"لن نقدّم القهوة لاسبينوزا" لآليتشه كابالي: ثمن الحرية

الفلسفة التي يقوم عليها النص هذه الرواية تدفعنا للتمعّن في الحدود التي يضعها العالمُ للكائن الإنساني؛ وهي حدودٌ ناقصةٌ ولا تنهدم سوى بدخول الآخر.

  • "لن نقدّم القهوة لاسبينوزا" لآليتشه كابالي

في روايتها "لن نقدّم القهوة لاسبينوزا" (دار الكرمة) تقدّم الكاتبة والعازفة الإيطالية آليتشه كابالي حكاية الإنسان مع الحياة بوصفها رحلة تعلّمٍ واكتشاف قبل أن تكون حدثاً واقعاً بمعزل عن إرادته. ولا شكّ أنّ الفلسفة التي يقوم عليها النص (بترجمة أماني فوزي حبشي) تدفعنا للتمعّن في الحدود التي يضعها العالمُ للكائن الإنساني؛ وهي حدودٌ ناقصةٌ ولا تنهدم سوى بدخول الآخر، ومثلما هي حدودٌ غير مكتملة، فالمرء يرتقب ذاته المقبلة من خلالها، أي من خلال الذات التي تحتاج الآخر. إلّا أنّ جمود الفكرة وتجريدها لا يمنع عن القارئ تلك الشعرية التي تقدّمها كابالي في حكايتها عن البروفيسور (لوتشيو) بوصفه ضريراً وأستاذاً في الفلسفة، وهو ما يمنحنا ذلك البعد الرهيف والهادئ لامرئ ينشد الكمال، ويدرك ضرورة الوجود مع الآخر نظراً لمحدودية معرفتنا عن ذواتنا من غير أن ينكر حاجتنا لها. هو ما يحدث بالفعل بين (ماريا فيتوريا) بوصفها امرأة تبحث عن عمل والبروفيسور الذي يحتاج العناية والرعاية، لنكتشف من خلالهما عالماً هادئاً لكنه عالمٌ عميق ومنعزل وبعيد عن نمط الحياة اليومية الاعتيادي.

 نحن إذاً بصدد حكاية عن العزلة، وهما، كلّ من ماريا والبروفيسور، الغارقان في عزلتهما التي نكتشف أنها بقيت غير مثمرة حتى حدث اللقاء. فالعزلة التي يعيشها البروفيسور تغلّفُ عالمه الصارم، وهو في الوقت نفسه عالمٌ يتحكّم فيه الآخرون. وبينما يصارع في إضفاء أحكامه العقليّة على كلّ ما يجري حوله، نجده يتألّم من جرّاء مناكفتهم عوالمه. ومن فقده زوجته، واهتمام ابنته المشروط به، إضافة إلى تسلل الأقارب نلتمس تلك الندوب في داخله، ووحدة فيلسوف على الرغم من طواف الآخرين حوله، يحيا داخل أفكاره وتأمّلاته. تلك التأمّلات التي تلتقطها ماريا فيتوريا وتكتشف أنّ مهمتها لاحقاً سوف تتعدّى العناية به إلى قراءة الكتب له. وهو ما لم تقم به طيلة حياتها، وهو أيضاً الحدث الذي ينقلها من وعي إلى آخر، ومن مرحلة عقلية إلى مرحلة تقلب مصيرها من غير أن يترك ذلك التحوّل صداه، إنما بطريقة هادئة وبسيطة لا تُحدثُ ضجيجاً يذكر.

ومن العنوان المحمّل بابتسامة ماريا الهزلية، يخرج علينا اسم الفيلسوف الهولندي باروخ اسبينوزا (1632-1677) كما لو أنها تُسقط سيرته على حياة البروفيسور؛ وكأنه رمز للعزلة الفكرية وعلامة من علامات الفكر النقدي الذي يمثّل غيابُه مأساة المفكّر في إضفاء أحكامه على الوجود. ولأنّ ماريا فيتوريا امرأة بسيطة وعادية ولم تقرأ الفلسفة من قبل، ولكونها تعاني حياة عنوانها الاغتراب وجحود الزوج، فنحن إذاً على عتبة تضعنا أمام شخصية يجعلها عيشُها اليومي مع البروفيسور تتحوّل بشكل تدريجي وهادئ؛ من امرأة خائفة تقبل بما يُملى عليها من أوامر، إلى أخرى تطرح الأسئلة باستمرار وتتمرّد على واقعها الرديء. 

