"صاج" لأدهم الدمشقي: سرديات تمسك بخيط الحياة والموت

في هذا المسرح، لا يتم التعامل مع الحضور كمتفرج. ففي اللحظة التي يدخل فيها أحدهم هذا الحيز المكاني، لن يجد طريق العودة، وكيف يخرج من مكان ما من صار بينه وبين أهله خبز وملح: حميمية تُغذّى من خلال إشعال الحواس.

"أترك أحكامك وادخل". تستقبلك هذه العبارة على عتبة المنزل- المسرح كأول رسالة يحملها المكان. أنت الآن داخل الفن حيث لا قيود ولا أحكام، فقط فكر حرّ وطائر خيال يحلّق. تكتشف فور دخولك أن الامر مختلف. فالمكان يحتوي على عناصر المسرح التقنية: الديكور، الاضاءة، المؤثرات الصوتية. لكنها في ذات الوقت تتوارى في الظل تاركة للمساحة الحقيقية في منزل أدهم الدمشقي في الاشرفية في بيروت كل الواجهة.

من هذا المكان الثابت تُروى السرديات عبر حوار عفوي بين أدهم ووالدته شكرية عزّام في جلسة أنس حول كوب من شراب المتة. الخط الزمني للعرض مكتنز بفترة الطفولة والمراهقة، يغذيه عنصران وجوديان: الموت والحياة. 

يبدأ خط الموت بالظهور منذ اللحظة الأولى ويرافق كل السرديات: موت الأب، محاولة انتحار الأم، موت العجوز في دار العجزة، وينتهي عند موت المغتصِب في نهاية الحبكة. وفي كل لحظة موت يضعنا أدهم أمام تساؤلات وجودية لا مفر منها. 

في مقابل خط الموت، يظهر خط الحياة جلياً، مرمّزاً بالقمح في مسار عبقري متداخل مع السرديات بخفة: عمل الوالدة في الحصاد، الحوارات أثناء إعداد العجين، تحضير الصاج، وينتهي عند الخبز "المنقوشة". 

تربطنا هذه النهايات المتقابلة والحتمية بما قاله أدهم في بداية العرض: في كل لحظة يموت فيها إنسان، يولد إنسان آخر. انها جدلية الحزن والفرح التي تحيط بيومياتنا في بلد كثرت فيه التناقضات.

يغذي الكاتب سردياته بقوة الكلمة تارة عبر التجويف من خلال الارتكاز على مذكراته وشعره، أو عبر وصف دقيق لا يخلو من بلاغة شعرية تارة أخرى. ثم يختتم عرضه بدعوة إلى مائدة العشاء يتشارك فيها ووالدته خبز الحياة مع الحضور.

في هذا المسرح، لا يتم التعامل مع الحضور كمتفرج. ففي اللحظة التي يدخل فيها أحدهم هذا الحيز المكاني، لن يجد طريق العودة، وكيف يخرج من مكان ما من صار بينه وبين أهله خبز وملح: حميمية تُغذّى من خلال إشعال الحواس.

فالعرض رغم السكون العميق، كثير الصخب: صوت القمح، التنهدات، الهمس، صوت الطحين، نار الصاج، العجن باليدين... وبعض من الموسيقى خدمة للنص. تغازل كلها رائحة الخير المنبعثة من حبوب القمح بصورها المختلفة. 

قد يسمى هذا العرض عرضاً واقعياً، أو "تنفيسياً" عبر التطهر أو التشافي. لكن هذه التسميات تضع العرض في إطار محدد لا يريده له كاتبه ومخرجه، ذلك لأنه أقرب ما يكون إلى عرض "حياتي" أو "وجودي" يفتح أبوابه على ثنائيات مصيرية: الخير والشر، الحب والكره، اليتم والأبوة، الموت والحياة، الجهل والمعرفة، الماضي والحاضر، والأمومة والبنوة. 

تتركك هذه الثنائيات في حالة ذهول وتفَكّر وشكّ، لكنها تهبك يقيناً: أكثر القصص تأثيراً وحفراً في الوجدان، ما بني على عمق التجربة البشرية وواقعها.