"الإبادة".. كما لو أنك تتحدث عن نزهة ربيعية!

صور الإبادة التي تبثّها وكالات الأنباء لمجزرة هنا، ومذبحة هناك، على الهواء مباشرة، تجعلنا ننسى مذابح رواندا، والبلقان، والسودان، والصومال، وأفغانستان، أمام أهوال ما يحدث اليوم في غزّة، نظراً لحجم الجرعة البصرية المتطوّرة في معنى الإبادة. 

  • سننسى مذابح رواندا والبلقانأمام أهوال ما يحدث اليوم في غزّة، نظراً لحجم الجرعة البصرية المتطورة في معنى الإبادة
    سننسى مذابح رواندا والبلقان أمام أهوال ما يحدث اليوم في غزّة، نظراً لحجم الجرعة البصرية المتطوّرة في معنى الإبادة

لفرط تداول مفردة "إبادة" في الصحف والشاشات والأرشيفات والسوشيل ميديا وموائد المقاهي، بدا الأمر كما لو أننا نتحدّث عن القطط المنزلية أو عن نزهة ربيعية أو عن فيلم بالأبيض والأسود. 

مفردة تعبر خطفاً أثناء مباراة في لعبة نرد، نصادفها كلّ يوم في مرآة الحمّام أو بين مقتنيات المطبخ، مثلها مثل فنجان القهوة، والمملحة، والمناديل الورقية، والتوابل. إبادة؟ إنها كلمة أليفة مثل "صباح الخير"، مفردة لا تدعو لأدنى درجات الاكتراث، ننتزعها من المشجب على عجل مثل معطف قبل أن نمضي إلى شؤون أكثر أهمية وحصافة. 

قد نصادفها في السوبرماركت، فوق رفوف المعلّبات والأجبان واللحوم المثلّجة والفواكه المجفّفة، بعبوات مختلفة الأحجام: إبادة بالفلفل الحار، بطعم المانغو أو الشوكولا، تفاحة معطوبة في السلّة. سيرشدنا "الكاشير" إلى أصناف أخرى من الإبادة الجماعية بتخفيضات مجزية. لكننا ما أن نقلّب تربة الذاكرة قليلاً حتى تباغتنا مقبرة مجهولة في إشارة إلى عملية إبادة منسية، أهملتها أوراق التقويم ومفكّرات الوحشية. 

صحيح أنّ كتب التاريخ قد أهدتنا عمليات إبادة مغرقة في القدم كدروس غير قابلة للنسيان إلا أنّ الأفعال المضارعة تتفوّق على أفعال الأمس بمراحل، الأمس الذي اكتفى بحفنة أرقام وصور مغبّشة لضحايا مجهولين على جدران المتاحف وغبار أدراج الأرشيف. 

ذلك أن صور الإبادة التي تبثّها وكالات الأنباء من مختلف أنحاء العالم لمجزرة هنا، ومذبحة هناك، على الهواء مباشرة تتفوّق على كل ما سبق. سننسى مذابح رواندا، والبلقان، والسودان، والصومال، وأفغانستان، أمام أهوال ما يحدث اليوم في غزّة، نظراً لحجم الجرعة البصرية المتطورة في معنى الإبادة. 

المفارقة أنّ الاتفاقية التي وقّعتها الأمم المتحدة في عام 1948، لإدانة أفعال النازية ضدّ يهود أوروبا، واكبت عام النكبة الفلسطينية وعمليات التطهير العرقي للفلسطينيين على يد العصابات الصهيونية كنوع من "هولوكوست مضاد"، فها هو الوحش المعدني يلتهم الأحياء والموتى بالجملة في أكبر عملية إبادة جماعية، فيما عدّاد القتل يعمل بأقصى طاقته ليحقّق الرقم القياسي في موسوعة غينيس للإبادة. 

نظرة استعادية

بنظرة استعادية لتاريخ الإبادة في فلسطين، بدت مذبحة كفر قاسم (29 تشرين الأول/أكتوبر 1956) التي راح ضحيتها 49 فلسطينياً بذريعة عدم الالتزام بقرار حظر تجوال ليلي، مجرّد بروفة أولية على عمليات إبادة دورية ستشنها عصابات الاحتلال بانتظام مثل معادلة رياضية تلخّص نظرة المحتل للفلسطينيين: قتل 49 فلسطينياً مقابل غرامة تعادل سنتاً واحداً بحق القائد العسكري للمنطقة، العقيد يسخار شادمي، الذي أمر بحفلة الإعدام! 

