"ألغام غرفة الأخبار"... بين التفكيك والانفجار
ينصح آلجي الصحافيين المبتدئين بأن يتَّبعوا مقولة تشيخوف "اكتشف بنفسك"، لأن هذا الاكتشاف يعتمد بشكل كبير على تعزيز مهارات التربية الإعلامية التي أصبحت أساسية.
-
"ألغام غرفة الأخبار" لآلجي حسين
لطالما كان الإعلام قوةً ناعمة قادرة على إحداث التغيير، وأن يكون ذاك التغيير إيجابياً أو سلبياً، فهذا يقع على عاتق سياسة الوسيلة الإعلامية ومقدار إدراكها مسؤولية ما تنشره، سواء أكان نصاً مكتوباً أم تقريراً مصوراً أم برنامجاً إذاعياً...، وفي الحالات جميعها فإن المحرر الصحافي هو الأساس الذي تبني عليه تلك المؤسسة نهضتها وانتشارها وبصمتها ومصداقيتها، وبغض النظر إن كان صانعاً للخبر أم ناقلاً له، فإن بوصلة المُحرِّر الأخلاقية هي ما يجعل من كل كلمة من كلماته إما رصاصةً قاتلة، أو ترياقاً شافياً من سموم تنتشر بسرعة بلا رقيب أو حسيب، وخاصةً في زمننا هذا الذي سيطرت فيه وسائل جديدة لا يستطيع الإعلام التقليدي مجاراتها في السَّبق، ولكنه قادر بكل تأكيد على التنافس معها على صعيد المهنية والمصداقية والموضوعية.
من خلال هذه المواضيع وغيرها استطاع الكاتب آلجي حسين في كتابه "ألغام غرفة الأخبار" الصادر عن "دار تعلَّم للنشر والتوزيع" أن ينقل لنا خبرته العملية التي تزيد عن خمسة عشر عاماً، عاشها كمراسل في العديد من المناطق الساخنة كالعراق وسوريا والصومال، إلى جانب كونه سكرتيراً للتحرير ضمن مجموعة من الصحف والمواقع الإلكترونية، ومدرباً صحافياً حاصلاً على الماجستير في الإعلام، يسعى دائماً إلى ممارسة دور حيوي في "لعبة الكلمات" كما يُسميها، وما يرافقها من عناصر الدهشة والإمتاع والإقناع.
يقول حسين: "أن تكون محرر أخبار، يعني أنه عليك معرفة التاريخ، لتسير لاحقاً في حقل ألغام، أو حتى في منجم فحم، فقد ينفجر بك لغم في أي لحظة، وهذه الجملة أستخدمها دائماً في توصيف مدى صعوبة ما أقوم به بشكل يومي، فـ"الكلمة رصاصة"! نعم رصاصة، علينا أن نحسن استخدامها ونرتب توقيتها ونساعد في كيفية انتقائها ووضعها في سياقها الصحيح، إنسانياً ومهنياً. والصحافي الناجح هو من يدرك جيداً أبعاد المواضيع السياسية وتجاذبات الأحداث، وتأثير كل ذلك على السياسة التحريرية، تماماً كالطبيب الذي يتعامل مع عمليات جراحية معقدة في غرفة العمليات، وبحنكة ودراية يستأصل هنا ويلثم هناك، هكذا هو الصحافي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقال، ولكن بالمعنى الإيجابي".
كوابيس صحافيّة
وعلى الرغم من أن آلجي يؤمن بما قاله الأديب البلجيكي جورج سيمنون بأن "الكتابة ليست مهنة بل هي مَسَرَّات شخصية"، إلا أن ذلك لا يمنع من كوابيس صحافية تلاحقه باستمرار، خاصةً أنه يتعامل مع غرفة الأخبار كساحة معركة، الحياة فيها كَرّ وفَرّ، لذا تراه يوصِّف حالته تلك: "كم من مرة حلمت بعناصر من تنظيم "داعش" الإرهابي يَصِلُونَ إليّ! وكم من حلم عشت فيه مع أحداث الموت في سوريا والعراق وغزة! وكم هي كثيرة المنامات التي كنت شاهداً فيها على كوارث طبيعية حدثت في أكثر من دولة! ولكم أن تتخيلوا رحلة دوران الخبر منذ وروده كخبرٍ عاجلٍ وصولاً إلى نشره... إنها لمعايشة غريبة جداً!".
