"بحارنة البنادر": ذاكرة تقاوم النسيان
يبرز "بحارنة البنادر" قدرة البحارنة على الاندماج الاجتماعي من دون التفريط في هويتهم. ففي بيئة متعددة الطوائف والأعراق، ظل لقب (البحراني) شيفرة للانتماء ومرجعاً في حفظ الأنساب.
يجمع فيلم "بحارنة البنادر" لمخرجه علي شايع بين الوثائقي التاريخي والسرد الشفوي الحيّ، مستعرضاً واحدة من أعمق تجارب الهجرة البحرانية في الخليج. يعيد الفيلم تركيب ذاكرة مجتمع عبَر البحرين إلى العراق ثم إلى المحمرة (خرمشهر)، حاملاً ما تبقى من تراثه، ومصراً على ألا يذوب. الفيلم ليس مجرد سرد لهجرة قديمة، بل محاولة لإنقاذ ذاكرة متشظية وفهم عميق لهوية قاومت التحوّلات والحروب.
جذور الهجرة… البداية
يقدّم الفيلم تسجيلات نادرة وشهادات مباشرة لأبناء الجالية البحرانية في المحمرة، يتحدثون عن أصولهم العائلية وأسمائهم التي تعود إلى البحرين منذ أكثر من 150 عاماً.
ويوضح المتحدثون أن أجدادهم كانوا يعملون في مهن تقليدية: التجارة في السوق، صناعة السفن، والزراعة، وأنهم مرتبطون بقبائل بحرانية قديمة مثل قبيلة ربيعة، وأن تاريخهم في البحرين يمتد لثلاثة أو 4 قرون.
هكذا يخبرنا الفيلم أن موجة الهجرة الأولى بدأت نتيجة ظروف سياسية واقتصادية معقدة، ثم استمرت باتجاه العراق ومنها إلى المحمرة. وظل لقب (البحارنة أو البحراني) عنواناً للهوية ودليلاً على الأصل، ووسيلة لحماية الانتماء وسط بيئات متعددة.
ويُظهر الفيلم وثائق نادرة مثل جوازات سفر بحرانية مختومة بختم المستشار البريطاني، لتوثيق هذه المرحلة التاريخية.
الترحال المستمر وتوثيق الذاكرة
يرصد الفيلم عمق الذاكرة الشفوية لدى الجالية، وكيف تناقلت العائلات قصص الرحلة والهجرة على امتداد قرن كامل. فقد شهدت مناطق الساحل الشرقي انتقالات متعددة بين البصرة والمحمرة وبلدات إيرانية أخرى، بحثاً عن العمل في التجارة والزراعة وصناعة السفن. وكانت القلافة إحدى أبرز المهن التي مارسها البحارنة، إذ أسسوا ورشاً لبناء السفن وصيانتها، مستفيدين من خبرتهم التاريخية.
ويؤكد المتحدثون أنهم احتفظوا بجوازاتهم البحرانية رغم حصول بعضهم على الجنسية الإيرانية، معتبرين أن التخلي عن جواز الأصل يعني التخلي عن الجذور. كما يسلط الفيلم الضوء على الخلفية الاقتصادية للبحرين، خصوصاً تجارة اللؤلؤ، التي شكّلت سبباً للصراعات الإقليمية ودافعاً للهجرة بحثاً عن الأمان.
ويبرز "بحارنة البنادر" قدرة البحارنة على الاندماج الاجتماعي من دون التفريط في هويتهم. ففي بيئة متعددة الطوائف والأعراق، ظل لقب (البحراني) شيفرة للانتماء ومرجعاً في حفظ الأنساب. ويستعرض الفيلم استمرار اللغة العربية البحرانية في البيت، والمذهب الشيعي كمساحة اجتماعية ودينية، فيما استمرت العادات البحرانية رغم تغيّر الجغرافيا.
كما يروي قصص عائلات رفضت التخلي عن هويتها واحتفظت بجوازاتها البحرانية القديمة بعد حصولها على جنسية البلد المضيف.
الحسينيات… القلب النابض للبحارنة
من أبرز ما يرصده الفيلم الدور المركزي للحسينيات في صون الذاكرة وتعزيز الروابط. فقد شكّلت الحسينية الكبرى التي بُنيت على أرض منحها الشيخ خزعل، نقطة ارتكاز روحية واجتماعية، تُقام فيها الشعائر الدينية، وتُحفظ فيها اللغة والتاريخ.
كما يعرض أيضاً للمهن التقليدية للبحارنة في المهجر، من تجارة وزراعة وصناعة، محتفظين بروح البحر الذي جاؤوا منه وبنمط الحياة الذي حملوه معهم، مع شعور فخور بالانتماء وحرص على توثيق التجربة للأجيال المقبلة.
الحرب… حين تحطمت الذاكرة
يبلغ الفيلم ذروته حين يوثق مأساة ثمانينيات القرن العشرين، عندما اجتاحت الحرب العراقية –الإيرانية مدينة المحمرة، وتحولت الأحياء إلى ركام والمنازل إلى رماد، فيما أصبحت الوثائق رموزاً محروقة لذاكرة ضاعت.
دُمّرت الحسينيات والمؤسسات، واحترقت مخطوطات ووثائق وأنساب عمرها أكثر من قرن، واضطرت مئات العائلات لخوض هجرة ثانية قاسية. تمرّ كاميرا الفيلم على ما تبقى من تلك الحياة: صور عائلية ممزقة، جوازات سفر قديمة، شهادات… شظايا متفرقة لحياة فقدت معظم تفاصيلها، لتصبح شهادات صامتة على ما جرى.
رسالة الفيلم… حين تنجو الذاكرة من الخراب
يحمل الفيلم رسالة إنسانية تتجاوز حدود التاريخ والجغرافيا: فالهوية ليست جوازاً يُختم، ولا أرضاً تُغادر، ولا جدراناً تُهدم. إنها ما يبقى حين يضيع كل شيء، اللغة التي عبرت الأجيال، والطقوس التي لم تتوقف، والأسماء التي ظلت تنبض بالحضور، والذكريات التي حملها الأحفاد كوصية لا يجوز التفريط بها.
الفيلم ليس مجرد سجلّ للماضي، بل شهادة على صمود الذاكرة وقدرتها على إعادة بناء مجتمع مزّقته الحروب، لأنه حمل جوهره معه… لا أوراقه. فالهوية ليست وثيقة تُفقد، بل ما يسكن في الصدور: في اللسان الذي لم يتبدّل، في الدمع الذي يسيل في المجالس، وفي الاسم الأخير الذي يربط الماضي بالحاضر.
حين تنجو الذاكرة، ينجو كل شيء. حتى لو تشتّت الناس، واحترقت البيوت، وضاعت الطرق، تبقى البذرة الأولى حيّة، تقول بثبات: "إننا هنا… مهما تغيّر المكان".


