"يافا أمّ الغريب": قوة تعلق الفلسطيني بأرضه رغم المنفى

تسرد أسماء ابو عياش في كتابها حرقة أهالي يافا عندما رجع بعضهم خفية إليها ليكتشفوا قوة تعلقهم بأرضهم رغم طردهم منها قبل 76 عاماً.

  •  كتاب
    كتاب "يافا أمّ الغريب" لأسماء ناصر أبو عياش

أن تقرأ عن النكبة وأنت تعيشها يجعل للقراءة أبعاداً أخرى، حيث تمزج ما بين التاريخ والحاضر ليبدو كأنه فيلم تسجيلي بدأ في نهاية أربعينيات القرن والماضي واستمرّ حتى اليوم. نكتب عن يافا قبل النكبة، ونحسّ كأننا نكتب عن غزة اليوم وعن بقية مدن فلسطين التي لا تزال منكوبة بالاحتلال والموت الكامن في كلّ مكان.

عندما نكتب عن يافا نكتب عن مدينة تغنّى بها الشعراء؛ فالجواهري كتب عنها قصيدة "يافا الجميلة"، وحسن البحيري كتب عنها قصيدة "زهرة البرتقال"، وكتب عن يافا الشاعر محمود درويش وراشد حسين ومحمود الحوت وغيرهم. غنّى ليافا فيروز وجوزيف عازار وغيرهم. عندما بحثت عن يافا لأكتب عنها وجدت مئات الكتب والمقالات والدراسات، نظراً لأهمية المدينة التي بلغت شهرتها الآفاق.

من جملة من كتب عن يافا كتاب "يافا أمّ الغريب" الصادر عن "دار البيرق" في مدينة رام الله، وجاء في 95 صفحة من الحجم المتوسط. الكتاب ليس كتاب تاريخ أو جغرافيا أو وثائق، هو كتاب يمزج الماضي الجميل ليافا، بالحاضر الصعب، مع المشاعر الجيّاشة والوجدانية لأناس هُجّروا من يافا، وقرّر بعضهم العودة لزيارة مدينتهم السليبة. 

هذه التجربة القاسية جداً لا تتاح لأيّ شخص، فلا بدّ أن تكون فلسطينياً حتى تذوق طعم هذه المرارة وهذا الحنين، الحنين الذي ذكره ابن الرومي نظرياً جرّبه مئات آلاف الفلسطينيين عملياً؛ كان منهم أسماء ناصر أبو عياش، وشهلا الكيالي، وتمام الأكحل، وأمثال القمبرجي، وألفرد طوباسي، وأنور السقا، وسامي أبو عجوة. تناول الكتاب روايتهم لما شعروا به وما رأوه حين شاهدوا مدينتهم التي أصبحت غريبة بمحتلّيها وما أجروه فيها من تغيير وتشويه، وهي القريبة من الروح والقلب وسرى حبّها في دمائهم مدى حياتهم.  

أسماء ناصر أبو عياش التي ولدت بين النكبة والنكسة تزور يافا في نهاية تسعينيات القرن العشرين، تتحدّث عبر الهاتف مع والدها الذي بلغ من العمر 75 عاماً والمقيم في مخيم الزرقاء بالأردن، يسألها عن حي المنشية مسقط رأسه فتخبره أنه لا يوجد شيء اسمه المنشية فيبكي، لا يزال الوالد يذكر مكان حيّ المنشية ويذكر مدرسة الطليان وجامع حسن بيك. تستمر أسماء في البحث عن حي المنشية، وتذهب إلى إمام مسجد حسن بيك الشيخ نبيل سيف وتسأله عن الحي، فيقول إنه أزيل تماماً، فقسم من سكانه ذهبوا إلى حي "العجمي" وقسم آخر أقام في مساكن أنشأها الاحتلال. 

تذكر أسماء أبو عياش بيروت كمكان خرجوا إليه من الأردن ثم دمشق ثم تونس ثم عمّان مرة أخرى. تعود إلى فلسطين عام 1999، ويزور والدها فلسطين عام 2002 أو 2003، (لا تذكر هذه الأعوام تحديداً ولكنها تقول إنها عادت إلى فلسطين بعد 17 عاماً من الخروج من بيروت، ووالدها عاد بعد ذلك بأربعة أعوام، أو بعد 54 عاماً من النكبة (أي 2002). والد أسماء يسير في شوارع يافا وإلى جوار بحرها، يصحّح معلومات من لم يغادرها من أهلها، وقف هلعاً باكياً، يلتقي بصديقه عبد الفتاح المشهراوي الذي ما زال مقيماً في يافا وكان لقاءً مؤثّراً تتخلله الدموع والضحكات، يتوفّى الأب بعد زيارة يافا بثلاثة شهور. 