من هنا نلاحظ آلية معايشة حسين للأخبار بعدما باتت جزءاً منه وهو جزء منها، ضمن سيرته في مهنة المتاعب التي يؤكد أنها علَّمته ولا تزال كيفية السير بين الكلمات كمن يسير في حقل ألغام، موضحاً أنه "لو افترضنا أن فريق كشف الألغام الذي يرافقنا هو حِسُّنَا الأمني والإنساني والمهني، فإن هذه الثلاثية الحسية تختزل الكثير في لعبة الكلمات أو اللغة الإعلامية البيضاء التي، بإجادتها، يمكن تحويل الفسيخ إلى شربات، كما يقول المصريون... وهذا تماماً حالنا في التحرير الصحافي".
يحكي الكاتب الصحافي عن تجربته في تغطية أخبار الرقة أثناء سيطرة داعش عليها وبعد تحريرها من قبل قوات سوريا الديمقراطية، والتي انتهت بفيلم وثائقي بعنوان "وشم النار"، بالقول: "ولأن تحرير الخبر شيء وصناعته شيء آخر، كم كان صعباً تصوير واقع الأنفاق والمقابر الجماعية و"ساحة الجحيم"! وكم كان قاسياً أن أرى جثثاً لمدنيين وصحافيين أُعدموا ميدانياً ودُفنوا، ولا سيما في مقبرة "الفخيخة" التي دُفن فيها الآلاف من مجهولي الهوية، في رحلة من النسيان الكامل والمأساة السورية التي لم تنتهِ بعد!".
غبار دموع ودماء
ويضيف بأن تجربته في الكتابة باتت أكثر غِنىً حين عايش المأساة الإنسانية للإيزيديين في العراق وسوريا، إذ وصل الموصل ومنها توجّه إلى مخيمات النازحين في "خانك" بمدينة دهوك في إقليم كردستان العراق، وهناك كتب تقريراً وصف فيه كيف أن الغبار يغطي رموش الأطفال، وثمة أم تسقي رضيعها من دموعها وأخرى من دمها عبر جُرحٍ في معصم يدها اليسرى، وثالثة تقتل أمها صاحبة الاحتياجات الخاصة لأنها لا تقوى على المسير، ورابعة تُغتصَب أمام الملأ، وعجوز سارت أربعة أيام من دون ماء، وشيخ اكتفى بالدعاء لله بأن يعم الأمن والسلام على العالم، وغير ذلك الكثير.
وفي الوقت الذي يسعى فيه الصحافيون إلى كشف معالم الحقيقة، هناك أيادٍ سود تطمس معالم الحق وتضيّق الخناق على كل من يحاول الاقتراب من تبيان الصواب للرأي العام، وهناك من يتَّهم الصحافيين بأنهم يستفيدون من الأحداث، على اعتبار أن مصائب العالم هي مصدر رزقهم، لكن في مواجهة كل تلك الضغوط ينبغي طرح الأخبار بطريقة مهنية تُعطي الأولوية للقيم الإنسانية وإلا أسفرت تلك الأخبار عن ضحايا جدد، ولا سيما عند الحديث عن أخبار الحروب التي تحولت في النشرات والمواجز الإعلامية إلى مسلسلات مكسيكية ليس فيها إلا أبطال الدم.
يقول آلجي: "لا يزال زر النشر publish يُشكِّل هاجساً لي، فقبل نشر أي خبر، يراودني باستمرار قلق البدايات، ومثل الزعماء الذين يهددون أعداءهم بزر النووي، أرى أن زر نشر الأخبار بتقنيات الاتصال الحديثة لا يقل خطورة عن ذلك، ففي حين أن أحدهما يُدمِّر البنية التحتية، يجتهد الآخر في تغيير المعارف، ثم الاتجاهات، فالسلوك".
