"الليلة قبل الأخيرة" قصص المكان والناس والأحلام

   قصص محمود الريماوي، في كتابه "الليلة قبل الأخيرة" استعادة مدهشة لجماليات فنّ القصة القصيرة وحذقه، واستعادة للذكريات التي امتلأت بها ذاكرة الفلسطينيين.

  • "الليلة قبل الأخيرة" قصص المكان والناس والأحلام

منذ سنوات، تبدو تجلّيات القصة القصيرة، وإشعاعاتها في نواس ما بين الحضور والغياب، وما بين تأدية الواجب للمحافظة على أهمية حضور هذا الجنس الأدبي الحارّ، وبين الرغبة في منافسة الرواية التي تصدّرت المشاهد الثقافية بسبب رصيد القرّاء الوافر، وافتتان النقّاد بها، وطلب دور النشر اللحوح عليها والسؤال عنها، وكثرة الجوائز الأدبية المهتمة بها، وانخراط أهل الترجمة في ترجمة نماذج منها، صارت اليوم ذائعة الصيت والشهرة.

    ومنذ سنوات أيضاً، يلحّ سؤال ثقافي مهمّ فحواه، وما الذي يعمل عليه الأدباء الذين نذروا أنفسهم لكتابة القصة القصيرة، هذا الجنس الأدبي الفريد في مميزاته، وقدرته على الإمتاع، وتأدية وظائف الأدب المعرفية، أمثال: زكريا تامر، وسعيد الكفراوي، وسعيد حورانية، وخليل السواحري، ومحمود الريماوي، ومحمد المخزنجي، وطالب الرفاعي، وليلى العثمان، ومحمد البساطي، ومحمد زفزاف، والميلودي شغموم، وعبد الله عبد، وربيعة ريحان، وعلي حجازي، وعبد المجيد زراقط، وجورج سالم.. إلخ، في زمن شهرة الرواية واندفاعها كي تتصدّر المشهد الأدبي وتستحوذ عليه، طبعاً بعض هؤلاء الأدباء رحلوا، هم وحيرتهم تجاه ما يفعلونه، وبعضهم تحوّل إلى كتابة روايات أكدت عمق مواهبهم، وقدرتهم على التفوّق في سباق المسافات الطويلة، والاعتياد على مدّ عمر الكتابة وزمنها كيما تصير رواية متعدّدة الأمكنة، والأجيال، والأحداث، والأصوات.

   أقول هذا، ونفسي معلّقة بهذا الفنّ العجيب، فنّ القصة القصيرة، فنّ الرجل الصغير الذي استطاع أن يغيّر اتجاهات اجتماعية كثيرة في بلدان ومجتمعات كثيرة في العالم، وأن يبني قناعات جديدة ذات أساسات عميقة مثل جذور الأشجار، هذا حدث في روسيا من خلال قصص تشيخوف، وبوشكين، وتورغينيف. وحدث في أوروبا من خلال قصص موباسان، ودين بوتزاتي. وحدث في مصر، من خلال قصص يوسف إدريس، ومحمود تيمور، ويحيى الطاهر عبد الله، وسعيد الكفراوي، وسليمان فيّاض، ومحمد المخزنجي. مثلما حدث في سوريا من خلال قصص زكريا تامر، وشوقي بغدادي، وسعيد حورانية، وعبد الله عبد، ونصر الدين البحرة، وكوليت خوري، وألفة الأدلبي. وكذلك حدث في العراق من خلال قصص أحمد خلف، وصلاح زنكنة، ومحمد خضير. وحدث في الكويت من خلال قصص طالب الرفاعي، وليلى العثمان. مثلما حدث في فلسطين من خلال قصص جبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، وخليل السواحري، ومحمود شقير، وسميرة عزّام، ورشاد أبو شاور، ويحيى يخلف، وأكرم هنية، ومحمود الريماوي، وأكرم شريم، ونواف أبو الهيجاء. وكذلك حدث في الجزائر (الطاهر وطار)، وفي المغرب (محمد زفزاف)، وفي لبنان (توفيق يوسف عواد).. إلخ.