تحكي أسماء قصة مدرّستها الشاعرة شهلا الكيالي التي تزور يافا بعد غياب أكثر من ربع قرن على التهجير، تحدّثت عن جامع "حسن بيك"، وذكرياتها عن الشاطئ حيث ابن عمها الشهيد الدكتور عبد الوهاب الكيالي، وأختها التي تكبرها بسنوات، وكيف وجدت قطعة نقد فلسطينية من فئة عشرين مليماً وفرحت وركضت وصاحت فرحاً بذلك مما أثار عجب الحاضرين، وعلّقتها لاحقاً في سلسلتها الذهبية التي قالت عنها إنها الأجمل بينها.

الفنانة تمام الأكحل تذكر يافا وبحرها، وتهجيرهم منها تحت القصف على أثر اقتحام قوات الاحتلال للبيت وإخراجهم منه عنوة عند الفجر يوم 28/4/1948، وكيف رفضت كلابهم ترك البيت وظلت تحوم حوله، ومشهد محاولة أم التقاط طفلها من أبيه في مركب في البحر فيقع الطفل في البحر لتنهار الأم، يصلون بيروت بعد 24 ساعة. كان عمر تمام 12 عاماً عند النكبة، بشار ابن تمام يعود إلى بيت جده لوالدته فيبكي. 

تزور تمام فلسطين بعد ذلك حيث تزور مدينة اللد مسقط رأس زوجها الفنان إسماعيل شموط (عام 1997 حيث تقول إن ذلك بعد 49 سنة من النكبة، صفحة 46)، وكان عمر إسماعيل 17 عاماً عند النكبة، وعندما زار اللد أصابه ما يشبه لوثة ونكوصاً وبدأ يسير في الشوارع مسرعاً صائحاً ويتكلّم مع نفسه. تعرف تمام أن لها عمة في يافا وتلتقيها لقاء مؤثّراً، تسير على هدى قلبها لتقف أمام بيت والدها المنقوش اسمه على حجر التاريخ، تطرق أسماء الباب فتطلّ منه سيدة روسية احتلت البيت وترفض بشدة أن يدخلوه وتهدّد باستدعاء الشرطة.

مثال القمبرجي زارت فلسطين عام 1986 مع زوجها حسن، وكانت معها خارطة بيت والدها حيث وصف لها والدها الموقع مستشهداً بالساعة والمستشفى "الفرنساوي" لتصل إلى البيت، منعها المحتلون من الدخول، خالتها زهية القمبرجي أغمي عليها عندما منعها المحتلون من دخول بيتها. 

 ألفرد طوباسي اليافي عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية يتكلّم عن والده الذي لجأ إلى رام الله، توجّهت العائلة نحو يافا بعد وقوع كامل فلسطين تحت الاحتلال عام 1967، ولكن في الطريق انفعل الوالد وطلب العودة إلى رام الله، ربما لأنه أراد أن تكون "يافاه" كما هي في ذاته من دون تغيير، عاد إلى رام الله ومات ولم يرَ يافا مرة أخرى. 

ذهب ألفرد وأمه وأخوه إلى يافا لاحقاً، ذهبوا إلى البيت وبكى الجميع، دقّوا الباب فخرجت سيدة رومانية سمحت لهم بالدخول، ذهب إلى غرفته وسريره وركض في كلّ أرجاء البيت على غير هدى، كان للبيت جزء ثانٍ وإذا بعائلة بلغارية تحتله، طلبوا من سكان البيت الدخول فرفضوا، دار ألفرد ومن معه حول البيت وبكوا. يذهب ألفرد إلى يافا، يزور بيته، يتوجّه إلى مدرسته كلية يافا الأرثوذكسية في شارع العجمي، التي تقع ما بين مدرسة الفرير والمستشفى "الفرنساوي" وكنيسة الخضر وصولاً إلى البلدة القديمة.