هكذا يدفعها الأستاذ لتقرأ له كتب باسكال واسبينوزا وأبيقور، وتستمرّ معه من غير أن تدرك أثرها الكبير عليه، ومن غير أن نغفِل ذلك التأثير العميق الذي ينشر الدفء في حياة ضريرٍ يشعر بالبرد على الدوام. هي حياة تتغيّر من جرّاء انكسار العزلة، وكأنّ الكاتبة تريد أن تخبرنا عن الضرورة القصوى لوجودنا مع الآخر. فالكتب التي عاش بينها الأستاذ وفّرت ملاذاً لأفكاره وتأمّلاته؛ ودفعته للابتعاد عن الآخرين والمكوث في وحدة مريرة. هو عالم بارد وتتوهُ فيه الذات عن ذاتها وكأنها لا تتبلور سوى بآخر يكملها؛ بوجودٍ صقلهُ حضور ماريا بعد أن صارت شرطاً أساسياً لبلورة شخصية الضرير صاحب البصيرة المدهشة، لكنه يفتقد الحميمية التي يخلفها العيش مع الآخرين. هو ذلك الأثر الذي نلتمّسه عندما لا نجد من ينقلنا من ضفة الذات إلى ضفة أخرى. هكذا تتحوّل الرواية من حكاية عن التحوّل الصامت إلى قصة عن قوة الفكر وآثاره. إذ تصل ماريا بعد مضي عام إلى وضوح ذاتي عميق، ليس فقط في القراءة، وليس لجهة كونها خادمة، إنما بصورة امرأة أعادت اكتشاف ذاتها واختبرت نوعاً مغايراً من العلاقات، وهي علاقةٌ جمعت بين الفكر والمشاعر الإنسانية العميقة. 

هكذا تهزّ الكاتبة عرش الثبات التأمّلي للبروفيسور، ذلك أنه لم يكن بمعزلٍ عن تأثير حضور ماريا فيه، وهو أثرٌ دفع عزلته للتراجع نحو منطقة جديدة ومنحه نوعاً من التفهّم لعلاقاته مع الابنة والأحفاد. مدفوعاً بانغماسه نحو الآخرين ليس لغاية معرفتهم، بل لمعرفة نفسه عن كثب، واكتشاف الإنسان الكامن فيه اكتشافاً يدفع عالمه للتضاؤل شيئاً فشيئاً. وذلك حدثٌ يكشف لماريا جانباً آخر من شخصيته؛ وهو  يقينه بأيامه الآخذة بالتناقص، وكتبه التي تختفي من جرّاء منحها للآخرين مثلما يقدّم خبزه اليومي للطيور. الأمر الذي يضفي الرهبة على رحيله الوشيك بوصفه إنساناً يشعر بقرب نهايته، وغائباً في ذوات الآخرين من جرّاء الحبّ الذي زرعهُ من غير أن يدرك عمق محبّتهم له. هكذا يحضر طلبته وأصدقاؤه كدليلٍ على أثره في حيواتهم، وليكون وداعهُ بمثابة احتفال لارتقاء إنسان تمكّن من رؤية ما لا يُرى. 

هكذا يتلاشى تعب ماريا من ذلك العبء الذي شعرت به عند قراءة أول كتاب، إلى خفّة الحرية التي دفعتها في نهاية المطاف لتضع حداً لكلّ ما سلبها ذاتها ووجودها. هكذا تقطع علاقتها بماضيها ويضعها وعيها الجديد أمام أنجيلو (أحد طلبة البروفيسور) ليكون الحبّ الثمرة التي تنضج في نهاية القصة مثلما ينضج سؤالها بكوننا لا يمكن أن نعي ذواتنا بمعزل عن الآخر. ومثلما كان لحضور البروفيسور أثر نافذ في مَنْ حوله، يصبح لتخلّصها من ماضيها الأثر في صياغة وجودها. وكأنّها به جسّدت عنصراً لا غنى عنه في حفظ توازن النهاية، إذ يحين رحيل البروفيسور بعد أن يتخلّص من انفصاله المرّ عن الأشياء، ويخرج من انغماسه في أماكن ذهنه وذكرياته نحو الحرية: الحرية التي تدفعه ليمنح كلّ ما لديه للآخرين، والحرية التي تتحقّق لماريا من خلال رفضها الإذلال الذي عاشته، وهي في الوقت ذاته، الحرية التي تترك النصّ غير محسوم الخاتمة، إذ ينتهي مغلّفاً بما حدث بين ماريا والبروفيسور كما لو أنه حدث كبير وصل إلينا بهمسٍ ومن غير أن يحتاج إلى أدنى إثبات لحقيقة أنّ جمالَ العالم يمثّل غاية كلّ عملٍ فني عظيم. "إنّ أبشع أنواع الشرور، الموت، لا يعنينا في شيء، فحيث نوجد لا وجود للموت وحيث يوجد الموت، إذاً، لا وجود لنا. وهكذا لا يهمّنا في شيء، سواء أكنّا أحياء أم أمواتاً، لأنه لا يوجد في تلك الحالات، وفي الحالات الأخرى لا أوجدُ أنا".

اخترنا لك