   فنّ القصة القصيرة، فنّ مرموق، محتشد بالجماليات، مثلما هو محتشد بالقدرة على التأثير والتغيير، وقد أدّى دوراً مركزياً في التأثير والتغيير في بلادنا العربية، في عقد السبعينيات من القرن العشرين المنصرم، حين تصدّر المشاهد الثقافية العربية في الحضور والمكانة على حساب فنَّي الشعر والرواية.

اليوم، اختلفت الأمزجة، واختلفت معايير التقييم، وتغيّرت مواضع الأولوية، فباتت الرواية منفردة في صدارة المشاهد الثقافية حضوراً ومكانة، لأنّ الحال الاجتماعية، التي دارت دورات سريعة بالناس، جعلتهم يفكّرون بما يقلّل من سرعة هذا الدوران المذهل، والركض اللاهث وراء متطلّبات الحياة، وأسئلتها العاصفة، وما كان لهم أن يصلوا إلى لحظة التوازن المطلوبة إلا بالالتفات إلى كلّ ما يؤيّد أفعالهم بطلب التأمّل، والروية، والتلبّث لفهم مجريات الأمور، وكان مما التفتوا إليه، وسعدوا به هو فنّ الرواية، لأنها عملت على أن تكون مرآة التأمّل والتبصّر والمراجعة للأحداث والتواريخ وسِير الزمن التي كتبت حيوات الأفراد والمجتمعات من جهة، وصوّرت التغيّرات التي أصابت المجتمعات القروية والمدنية معاً.

  قلت كلّ هذا، لأنّ فرحاً ملأ قلبي، وأنا أقرأ مجموعة قصصية جديدة عنوانها "الليلة قبل الأخيرة" للقاصّ الفلسطيني محمود الريماوي، الذي يعيش منذ خمسين سنة وأزيد في مدينة عمان الأردنية، وهي صادرة عن دار (الآن/ ناشرون وموزّعون)، أي أنها صادرة في الزمن الذهبي لانتشار الرواية وصعودها، أي زمن القبول على قراءة الرواية، وجوائز الرواية، وترجمة الرواية، ونقد الرواية. فرحت لأنّ محمود الريماوي، وهو واحد من أهمّ كتّاب القصة القصيرة عربياً، يقاوم، وبعناد جميل، فيكتب القصص، وينشرها كي لا يقال إنّ فنّ القصّة القصيرة غاب، وزمانه ولّى، لقد صدرت مجموعته القصصية الأولى"العري في صحراء ليلية" عام 1972 عن وزارة الثقافة العراقية، فهو أديب مجايل أدبياً لغسان كنفاني، ويوسف إدريس، وزكريا تامر، وقد عمل مع غسان كنفاني في الصحافة اللبنانية والفلسطينية معاً. وهو في طراوة العمر، عمل في صحيفة (الأنوار) اللبنانية، وفي مجلة (الهدف) الفلسطينية خلال السنوات التي عاشها في مدينة بيروت، وله شهادة مهمة جداً دارت حول أدب غسان كنفاني من جهة، ومزايا شخصيته الأدبية والإعلامية والنضالية من جهة أخرى.

   محمود الريماوي، من مواليد عام 1948 بيت ريما/ رام الله، عاش طفولته وشبابه في المخيمات الفلسطينية التي أقيمت في ضواحي مدينة أريحا (مخيم عقبة جبر، وعين السلطان، والنويعمة) شأنه في ذلك شأن الكاتب الفلسطيني المعروف رشاد أبو شاور، وقد كتب قصصاً كثيرة عن أريحا، والحياة في مخيماتها، وقد باتت هذه القصص مع قصص رشاد أبو شاور ورواياته، تاريخاً فلسطينياً يروي حياة التشرّد، والبقاء، والطموح في تلك المخيمات، في ظروف مناخية واجتماعية صعبة جداً، صعبة في كلّ شيء، صعبة حتى في نطق قولة: صباح الخير.