أنور السقا هُجّر من يافا وعمره ستة عشر عاماً إلى غزة فالأردن، يتكلّم عن تل الريش، أبو كبير، سلمة، الجبلية، والمنشية التي تداخلت فيها البيوت التي يقيم فيها عرب أو يهود، بيته في موقع يطلّ على الميناء فوق دير الروم ودار رعاية الأطفال (الصحية) فوق الونش رقم2. بيت أنور تمّ تشويهه وحوّلوا جزءاً منه إلى مطعم أسموه تاج محل.

زار أنور يافا بعد 28 عاماً على التهجير عام 1976، ويصعب عليه ذكر مشاعره حين التحم بمدينته، سار في شوارعها يعرفها كما يعرف اسمه، ذاكراً معالمها مثل سبيل أبو نبوت، شركة السكب، مطحنة الجلاد، شارع جمال باشا في حي النزهة، مبنى البلدية وقهوة الحلواني وسينما الفاروق والحمرا، وكنيسة القلعة، وبرغم ما نال المدينة من تغيير وتزوير، يقوم أنور بقرع جرس بيته فتخرج محتلة بيته التي كانت فنانة تشكيلية من يهود ألمانيا، والتي لم تسمح له بالدخول.

سامي أبو عجوة الذي هُجّر من يافا صغير السن، إلا أنه يذكر تفاصيل المكان والأحداث، فهو كان يقيم في شقة في عمارة في حي النزهة قرب جامع النزهة وقرب مدرسة الزهراء كبرى مدارس البنات في يافا حينها. ذهب إلى بيته وطرق الباب فخرجت امرأة ذات ملامح شرقية، طلب منها الدخول ورؤية البيت الذي ولد وعاش فيه، ولكنها رفضت ذلك بإشارة من يدها وأغلقت الباب.

من المفارقات التي ترد في الكتاب أن يتوفّى والد أسماء أبو عياش بعد زيارة يافا بثلاثة شهور، ووالد ألفرد طوباسي توفي ولم يرَ يافا ثانية، فالموت عشقاً للوطن وليافا يتمّ سواء بالوصل أو بالهجران أو بالتهجير.

خلال صفحات الكتاب ورد ذكر عدة مدن كعمّان ورام الله وغزة واللد والقاهرة ودمشق وتونس وصيدا، لكن لم يرد ذكر بيروت كثيراً، حيث تذكرها أسماء أبو عياش كمكان خرجوا إليه من الأردن، وعارف الأكحل والد الفنانة تمام، خرج من يافا مع عائلته إلى بيروت، ومحمد نمر ناصر أصيب بشظية وخرج للعلاج في بيروت، مثال القمبرجي هاجر أهلها من يافا إلى القاهرة ومنها إلى بيروت، تتكلّم أسماء عن اجتياح بيروت عام 1982. 

بقي أن نقول إن فيلماً حمل الاسم نفسه للمخرج الفلسطيني رائد دزدار، عُرض في مهرجان الإسكندريّة بدورته الخامسة والثلاثين في تشرين الأول/أكتوبر عام 2019. في الفيلم أيضاً يتمّ تأكيد العلاقة بين يافا وبيروت، حيث يقول زكي النورسي إن شارع إسكندر عوض في يافا يشبه شارع الحمراء في بيروت، في حين ربط فؤاد شحادة بين يافا وبيروت التي قدِمت أسرة والدته (صروف) منها. ذكر في الفيلم أن أجرة المواصلات من يافا إلى بيروت ذهاباً وإياباً كانت عبارة عن 70 قرشاً. كما يقول خالد البيطار وإلياس سحاب إن سينما الحمراء في يافا بناها المهندس اللبناني نفسه الذي بنى سينما روكسي في بيروت.

تقول أسماء إن وصف يافا بأمّ الغريب، كان لأنها تنتصر للغريب إذا أصابه ضيم، فكلّ من يحلّ عليها يصبح قطعة منها. وختاماً نذكر أن يافا احتلت من قبل عصابات صهيونية يوم 26 نيسان/أبريل عام 1948 عندما كانت فلسطين ترزح تحت الاحتلال البريطاني، الذي سمح لعصابات ليس لها أي صفة سياسية قانونية أن تحتل مدينة كبيرة وعريقة، وترتكب بحقّ أهلها جرائم القتل والتهجير والاستيلاء على أملاكهم وبيوتهم ومدينتهم التي يحلمون بالرجوع إليها ذات يوم.