"رئيس الصدفة" .. نقد سياسي واجتماعي على ألسنة الحيوانات

تتطابق الشخصيات الحيوانية في هذه الرواية إلى حدّ بعيد مع شخصيات المجتمع البشري. الضّبع يسيطر على الإذاعة والتلفزيون ويعلن البيان رقم 1.

  • "رئيس الصدفة" لمحمد البندر.. نقد سياسي واجتماعي على ألسنة الحيوانات

تقدّم رواية محمد البندر "رئيس الصدفة" معرفةً بالواقع السياسي المعاصر من جهة، ومن جهة ثانية تقدّم نقداً لاذعاً للسياسة والمجتمع، كما تتضمّن مجموعةً من الرموز والإشارات، جاءت بأسلوب شائق وروية ثاقبة.

ويبرز في الرواية عالمان متوازيان: عالم الحيوان وعالم الإنسان، وهذان العالمان يتشابهان، وأهم ما يجمع بينهما هو أنه في كليهما، عندما يستلم زمام السلطة حمار، فإن الدولة ستنهار على الجميع، وستنْسف من أساسها، ليكتشف القارئ أن عالم الحيوان هو عالم الإنسان ذاته.

لا شكّ في أن النقد الاجتماعي والسياسي يشكّل مرحلة مهمة في مجال الأدب، لما له من أدوات وآليات إبداعية تسهم في بناء نقد سياسي اجتماعي محكم. لكنْ، لماذا يلجأ إلى لسان الحيوان في الأدب السياسي؟

هناك عدد كبير من الأدباء، وعلى مدى العصور، فطنوا إلى الأوضاع المتردية للمجتمعات، وبهدف وضع الإصبع على الجرح ومن ثمّ الإصلاح، اعتمد البعض منهم الحكاية أو المثل الخرافي. وحالما تطالع عنوان هذه الرواية، تخطر في بالك تجربتان: تجربة جورج أورويل، وتجربة ابن المقفع.

إن تجربة جورج أورويل في "مزرعة الحيوان" فيها انتقاد للنظام الشيوعي الذي كان يمثّل النظام المثالي، إلا أنه من خلال لسان الحيوان يتّضح أنه مجرد وهم ظنّت الحيوانات أنه سيحرّرها من ظلم البشر، لكنها وقعت في ظلم آخر صادر من الخنزير الذي يقود الثورة.. وفي هذا ينبّه جورج أورويل إلى أنّ الأنظمة السياسية جميعها تتساوى عندما ينعدم الضمير. أمّا تجربة ابن المقفع ففيها دعوةٌ إلى إقامة دولة مدنية عادلة، لذا قدّم نقداً لاذعاً لكلّ حاكم ظالم مستبدّ لا يؤمن بحرّيّة التفكير والرأي. فالكلام على ألسنة الحيوانات يمنح مساحة واسعة من الحرّيّة للكاتب، ويعطي مساحة تصويريّة أرحب، وخيالاً أكثر جموحاً.

لقد التفت الكاتب محمد البندر في هذه الرواية إلى الوضع الاجتماعي وما يجري فيه من أحداث، كما التفت إلى الواقع السياسي المأزوم، وراح يطرح تلك القضايا على ألسنة الحيوانات، التي تعرض الأفكار وتناقش وتجادل وتحاجج وتبدي آراءها وتحاور. ويبدو عالم الحيوان في هذه الرواية عليماً بكلّ ما يجري في عالم البشر، حتى التطوّر التكنولوجي قد طال عالم الحيوان، ووظّفه في سبيل خدمة مصالحه الخاصة.

يقول "هزيم" زعيم القردة مخاطباً حفيده: هؤلاء يا ولدي بليّةٌ خلقها الله ليمتحن بها مخلوقاته، هؤلاء يا بني هم حثالة الخلق، لقد منحهم الله تعالى ما لم يمنحْه لنا، نحن شكرناه وحمدناه، وهم جحدوا وكفروا (ص 62)، ثم يتوجّه بخطابه إلى البشر الموضوعين في قفص في حديقة الآدميّين: ما أنتم إلا جيف ناطقة تمشي على قدمين، ولكنكم لو كنتم تمشون على أربع، لنظرْتُمْ أمامكم وما تكبّرتم على الخلق والخالق. انظروا ماذا فعلت السياسات المادية عديمة الرحمة والشفقة، والتي لا تحمل ذرة أخلاق حيوانية ليس لها مثيل حتى في المجتمع الإنساني (ص 20).

لقد قلّ اعتماد السرد العربي في التعبير المباشر ونقْل الواقع الاجتماعي كما هو، بل اعتمد ما يعرف بالترميز، والتحايل على الظروف الاجتماعية والسياسية والجهات القمعية الحاكمة التي لا تسمح للمبدع بالتعبير عن رأيه صراحةً. وتماشياً مع متطلّبات خطاب الحداثة، إن هذه الرواية لا تكتفي بالتجربة السردية، بل تذهب بعيداً إلى معانٍ إنسانية واجتماعية وسياسية وأيديولوجية عديدة، تظهر معالمها ومعانيها وأثرها إذ يحاول الكاتب معالجة المشكلات التي تشْغل بال الإنسان في عصرنا الحالي.

وتتطابق الشخصيات الحيوانية في هذه الرواية إلى حدّ بعيد مع شخصيات المجتمع البشري. الضّبع يسيطر على الإذاعة والتلفزيون ويعلن البيان رقم 1 مثلاً، ومن أجل مصلحة خاصة، وهي الزواج بحمارة عاهرة، صار الحمار رئيساً للغابة... وقس على ذلك.

وفي قضية اغتيال الحاكم والبحث عن إيجاد بديل، تقع المسؤولية على المجتمع الذي يتنحّى أفراده الذين هم أهلٌ لاستلام المناصب، فاسحين المجال أمام الحمير كي تتسلّم زمام الحكم.

ربّما يكون الأدب بعامّة قد ظلم الحمار، لكنْ بحسب الروايات الشعبية الشفهية فإن "الحمار هو مهندس الطريق"، بحسبان دوره الكبير في إيجاد مجموعة من الطرق في المناطق الجبلية، حيث يطلق ليقتفي أسهل الطرق وأكثرها اقتصاداً للجهد وأكثرها أمناً.

أخيراً، وأنت تنهي قراءة هذه الرواية، تقول: ليت الجماهير البشرية تقرأ مثل هذا الأدب كي تعي ما يدور في رؤوس الحكّام، فتتفتح بصائرها على ما يدور حولها. أو ليت الحكّام يقرأون.. لكنهم إذا قرأوا فهل تستطيع عيونهم أن تفكّ شفرة الأحرف لتوصل المعاني إلى القلوب؟