120 عاماً على رحيله: إميل زولا "عاش بصخب" حتى الموت

ينتمي إلى فئة أكثر الأدباء إثارة للجدل وقتله جاره بسبب مواقفه.. من هو إميل زولا؟

  •  إميل زولا (رسم: ماريا نصر الله)
    إميل زولا (رسم: ماريا نصر الله)

ينتمي إميل زولا (1840-1902) إلى فئة أكثر الأدباء اثارة للجدل. البعض يُحبّه ويدافع عنه، فيما يبغضه آخرون بشدّة.

بعد 120 عاماً على رحيله، ما زالت روايات زولا تُلاقي شهرة واسعة وتُعد اليوم من كلاسيكيات الأدب العالمي، وعدد منها يُدَرَّس في الجامعات والمدارس. دخل زولا التاريخ من بابه الواسع بفضل أدبه ومواقفه السّياسية، خصوصاً في قضية دريفوس الشهيرة في فرنسا التي أثبتت قدرة المثقفين الفائقة على التأثير في الرأي العام وتوجيهه.

تميّز أدب إميل زولا الروائي باعتماد التوثيق العلمي والملاحظة الدقيقة، إذ سعى مؤلف «جرمينال» دائماً لنقل صورة حقيقية عن بشاعة العالم وتصوير الواقع كما هو من دون لمسات تجميلية. 

المعالم الأولى للطبيعانية 

ولد إميل زولا عام 1840 في «إيكس دو بروفانس»، تُوفي والده وهو في السابعة من عمره، وعانت أسرته مصاعب مادية جمٓة بعد أن فقدت معيلها. تميّزت طفولة زولا بصدقته مع الرسام الشهير وأحد أهم رُوّاد الانطباعية بول سيزان، الذي تعرَّف إليه في المدرسة الابتدائية. استمرت هذه الصداقة سنواتٍ طويلة، إذ جمعهما حبّ الفن والأدب، ثم حلّت القطيعة بينهما بعدما شعر سيزان بأنّ زولا أساء إليه في روايته الشهيرة «التحفة الأدبية» (L’œuvre)، وأنّه قدّمه إلى الجمهور كفنان فاشل من خلال الشخصية الرئيسة في العمل «كلود لانتييه».

انتقل زولا إلى باريس عام 1858 وكتب في ريعان شبابه بضع قصص ونشر عدداً من المقالات الأدبية والسياسية في الصحافة الفرنسية. في عام 1867، كتب روايته الأولى «تيريز راكين» التي لم تُحقق حينذاك نجاحاً ملموساً، ولكنها بقيت محفورة في أذهان النقاد لكونها أسست المعالم الأولى للمذهب الطبيعي في الأدب أو ما يُسمّى الطبيعانية.

سعى زولا إلى تأكيد أهمية الجانب الفيزيولوجي والعوامل الوراثية والبيئة الاجتماعية في تكوين البعد الأخلاقي لدى شخصياته الروائية. 

بدأ زولا عام 1870 مشروعاً أدبياً سيستنزف ربع قرن من حياته. إذ قرر أن يكتب سلسلة مترابطة من الروايات تحكي عن شخصيات مختلفة ولكنها تنتمي إلى ذات العائلة، وأصبحت هذه السلسلة الروائية تُعرف بسلسلة «روغون- ماكار» (Les Rougon Macquart) وتضم 20 جزءاً.

مكنَّت هذه الأعمال الروائية زولا من صنع بصمته الخاصة في عالم الأدب وميّزته عن أشهر الروائيين في ذاك العصر من أمثال فلوبير، ستندال ودو موباسان.

أراد زولا من خلال رواياته تصوير حقيقة الحقبة التي عاش فيها والتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي رافقت نهاية الجمهورية الفرنسية الثانية، وقال عن مشروعه الأدبي إنّه يهدف إلى سرد «التاريخ الطبيعي والاجتماعي لأسرته في ظل الإمبراطورية الثانية» أي في ظل حكم نابليون الثالث.