لا نعلم اليوم ثمن الدم الفلسطيني المهدور أمام وقائع القتل المتعمّد التي تحوّلت إلى فرجة عالمية بالألوان الطبيعية.  

في سجلّ الإبادة المفتوح منذ بداية القرن العشرين، ستطالعنا رسالة لمؤلف مجهول كتبها عام 1907 تحت عنوان" حزمة رسائل من عامل شاب ذي نفس مضطربة"، يروي فيها عامل يهودي مهاجر إلى فلسطين كيف اكتشف ذاته في "أرض الميعاد": "الفلاح المحارب الذي يحوّل المحراث إلى سيف، والمجرفة إلى رمح"، وسيطوّر أحفاده أدوات القتل بما يليق بمجرمي الحرب كورثة حقيقيين لصناعة الموت بأبهى صورة، وبتنفيذ بنود كل ما ورد بالتعريف القانوني للإبادة الجماعية وفقاً لقرار الأمم المتحدة حرفياً: "قتل أعضاء الجماعة، إلحاق الأذى الجسدي أو النفسي بأعضاء الجماعة، إلحاق الأضرار بالأوضاع المعيشية للجماعة بشكل متعمّد بهدف التدمير الفعلي للجماعة كليّاً وجزئياً، إلخ، إلخ....". 

من المسافة صفر

لتوثيق مذابح غزة بصرياً، استعار سينمائيون شباب مصطلح "من المسافة صفر" لإنجاز أفلام حيّة من قلب الحطام مكتفين بأدوات بسيطة في تحقيق أفلامهم أو ما يسمّى "شغل بيت" لجهة نوع الكاميرا ومعدات الإضاءة وطريقة المونتاج، وذلك بإشراف المخرج الفلسطيني، رشيد مشهراوي. 

بربرية حرب الإبادة أوحت لهؤلاء السينمائيين بأفكار تبدو فانتازية لفرط غرابتها ولا معقوليتها. في شريطه "جنّة الجحيم" يحكي كريم سطوم عن شاب يريد اختبار النوم في الكفن وهو حيّ، لكنّ أحدهم يرفض الفكرة فيسأله الشاب: "هل أحظى بكفن لو استشهدت؟"، فيجيبه بنعم، فيردّ: "دعني إذاً أستمتع به في حياتي". 

وفي "عذراً للسينما" يوجه أحمد حسونة عدسته بلقطات واسعة نحو مشهد رمي المساعدات بالمظلات، وركض حشود البشر في اتجاهها أو نحو شاحنات المساعدات. لقطات تختزل المجاعة والعار بآنٍ واحد، وكأنه باختياره الأبيض والأسود لتصوير فيلمه يرغب بأن يمزج الصورة السينمائية بخصائص مسرح اللامعقول، وأن ما نراه حدث منذ زمن بعيد وليس اليوم، وعلى مرأى من صمت العالم. أفلام واقعية، أبطالها من الناس العاديين الذين ربما مات بعضهم بعد التصوير مباشرة.

سجن مفتوح على الهلاك

من جهته يحيلنا المخرج المكسيكي، رافائيل رانجيل، في شريطه الوثائقي "غزة، قطّاع الإبادة" إلى بعض من وجوه المذبحة المتنقّلة التي شهد فصولها أثناء وجوده في أرض النار كاشفاً أهوال ما وثّقته عدسته من يوميات الإبادة الجماعية حتى تاريخ تصوير الفيلم: 46960 ضحية، و81 ألف جريح، عدا عدد المفقودين تحت الأنقاض. فصول مفزعة من الوحشية لا يمكن نسيانها، وذكريات مؤلمة سترافقه أثناء التصوير وما بعده، في رحلة استكشاف هدفها الأصلي التضامن مع ضحايا غزة وإلا "سيتحوّل الأمر إلى خيانة لحقيقة ما يكابده الشعب الفلسطيني في هذا السجن المفتوح على الهلاك منذ 70 عاماً".

ولكن مهلاً، هل ستُمحى استغاثات الضحايا من الأرشيف إلى الأبد، وهل ستفقد كلمة "إبادة" معناها الحقيقي في المعجم، أم ننصت إلى ما قالته الفيلسوفة الأميركية، جوديت بتلر، حول ما يحدث في غزة (يجب أن نأخذ تعبير "إبادة جماعية" على محمل الجدّ)؟

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك