كيف أثّر 7 أكتوبر في بنية الهتافات الفلسطينية؟

من ثورة عام 1936 إلى 7 أكتوبر. كيف تتغيّر هتافات الفلسطينيين تبعاً لكلّ مرحلة؟ وما الذي نجح حمزة العقرباوي في رصده؟

إنه حمزة أسامة العقرباوي، حكواتي فلسطيني يتحدر من قرية عقربا قضاء مدينة نابلس، وباحث مهتم بجمع الموروث الشعبي وما يرتبط بالحياة اليومية في فلسطين منذ سنوات، من أمثال وأهازيج ومعتقدات شعبية وهتافات.

مع بدء معركة "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، عمل العقرباوي على رصد وتوثيق كافة أنواع الهتافات التي استخدمها وابتكرها المتظاهرون الفلسطينيون في شوارع وميادين الضفة الغربية المحتلة، وتحديداً في مدينة رام الله، وذلك في محاولة لفهم أثر 7 أكتوبر في بنية الهتاف في فلسطين المحتلة.

حدث ذلك، انطلاقاً من إيمان العقرباوي، بأن الذاكرة الجمعية الفلسطينية وأدبياتها المرويّة شفاهية، لا تغفل عن توثيق الحرب، نصراً وهزيمة، وتفكيكاً لمحاججته بأن الهتافات يمكن أن تكون أداة في التأريخ، وفي التعبير عن البطولة والرؤى السياسية الشعبية.

في مقالة له منشورة في "مجلة الدراسات الفلسطينية" بعنوان "النصر والهزيمة في التعبيرات الشعبية"، يصف العقرباوي أهمية فعل التوثيق للتراث الشفاهي في السياق الاستعماري في فلسطين المحتلة، ويقول إن: "التعبيرات الشعبية المرتبطة بثقافة الانتصار ووعيه أثناء الحرب، والتي احتفظت بها الذاكرة الجماعية، بغض النظر عن النتائج التي ستنتهي إليها الحرب، تمتاز بأنها تعبيرات طبيعية تفصح الذات الفلسطينية من خلالها عن نفسها بتلقائية وعفوية في لحظة الحدث، ولأجل ذلك، فإن توثيقها ورصدها في وقتها إنما هو توثيق لتاريخ الانسان نفسه وأثر وجوده وثقافته من ناحية، وبثّ لروح الصمود والصبر والمجالدة في انتظار لحظة النصر من ناحية ثانية" .

ويحاول العقرباوي من خلال توثيقه للهتاف، إثارة مجموعة من الأسئلة حوله، أهمها: لمن يهتف الغالبية العظمى في المظاهرة؟ من يغيب عن الحضور في الهتافات؟ ما هو الهتاف الأكثر تكراراً؟ هل معظم الموجودون ذكور أم إناث؟ وكيف غيّر الحدث الجاري في غزة اليوم في نوعية الهتاف ومضمونه؟ من هي الشخصية الفلسطينية الأكثر تواجداً في الهتاف؟ ما هو التنظيم السياسي الذي يهتف لأجله المتظاهرون؟ ما هو الهتاف الثابت والمتكرر منذ سنوات ولا يتنازل عنه المتظاهرون؟

من خلال الإجابة على هذه التساؤلات، يستطيع العقرباوي بناء تصور عام يقرأ من خلاله سياق المرحلة التي يعيشها الفلسطينيون، والتوجهات العامة لمطالبهم واحتياجاتهم وتطلعاتهم، انطلاقاً من افتراض مفاده أن الذاكرة الجمعية للشعوب عادلة، تُكرِم وتُعاقب، تُذّكر وتُغّيب، وعليه يمكننا اعتبار الهتافات وثائق تاريخية فلسطينية في السياق الاستعماري.

في محاضرة عامة عقدها في رام الله بعنوان "اهتف، ردد، عليّ الصوت: تطور لغة الهتاف وأسلوبه في المسيرات الشعبية"، يوضح العقرباوي أن مصطلح "هتاف" اشتُق من الفعل هتف، يهتف، وقد ارتبط الهتاف تاريخياً بالشعوب المكبوتة التي تتعرض لقمع ممنهج ومتنوع، وانقسم إلى نوعين: الهتاف التقليدي الذي يكرره الأفراد في كافة المناسبات، والهتاف النقديّ المرتبط بحدث أو أشخاص معينين.

كما أن شروط اعتبار الهتاف هتافاً شعبياً يندرج ضمن 4 عوامل هي: ارتباط الهتاف بحركة المتظاهرين، وجود الهتاف في حيز وفضاء عام، واشتماله على رسالة ومضمون، وقوله بصوتٍ عالٍ.