كما سعى زولا لتأكيد أهمية الجانب الفيزيولوجي والعوامل الوراثية والبيئة الاجتماعية في تكوين البعد الأخلاقي لدى شخصياته الروائية. على سبيل المثال أسرة روغون–ماكار كانت تحمل جينات وراثية أدّت بمعظم أفرادها إلى الغرق، إما في إدمان الكحول وإما في الإصابة بالجنون.

كتب زولا عام 1867 روايته الأولى «تيريز راكين» التي لم تُحقق حينها نجاحاً ملموساً، لكنها بقيت محفورة في أذهان النقاد كونها أسست المعالم الأولى للمذهب الطبيعي في الأدب أو ما يُسمى بالطبيعانية.

وقد تأثر زولا كثيراً بالنظريات العلمية والطبيّة التي تطورت في تلك الفترة من القرن التاسع عشر، وخصوصاً المنهج العلمي الذي أطلقه عالم الإحياء «كلود برنار» في كتابه «مقدمة لدراسة الطب التجريبي» (Introduction à la médecine expérimentale)، إضافة إلى نظرية الاصطفاء الطبيعي لداروين،وحَوَّل زولا رواياته إلى مختبر تجريبي كبير حيث أخذ يُحرّك الشخصيات وفقاً لحتمية الظواهر البيولوجية والبيئية.

واعتاد مؤلف «بطن باريس» أن يجري مروحة واسعة من التحقيقات والتجارب، وأن يجمع أكبر قدر من المعلومات قبل أن يبدأ بالكتابة،فكان يزور المناجم وبيوت الليل والمسارح والمصانع لكي يتمكن من الإلمام بكل معطيات البيئة التي تعيش فيها شخوص رواياته. 

أشهر رواياته على الإطلاق

تتسم روايات زولا بكثير من الدراما والمآسي وتعِجُّ بالشخصيات التعيسة، ودائماً ما تكون نهاياتها حزينة، ومن أشهر ما كتب: 

1- جرمينال (عام 1885): واحدة من روائع زولا وأكثرها شهرة. تحولت إلى فيلم شارك فيه ممثلون معروفون كجيرارد ديبارديو. يروي هذا العمل المأساة اليومية التي يعيشها عمال المناجم وظروف العمل القاسية وغير الإنسانية إبان الثورة الصناعية. تُجسّد "جرمينال" الصراع الدائم بين العمل وقوة رأس المال. وتحكي عن إتيان لانتييه، الموظف الشاب الجديد في المناجم، المتحدر من أسرة روغون-ماكار، الذي يقود التمرد على السلطات والشركات الاحتكارية للمنجم، مطالباً بتحسين الأجور وظروف العمل. استخدم زولا في هذه الرواية التعابير التقنية لوصف الآلات الصناعية، وشبهها بالوحوش التي تلتهم الحياة البشرية.

2- الحانة (عام 1877): رواية تصور حياة البائسين الشقية وموتهم. يعالج زولا في هذه الرواية موضوع إدمان الكحول الذي يتسبب بانهيار أسرة سيدة تدعى «جيرفيز ماكار» وموتها المؤلم. مع هذه الرواية، وصل زولا الى قمة الشهرة، ربما بسبب الفضيحة الأخلاقية التي تسبَّبت بها حين صدورها، وعلى الرغم من انتقادات الصحف اليمينية واليسارية، أثنى الأديبان جوريس كارل هويسمانز وستيفان مالارميه على الرواية، وحصل زولا بفضلها على المال والمجد الذي كان يتوق إليه.

3- نانا (عام 1880): تعد تكملة للرواية السابقة لأنّ البطلة نانا هي ابنة جيرفيز ماكار. يروي هذا العمل الجوانب المنحطة في المجتمع الفرنسي والفساد الأخلاقي المنتشر ويتطرق إلى أسلوب حياة فتيات الليل في ظل الإمبراطورية الثانية. يقص علينا زولا حكاية نانا التي لا تمتلك أي مهارات تُذكر، ولكنها تتمتع بجمال وجاذبية طاغيين. تتمكن نانا من الحصول على دور في إحدى المسرحيات في باريس،وتُصبح واحدة من أكثر النساء المرغوبات في المجتمع الراقي، وتكسب مبالغ كبيرة من المال وتصل إلى قمة المجد بفضل عشاقها الأثرياء. ولكن،تبدأ نانا بالانحدار التدريجي بسبب حياتها الصاخبة وتفقد بريقها لتجد نفسها غارقة في الديون،وتموت أخيراً وحيدة بعد إصابتها بمرض الجدري.