نمو الكلمات
بناءً على ذلك يقيس حسين كلماته بميزان الذهب، لأنه في رحلة الكلمات، "يوجد نمو مستمر في معنى الكلمة؛ فالكلمة قد تشير في البداية إلى شيء ما، ثم تصبح فيما بعد مرتبطة بشيء آخر، وهذا ما يؤكد خطأ مدارس علم النفس أو السياسة التقليدية التي تدرس الكلمة والمعنى من دون أي إشارة إلى حقيقة النمو هذه"، وهو ما اقتبسه عن كتاب "البحوث الإعلامية.. دراسات في المنهجية والسوسيولوجيا وتحليل المضمون" للدكتور أديب خضور.
ويفند الكاتب العلاقة بين القانون والإعلام، ويرى أنهما "مترادفان أو مساعدان أحدهما للآخر رغم وجود صراع خفي بينهما، فلا كفة يمكن ترجيحها فوق أخرى؛ الإعلام يكشف الحقائق والقانون يثبتها ويدعمها". ويكشف حسين أن السياسة وتمويل المؤسسات الإعلامية هما من يخلق خللاً في تلك العلاقة، مستشهداً بما قاله أندرو كين في كتاب "مذاهب الهواة... كيف يقتل الإنترنت ثقافتنا؟" من أنه "في ضوء الاختلافات السياسية والاقتصادية بين المؤسسات الصحافية، أصبح من المستحيل التوصل إلى أعراف موحدة ومعايير مهنية، لأن الصحافيين أنفسهم لم يبدُ عليهم اهتمام خاص بوضع وتوطيد مجموعة من المثل المشتركة"، لذا يؤكد ضرورة "أنسنة الخبر" من خلال وضع الطريق الإنساني مع الطريق الإعلامي على مسار واحد.
التربية الإعلامية
ونتيجة الخبرة الطويلة لآلجي في الكتابة الثقافية فإنه يوضح أهمية الأخبار في التثقيف والتنشئة الثقافية على غرار التنشئة الاجتماعية، باعتبار أن التنشئة الثقافية هي إحدى الوظائف الأساسية للإعلام، قائلاً: "إن التقليل من شأن الثقافة بشقيها الأدبي والفني ضمن الأخبار، يؤدي في نهاية المطاف إلى إحداث مواقع غير ثقافية، وانحدار مفهوم الإعلام الثقافي وتلخيصه إلى متابعة عروض مسرحية وسينمائية، واللقاء بنجوم صاعدين وعرض مسلسلات وفتح أحاديث مع ممثليها، ومقابلة أدباء في مجالات الشعر والرواية والقصة والثرثرة معهم حول حواف الموضوع، لا في صلب القضايا الجوهرية التي تشغل الثقافة العربية وبال المثقف، لنصل في النهاية إلى مفاهيم وعلاقات جديدة في الإعلام، تندرج تحت مسمّيات عديدة من مثل الرواية التلفزيونية والنجم التلفزيوني والمسلسل المرئي وغيرها".
وعلى اختلاف الرؤى التي تتضمنها فلسفة نظريات الإعلام، إلا أنها تتفق على أنه لدينا حاجات معرفية لا يمكن إشباعها إلا بالإعلام. ولا شك في أننا نحتاج إلى الإعلام، لحاجتنا إلى الكلام، والمعلومات، والتواصل، والاطلاع، وأخيراً الحاجة إلى الحياة، فالإعلام يؤثر في الوعي العام، ويسهم في تغيير السلوك وطريقة التفكير، وصناعة الرأي العام، وصولاً إلى التأثير، سلباً أو إيجاباً، وصولاً إلى الإقناع؛ الغاية الكبرى.
وينصح آلجي الصحافيين المبتدئين بأن يتَّبعوا مقولة تشيخوف "اكتشف بنفسك"، لأن هذا الاكتشاف يعتمد بشكل كبير على تعزيز مهارات التربية الإعلامية التي أصبحت أساسية يجب أن يتسلح بها أفراد المجتمع في عصر تكنولوجيا الإعلام والاتصال.