"طعم الجدران مالح": البيت السوري مؤنسناً
البيت في العرض يبدو شخصية ثالثة، ليس مكاناً ولا عنصراً محايداً، وهو صاحب الحكاية، مثلما للشخصيات حكاياتها. ليس عقداً أو صكّ ملكية، والشخصيات غير متمسكة بماديته، بل بما قدّمه ويقدّمه.
-
أنطونيو طعمة ونور أبو صالح في مسرحية "طعم الجدران مالح"
استقبل مسرح سعد الله ونوس في المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق من 14 حتى 16 آب/أغسطس الجاري، عرض "طعم الجدران مالح"، من تأليف رزان السيد، ودراماتورجيا فواز حسون، وإخراج كلٍّ منهما، وأداء الممثلَين نور أبو صالح وأنطونيو طعمة.
يقول الشاعر ريلكه عن البيت : "البيت يا ضوء المساء... أنت قريبٌ منا للغاية، تعانقنا ونعانقك".
يمكن أن يوجز معظم السوريين والفلسطينيين السوريين حقيقة ما عاشوه من الحرب الطاحنة طيلة 14 سنة بهذا التقرير القصير: "لقد ضاع البيت". ولكنّ البيوت الضائعة تلك تظهر في ما بعد كفلسفة، مثلما تظهر كثقلٍ وألمٍ وجودي، ومثلما تتمظهر في الذاكرة، أو تُخلق في المخيال.
لا يقوم البيت على الحجارة فحسب، بل على الذاكرة، على الدمع، على القلق والحسرة والخوف. والبيت، بكل ثقله ووزنه وحجمه ينتقل، بأعمدته وحديده وخشبه وإسمنته والأطنان التي فيه، يربض على الصدر. ويسير السوري وبيته رابض على صدره، أو جاثم على كتفيه. يزوره في الكوابيس، ويهوي، مثل مبضع الجراح، على رأس أصحابه، كذكرى وذاكرة.
محكوم علينا بخسارة بيوتنا
كل ما سبق يتشابك في النص الذي كتبته رزان السيد وأخرجته بالشراكة مع فواز حسون، حيث يندمج الشخصي بالعام. الخسارة الشخصية، أو التروما، أو الكابوس، هي أجزاء من الجمعي السوري.
وتستند السيد في حكاية النص كما تقول لــ "الميادين الثقافية" لا إلى حكايتها الشخصية وحدها، بل إلى قصص من الشارع السوري، وقصص أصدقائها وأقاربها، قصص لأناس حاولوا أن يرجعوا إلى بيوتهم فلم يجدوها، ولم تجدهم. أو لقوها مشوّهة مدمرة، يعصف بها الخراب.
هذه العلاقة مع البيت، بوصفها بحثاً غير ناجز بعد في السياق السوري، وضعت على خشبة المسرح لا كدراسة حالة، بل كمحاولة للاكتشاف، اكتشاف الشخصي والجمعي، محاولة لرتق الصدع، أو وضع الإصبع على الجرح، لتفكيك العطب وتشريحه.
العلاج هنا هو الروي نفسه، روي الحكاية، سردها، هو نفسه محاولة الانفكاك منها أو مواجهتها في حيز المكان نفسه. رؤية البيت مشوّهاً ومدمّراً وخراباً، كما تقول السيد، تشكل عطباً.
يدور نص الحكاية سنة 2021 في منطقة غير مُعلنة لكنها تُعد معادلاً لكل المناطق السورية التي حوصرت ودُمِّرت بيوتها وسُرقت، وكذا للمناطق التي أجبر الحصار أهاليها على أكل نبتة رجل العصفور.
يقدّم النص، والعرض كذلك، مقاربة ما بين الخراب الخارجي والداخلي. مقاربة بين خراب وثقل البيت والمكان وبين الخراب الداخلي للناجين من الحرب. ولكن، هل نحن ناجون فعلاً أم أن هناك عطباً عصيّاً على الإصلاح؟ تسأل السيد، فالبيت حتى لو كان خراباً، يمكن ترميمه، أما الإنسان فماذا عنه؟ ذلك أننا كلنا حُكم علينا بخسارة بيوتنا.
ما بين الكتابة والإخراج المسرحي تقدم رزان السيد تجربتها الأولى، إلا أنّ الحكاية كانت قد قٌدِّمت في قالب عرض "قراءات مسرحية" سنة 2024، وتدخلت الرقابة في حينه لمنع مفردات مثل: تعفيش، حصار، لكنّ الصنّاع تركوا المفردات كما هي.
