصيرية، ليدرك القارئ تدريجياً، أشياء ربما لا يفهمها أولئك الأصدقاء ذاتهم. على سبيل المثال، نتمكّن من فهم أنّ الرجال الثلاثة عاجزون عن تشكيل عائلات سعيدة لأنّ كل شيء في حيواتهم مرحلي مؤقت؛ "أن تلتزم بالحب يعني أن تلتزم بالمنفى".  

يسير الكتاب بإيقاع بارع، مع جمل طويلة تأمّلية تتخلّلها جمل قصيرة. النثر أكثر سلاسة من روايات مطر السابقة وفقاً لرأي النيويورك تايمز، وهو ما يسمح للسرد بأن ينزلق بين عقود وفترات زمنية مختلفة. يبطئ زمن الرواية عند ذكر حوادث التجارب المكثّفة ثم يسرع ليتيح مرور زيجات، ولادة وموت في مقاطع مختصرة. كذلك، تتنوّع بنية السرد؛ تتقاطع مع أحلام، رؤى، أدب يكتبه حسام، قصيدة، وغير ذلك. إن قراءة هذه الرواية هي تتبّعنا لأفكار شخص يمشي إلى شقته طوال 400 صفحة تقريباً.

تجربة بحث الليبيين عن الأمان هي واحدة من الثيمات المتكررة عند مطر، ولا سيما أنه هو ذاته يعيش في المنفى. فهو يدرس نفسيّاتهم، محلّلاً بدقة كيف غيّر العنف والهجرة طريقة تفكيرهم وشعورهم وارتباطهم بأقرب الناس إليهم. إنه موضوع يعود مطر باستمرار إليه، يتفحّصه من زوايا مختلفة، ويجد فيه أشياء جديدة كلّ مرة. لكن، هذه أوّل رواية لمطر تغيب عنها ثيمة "الأب الغائب" التي تسرّبت من حياته الشخصية إلى كلّ أعماله السابقة. مع هذا، يمكن القول إن خالد هو تليماخوس وأوديسيوس في الملحمة الأغريقية "الأوديسة" التي تعتبر ركناً أساسياً للأدب الغربي الحديث، ابن وأب في الآن ذاته، مهجور وهاجر. لقد ارتكب خطأ ترك بلاده عندما "لم يكن على أحد أن يغادر بلاده قط"، والثمن الذي يدفعه هو أن يصبح نوعاً ما حبيس إنكلترا للأبد. جراحه، المادية والمعنوية، تجعل سرد مطر استكشافاً عميقاً مفصّلاً لا لموضوع التخلّي بل التخلّي عن الذات. لقد قسّم المنفى خالد إلى نسختين مختلفتين من ذاته، ولا يمكنه أن يروي بدقة القصة التي تجعل القسمين يندمجان من جديد. "الخيط الذي يفصلني الآن عن ذاتي السابقة هو الصدع التي لا أزال عاجزاً عن رأبه"، يقول خالد. "لا يمكنك أن تكون شخصين في الآن ذاته". 

كذلك، من خلال منفى خالد، يقدّم مطر صورة شاملة لمدينة لندن بوصفها مدينة المنفى الأدبي بامتياز؛ المكان الذي أتت إليه الأنتليجنسيا العربية في السبعينيات والثمانينيات وبعد ذلك. "لندن، بطريقة ما، هي مكان يأتي إليه الكتّاب العرب ليموتوا"، يقول خالد، في نوع من المفارقة كون لندن هي المكان الذي ازدهر فيه هشام مطر ذاته، أدبياً على الأقل. إنّ لندن، كما يرى خالد، مزدحمة بأشباح الكتّاب القلقين الذين لم ينتموا حقاً إليها؛ إيليوت، كونراد، دي إتش لورنس، وحسام؛ الكاتب الليبي التخييلي الذي توقّف عن الكتابة.

"كلّ الأدب الحديث هو، بمعنى ما، أدب ما بعد كولونيالي"، كما يقول أحد النقّاد. وهذه الرواية هي مثال جيد عن الأدب ما بعد الكولونيالي بالمعنى الحرفي. ليست منه فحسب بل عنه كذلك. إنها، وفقاً للغارديان، رواية عن المنفى والعنف والحزن، لكنها قبل كل شيء، كما يقول لنا العنوان، دراسة عن الصداقة؛ عن المليون طريقة التي تتشابك بها نفسيات الأصدقاء، والألم الذي ينتج عن فشل التشابك. يحبّ خالد صديقيه، رغم أنه ليس دائماً معجباً بهما. إنه يلاحظ تنافساتهما. يتألم عندما يستبعدانه. "من هو الصديق الحقيقي؟"، يسأل خالد أباه الذي يجيب: "الإجابة بسيطة. هل يسبّبون لك البهجة؟ وهل تثق بهم؟"، لكن هذه الرواية تُظهر قصور هذا التعريف. "أصدقاء، يا لها من كلمة. يستخدمها معظم الناس عن أولئك الذي بالكاد يعرفونهم". هكذا، يتأمل مطر في الصداقة من عدة زوايا، كما هو متوقّع من رواية تحمل عنوان "أصدقائي"، مشرّحاً ثيمة الصداقة بمشرط المنفى. لكن العنوان لا يفي الرواية حقّها، لأنها فوق كذلك رواية عن الحب والعائلة، الحرية والثورة، والأحلام والأوطان التي تُجهض الأحلام.