شكَّل موقف زولا من فرديناند والسن استراهيزي منعطفاً أساسياً في السياسة الفرنسية، وأظهر أهمية دور المثقف الملتزم في المجتمع وأصبح مضرب مثل في الجرأة الأدبية والدفاع عن الحقيقة.

4- الوحش البشري (عام 1890): تسرد الرواية المصير المأساوي لطفل آخر لجيرفيز وهو جاك. يعمل هذا الأخير في قطاع السكك الحديد، لكنه يُخفي سراً رهيباً، و هو رغباته العميقة في ممارسة القتل والعنف، التي يسعى لقمعها من دون جدوى. تصف هذه الرواية البدايات الملحمية للسكك الحديد في باريس وعلاقتها بالمجتمع.

في عام 1898 خاطر زولا بمجده وبسمعته وحريته الشخصية عندما قرر كتابة مقال في جريدة «الفجر» الفرنسية بعنوان «إني أتَّهم» للدفاع عن النقيب الفرد دريفوس، وهو ضابط من أصول يهودية. اتُّهم دريفوس ظلماً عام 1894 بالخيانة العظمى والتجسس لمصلحة الجيش الألماني وطرد من الجيش ونفي إلى جزيرة الشيطان في غويانا الفرنسية.

  • فرديناند والسن استراهيزي
    فرديناند والسن استراهيزي

اكتشف ميجور في الجيش الفرنسي في ما بعد المذنب الحقيقي وهو المُقدَّم «فرديناند والسن استراهيزي»، ولكن الجيش رفض مراجعة القضية، فقرر زولا حينذاك أن يقوم بانقلاب صحافي،فكتب مقاله الشهير (J’accuse) متوجهاً إلى رئيس الجمهورية فيليكس فور ومتهماً وزارة الحربية والمحكمة العسكرية فى باريس، بتضليل الرأي العام وإخفاء الحقائق وانتهاك حقوق المتهم دريفوس.

حوكم زولا بسبب هذا المقال بتهمة التشنيع العام وهاجمه كثير من السياسيين والصحافيين، وانقسم المجتمع الفرنسي بين مؤيد ومناهض لدريفوس، فغادر زولا باريس إلى انكلترا خوفاً من السجن، وبقي هناك إلى حين إعادة القضاء الفرنسي فتح قضية دريفوس ثمّ العفو عنه، ولكنه لم يعش كثيراً ليرى تبرئة الرجل التامة من تهمة التّجسس.

شكَّل موقف زولا منعطفاً أساسياً في السياسة الفرنسية، وأظهر أهمية دور المثقف الملتزم في المجتمع وأصبح مضرب مثل في الجرأة الأدبية والدفاع عن الحقيقة، حتى إنَّ أحد الكُتّاب قال عنه «نحتاج على الاقل إلى 5 قرون لنصنع زولا آخر».

وفاة غريبة

  • إميل زولا
    إميل زولا

تُوفِّي إميل زولا مختنقاً عن عمر 62 عاماً، بسبب تسرب غاز أول أوكسيد الكربون في منزله نهار 29 من أيلول/سبتمبر عام 1902.

بعد سنوات من وفاة زولا، اعترف أحد جيرانه وهو على فراش الموت، بأنّه أغلق فوهة المدفأة في منزل زولا عمداً ليقتله، وذلك بسبب مواقفه السياسية ودعمه لدريفوس.

نُقلت رفات زولا لاحقاً إلى مقبرة العظماء في باريس وسجّي إلى جانب فيكتور هوجو وحضر النقيب دريفوس مراسم الدفن.