ويؤكد أن الهتافات الفلسطينية والعربية عادةً تُبنى على عدة قوالب، أبرزها: العتابا، الدلعونة، والشعارات لتوائم عدة مواضيع، ولعل أبرزها كما يسميه العقرباوي هو "الثالوث المقدس": الأسرى، الشهداء والمسجد الأقصى.

وفقاً لنتائج الرصد الذي أنجزه منذ سنوات، يُشير عقرباوي إلى أن مضامين الهتافات الخاصة بالمرحلة التاريخية الممتدة ما بين ثورة عام 1936 حتى نكبة عام 1948 ارتكزت على تمجيد المقاومة الفلسطينية المسلحة، وأهمها السيوف، حيث شاع ترديد هتاف يقول "حج أمين يا منصور، بسيفك هدينا السور"، بينما ركزت الهتافات في مرحلة النكبة وما بعدها على حق اللاجئين بالعودة إلى ديارهم، حيث شاع استخدام هتاف يقول "لا إسكان ولا توطين إلا بعودة اللاجئين".

ثم مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987 رصد العقرباوي ما يقارب 384 هتافاً معظمها مرتبط بالرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات أبرزها "عالقدس رايحين شهداء بالملايين"، بينما برز اسم أرييل شارون في الهتافات الخاصة بالانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، حيث شاع هتاف "شارون صبرك صبرك، الانتفاضة تحفر قبرك". أمّا في معركة "سيف القدس"، فقد سيطر الهتاف الخاص بغزة على جميع الميادين في فلسطين المحتلة. إذ استنجد الفلسطينيون في القدس والداخل المحتل وعموم الضفة الغربية بقطاع غزة قائلين: "يا غزة يلا مشان الله"  و"الشعب يريد كتائب القسام".

أما الحدث الأبرز والضخم منذ 7 شهور إلى اليوم، فهو معركة "طوفان الأقصى"، حيث حدث تحوّل ملحوظ في نوعية ومضامين الهتافات الخاصة بالفلسطينيين باختلاف أماكن تواجدهم. إذ انعكس الحدث بثقله وقوة تأثيره على الهتافات، ليبتكر الفلسطينيون مضامين جديدة مثل "عيد عيد، ضلك عيد، 7 أكتوبر يا مجيد"، و"يوم السبت صبحية.. صارت أكبر عملية.. طاروا بالمظلية.. درجوا بالمية.. دمّروا الصهيونية.. والأسرى فوق المية".

كما لوحظ دخول رموز وشخصيات فلسطينية جديدة على قائمة المهتوف بإسمهم. ففي الأسابيع الأولى بعد عملية "طوفان الأقصى" تركزت الهتافات على استحضار شخصيات محمد الضيف وأبو عبيدة مثل "حُط السيف قبال السيف، احنا رجال محمد ضيف"، و"يا أبو عبيدة يا مغوار.. سمّعنا صوت الإنذار".

ثم لاحقاً برز اسم يحيى السنوار ليسيطر على الطابع العام للهتافات للمرة الأولى تاريخياً. فقد أصبح الفلسطينيون يصدحون بحناجرهم الغاضبة باسمه قائلين: "طلقة بطلقة ونار بنار.. واحنا رجالك يا سنوار "، وتبعه اسم الشهيد صالح العاروري الذي اغتاله الاحتلال خلال معركة "طوفان الأقصى" في بيروت، حيث بايعته الحشود الفلسطينية مرددة اسمه في كافة ميادين الضفة الغربية: "غطيناك بالورد الجوري، بايعناك يا عاروري"، و"يا عاروري طل وشوف... وهي رجالك عالمكشوف".

وبالتزامن مع ارتفاع شعبية رموز المقاومة والعمل المسلح ظهرت الكثير من الهتافات التي تستهجن أصحاب ما يسمى بــ "النهج السلمي"، أبرزها: "يا اللي معك بارودي، ومخبيها للأعراس، يا بتطخ اليهودي، يا بتعطيها لحماس"، "يا اللي معك بارودة، ومخبيها للأعياد، يا بتطخ اليهودي، يا بتهديها للجهاد"،  و"بلا سلمية بلا بطيخ، بدنا رصاص وصواريخ".

لم ينته الحكواتي الفلسطيني حمزة العقرباوي من عملية رصده وتوثيقه بعد. فالمعركة لا تزال جارية، والمشهد لا يزال قيد الاكتمال، والحناجر لا تزال تصدح عالياً في سماء البلاد المحتلة.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.