   كتب محمود الريماوي، أربع عشرة مجموعة قصصية، روت حياة الناس في المخيمات، فسجّلت معاناتهم وهم يتدرّبون على الصبر يومياً، وتنشيط الذاكرة في الليالي الطوال، ليالي الصيف الحارق، والشتاء المهول برياحه، وبرده، ومطره، وثلجه، والناس لا حول لهم ولا قوة، ورسم المفارقات ما بين المكان الأصل (القرى والبلدات والمدن الفلسطينية)، والمخيمات الفلسطينية التي بنيت على عجل، وبروح طارئية تقول في كلّ لحظة، إنّ كلّ هذا طارئ، ومؤقت، ولا يعرف الإدامة، ولكي تتحقّق العودة إلى فلسطين، لا بدّ من العمل، والعلم والاجتهاد، والإبداع، والتفرّد، والانتصار على ما تبديه الحياة من كواره، أيّ لا بدّ للفلسطينيين من قطع جسر التعب.

   محمود الريماوي لم يكتب القصة القصيرة وحسب، بل كتب، في زمن الرواية العاصف روايتين هما "من يؤنس السيدة"، و"وحلم حقيقي" وقد عرفتا التقريظ مثلما عرفته قصصه القصيرة السابقة عليهما التقريظ والثناء العزيزين، وكتب أيضاً صوراً أدبية "بورتريه" دارت حول شخصيات أدبية عايشها، فعرف بها، وعرف بأدبها، وقد كان هؤلاء الكتّاب من عدة بلدان عربية، هنا، ومن خلال قصصه التي ذاع صيتها، كانت شهرة محمود الريماوي، أعني شهرته الأدبية، ولكنّ حضوره الإعلامي كان كبيراً أيضاً، فقد أشرف على ملاحق ثقافية، وأقسام ثقافية في غير بلد عربي (الأردن، لبنان، الكويت)، وتسلّم مسؤولية تحرير بعض الصحف والمجلات، وهو اليوم كاتب أعمدة صحفية في غير مجلة وصحيفة عربية، وقد ترجمت قصصه إلى لغات عالمية عديدة.

   هذه المجموعة (الليلة قبل الأخيرة) هي آخر إصداراته القصصية، وفيها يرى القارئ عياناً ويتذوّق متعة فنّ القصة القصيرة، أسلوباً واختياراً، وجمالاً فنياً، يضاهي جمال اللوحات التشكيلية والقطع الموسيقية، وبراري الطبيعة، وطراد الخيول في مروج العشب، وغناء الصبايا حول حواف الغدران جلوساً في ظلال أجمات القصب، فالقصص مكتوبة بعناية وحذق لا لتشكّل قلادة قصصية، وإنما هي مكتوبة من أجل أن تتفرّد كلّ قصة فيها بالأسلوب الماتع، والغنى اللغوي، والإبداع الجمالي، والتراسل مع الأجناس الأدبية والفنون الإنسانية طلباً للحضور والدهشة والإبهار، وقصص هذه المجموعة موزّعة على اثنتي عشرة قصة، كلّ واحدة منها تحتاج من القارئ التأمّل، والتلبّث، والذهاب إلى المستبطن، وتوقّع الوصول إلى الجملة الذهبية الخاتمة لها في أيّ لحظة، وهي قصص مهمومة بالحال الفلسطينية: تذكّراً، وتاريخاً، ووصفاً، وتصويراً، واستحضاراً لخصوصيات الأمكنة (البيت، والدروب، والمدارس، والمراعي، والحواكير، والساحات في الزمن السابق على النكبة الفلسطينية)، والوقوف عند علامات الزمن التالي التي غدت حسرات لكثرة مواجعها من جهة، مثلما صارت ندوباً جهيرة لكثرة جروحها من جهة أخرى، في قصته (دوار القدس) أي الغيبوبة والذهول والدهشة التي يصاب بها زائر القدس، مثل المدهوش المذهول من ركوب البحر، يتحدّث محمود الريماوي عن ضياعه طفلاً في حارة المغاربة، حين أفلت يده من يد أمه ليرى واجهة دكان بلورية، فضاع بين الزحام البشري الكثيف، وراح يبكي بعد أن روّى نظره بما أدهشه من معروضات معلّقة خلف الزجاج، وراحت أمه تبكي وتسأل عنه إلى أن وجدته يجلس على عتبة الحانوت أمام الواجهة البلورية، وبيده قطعة حلاوة الطحينية التي منحه إياها صاحب الحانوت، وبعد مرور خمسين سنة وأزيد، يرى الرجل الكهل محمود الريماوي أن نفسه ما زالت ضائعة هناك في حارة المغاربة كي الزحام، والطفل الذي كأنه ما زال يأكل بتلذذ قطعة حلاوة الطحينية، وقلبه يدقّ قائلاً: لا خوف، لأن لا أحد يضيع في القدس! 