تتحدث السيد عن التجربة بأنها لم تكن سهلة، فبصفتها كاتبة النص كان لا بد من انحيازها إلى تكنيك الكتابة ولغة الشخصيات كما وضعتها، ولكنها انتقلت مع التجربة نفسها من طور الكتابة بوصفها تجربة حميمية وشخصية إلى طور الإخراج كعمل جماعي وتشاركي.
سؤال الآنية
يجيب فواز حسون عن سؤال آنية العرض، أي مدى ارتباطه بالآن وهنا، بأنّ محاولة سرد أو روي حكاياتنا، تتعرض من جملة ما تتعرض إليه، إلى تلك العصي الموضوعة في الدواليب التي تقف في وجه أي محاولة سرد حكاية حقيقية، كما أنّ الأحداث المتسارعة أعادت ربط النص بالآن وهنا، من دون أن تنزع عنه جانبه التوثيقي لمرحلة أسبق، وهو ما تتفق السيد معه أيضاً بأنّه يمكن اعتبار النص توثيقاً لمرحلة من السياق السوري، ومع ذلك فإنها لا تنقطع عن الحاضر السوري، أو إنسان ما بعد الحرب، لأنّ السرد نفسه، الروي، ما يزال راهناً.
يترك حسون الجواب مفتوحاً على التأويل عن سؤال: كيف يُعالج إنسان ما بعد الحرب من مأساته، هل يكون ذلك عن طريق روايتها؟
يعيد العرض النظر في فكرة إيمانويل كانط عن المكان وتعريفه إياه بأنه شكل تجربتنا الخارجية، فيما يكون الزمان شكل تجربتنا الداخلية، ويتخذ من المكان بطلاً له. وحين يستعيد البيت فإنه لا يستعيده كذاكرة، بل كخيال أيضاً، ويترك له استقلاليته. البيت في العرض مكان مستقل يحمل ذاكرته وثقله ومأساته بنفسه، كما يقول حسون.
أنسنة البيت
شخصيتان، هما "ر" و "س"، رجل (أنطونيو طعمة) وامرأة (نور أبو صالح)، في البيت المُدمّر. المرأة هي صاحبة البيت التي تأتي لتفقده بعد سنوات من تهجيرها منه، أما الرجل فيلتجئ إليه كمأوى وملاذ للنوم.
تتقاطع في العرض حالتا الذاكرة أو التذكّر، مع لعبة الخيال. البيت يشارك في اللعبة، ويكون بطلها، يشارك فيها ككيان قائم بذاته، يحمل ذاكرته بنفسه. يتمكن من إخراج أشياء جميلة، في لعبة الخيال، لكنها مشوّهة وغير مكتملة. لذا، عندما لا تكتمل القدرة على إشباع الذاكرة، جمالياً، يتحول الخيال نفسه إلى كابوس. كل هذا يدور في فلك محاولة الشخصيات أن تهرب من ذاكرتها المعطوبة، لكنّ الخيال نفسه معطوب أيضاً.
البيت في العرض يبدو شخصية ثالثة، ليس مكاناً ولا عنصراً محايداً، وهو صاحب الحكاية، مثلما للشخصيات حكاياتها. ليس عقداً أو صكّ ملكية، والشخصيات غير متمسكة بماديته، بل بما قدّمه ويقدّمه، كما يقول حسون.
هذه المحاولة لفهم البيت ككيان قائم بذاته، وصبغه بصفات إنسانية، كان هو الهم بالنسبة إلى صنّاع العمل. ومنه وبسببه نحت التجربة نحو الواقعية السحرية لا الواقعية المفرطة، وطغت على الحكاية لغةٌ شعرية وترميز عالٍ.
السينوغرافيا، التي لها دور البطولة أيضاً، وصممها غيث المرزوقي، كانت رمزية. فالبيت لا يحضر بأبعاده الواقعية تماماً، بل كقطعة من الذاكرة، هشة، مقصوصة بزوايا حادة، وهائمة في فراغٍ أسود. وطعمه، حتماً، من طعم الدموع.
يذكر أن العرض المسرحي "طعم الجدران مالح" من تأليف: رزان السيد. دراماتورجيا: فواز حسون. سينوغرافيا: غيث مرزوقي. تصميم إضاءة: رباب الدمني. تصميم بوستر وبروشور: سليم جويد – مختبر تصميم سليم. إدارة إنتاج: نورس حنبلي. سينوغراف مساعد: محمد الزهيري. فريق السينوغرافيا: أحمد عروب، فراس الحرك. محرّكو الديكور: فراس الحرك، زينب صالح، نور البلخي. مساعد إضاءة: أسامة صباغ.