قصة أخرى عنوانها "الليلة قبل الأخيرة" مبنية على الخيال، ومعرفة من ماتوا في غفلة، وقد أبوا الحياة، فعادوا على شكل أرواح ليسألوا ويعرفوا ويعتذروا وليرووا أرواحهم برؤية البلاد التي عشقوها، وما يحدث فيها، القصة قائمة على عودة الشاعر إبراهيم طوقان (رحل عام 1941) ليقابل أخته الشاعرة فدوى طوقان وليقول لها: إنه قرأ كتابها (رحلة جبلية) وقد تأثّر به، وقد جاء إليها ليشكرها على كلّ هذا الجمال في الكتاب، وليعتذر إليها لأنها عاشت حياة صعبة وجبليّة في مدينتهم نابلس، وليقول لها أيضاً: ليتني بقيت حياً كي أجنّبك كلّ المشاق التي عشتها كونك امرأة، وأثنى على ما تكتبه من شعر، وما عاشته من مسرّات في لقاءاتها مع أسماء كبيرة، وفي مجالات متعدّدة، وبارك لها شهرتها الواسعة في البلدان. ثم يلتفت إلى نفسه، حين سألته، وأنت، ما هي أحوالك؟ فيخبرها بما أحبّ، وبما عانى، وبما تمنّى، وبما خاف، وبما حلم، وبما أخفى وطوى ومزّق من قصائده وبما عرفه من إحباط ويأس وخذلان، وتظلّ الأسئلة والأجوبة بينهما جائلة إلى أن ترضى نفساهما. 

قصّة فريدة في أسلوبها، وحوارها، وتعدّد أزمنتها، ومناقلات أمكنتها، وطيوف الخيال وطبقاته، كيما تكتب لنا ما لا نعرفه عن إبراهيم طوقان، وأخته فدوى طوقان، وعن مجتمع مدينة نابلس، ولتفصح لنا عن الكثير من الأسرار والمحجوبات. قصة ثالثة مدهشة عنوانها (المبيت في حيفا)، تدور حول المكان المفتك من أيدي أهله الفلسطينيين من جهة، وحول المكان الحيفاوي الذي ما زال أهله الفلسطينيون يعيشون فيه مثل: وادي النسناس، والكبابير، والحليصا، ووادي الجمال، ووادي الصليب، ومحطة الكرمل، من جهة أخرى، لتنعقد المقارنة والموازنة ما بين المكانين، الأصلي العابق بالروائح الطيبة، والأصلي الحاضر بالتراث، والأصلي المحتشد بالطمأنينة والمؤانسة ومعرفة البيوت، والحارات، والأشجار، والحدائق، والساحات من جهة، والمكان المحتل والمسروق المغلق برتاج الخوف والغموض والأذيات والقوة العمياء من جهة أخرى.

   قصص محمود الريماوي، في كتابه "الليلة قبل الأخيرة" استعادة مدهشة لجماليات فنّ القصة القصيرة وحذقه، واستعادة للذكريات التي امتلأت بها ذاكرة الفلسطينيين، فشعّت.. وهم يستعيدون الطيوف التي عاشوها يقيناً وحياة في قراهم وبلداتهم ومدنهم، ومن ثمّ التلبّث عند المرارة التي يتذوّقونها في كلّ لحظة، وهم في بعدهم الخرافي عن جمال أمكنتهم الخرافية أيضاً، وعن العيش في زمن يلد الغصّات في كلّ صباح، وعن حلم مضيء يحاول جاهداً، في كلّ حين، أن يصير واقعاً في كلّ يوم، وعن عيون تناظر وتنتظر خلاصاً مشتهى.. لا بدّ منه.

اخترنا لك