آثار غزة... التاريخ والآثار والعمران والكتب

كتاب "أثار غزة" ينطق بالشهادة الحق على ممارسات البطش والوحشية الإسرائيلية التي دمرت الحجر والشجر والبشر من أجل أن تكون غزة بلا تاريخ، بلا هوية، بلا ذاكرة.

  • "آثار غزة.. وحرب التاريخ" لحسام أبو النصر

ها أنذا،أمسك بكتاب شديد الأهمية، كثير الغنى، ثري بالمعلومات، حريص على التقصي والتتبع، يماشي التاريخ والكتابات التاريخية كما لو أنها ظله، ويتفحص الأقوال والمرويات والحكايات فيأخذ بما استحوذت عليه من إجماع وإقناع، وينحني أمام ما صنعته الأيدي، وما فكرت فيه العقول، وما أرادت أن تحتفظ به الذواكر ليكون كتاب الناس وشاغلهم، وكتاب الناس وحبهم للأرض، وكتاب الناس وسندهم، وكتاب الناس وشغفهم بالبناء، والعطاء، وحراسة الأرض وما فوقها من شجر، وأنهار، وبراري، وقرى، ومعابد، ومدارس تجول فيها القراءات مثلما تجول الرياح في الغابات الوسيعة.

  هذا الكتاب، هو كتاب في التاريخ والآثار والعمران والكتب التي دلت على الفكر الفلسطيني الوقّاد في منطقة فلسطينية ظنّنا أنها صحراء،لا عمران فيها يضاهي العمران في بيت لحم، وطبريا، وحيفا، ويافا، وعكا، وأريحا، والقدس، والناصرة، أعني بذلك غزة، هذه التسمية التي تطلق لتشمل قرى ومدن ومخيمات قطاع غزة كلها، مثلما ظنّنا وهماً أنها بلا تاريخ مجيد ناهض عال يحاكي تاريخ القدس على سبيل المثال، لكن الظن يظل ظناً وحسب، حين نعرف حقاً من هي غزة، التي يصفها المؤرخون الفلسطينيون العرب والأجانب بأنها نجمة فلسطين المضيئة طوال الأزمنة المنصرمة، وهي بوابة فلسطين الوسيعة المفتوحة على عالمين اثنين هما: العالم الداخلي، وهو الجغرافيا الفلسطينية، أعني القدس وبيت لحم، والناصرة، وطبريا، وأريحا، وكلها أمكنة ذات قداسة دينية، زيارتها واجبة، ومعرفتها ثقافة لا غنى عنها، وهي أمكنة نفوذ، خرجت من غلاف المحلية الفلسطينية، لتصير أمكنة عالمية، أمكنة حجيج، يقصدها البشر ليتطهروا، وليمحوا ما اعتقدوا أنه اقترافات الذنوب والعقوق، وليتخففوا ما ظنوه أثقالاً رانت على قلوبهم، وأجهضت أعتاقهم، وما حسبوه مشياً ضليلاً خاطئاً في دروب عتماتها جهيرة؛ أما العالم الثاني، فهو العالم الخارجي، عالم البحر الأبيض المتوسط، الذي شقوا فيه طرقاً ودروباً، وأبصروها ودلوا عليها عبر علامات راشدة، كي تقودهم إلى البلاد الغربية، على اختلاف مسمياتها التاريخية، بلاد الروم، بلاد الغال، بلاد الجرمن.. إلخ، هذا العالم الذي أرسلوا إليه، وعبر ميناء (البلاخية) الغزي أجمل منتجات بلاد الهند وفارس، من البهارات والأقمشة إلى الكتب وحكايات السحر والأساطير.

  بلى، بين يدي كتاب الباحث والمؤرخ الفلسطيني حسام أبو النصر الذي أوقف حياته من أجل التاريخ، والتراث، والكشف عن ما استبطنته عمارة الفلسطينيين في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينية، عنوان الكتاب هو "آثار غزة.. وحرب التاريخ" الصادر عن دار الفينيق في مدينة عمان/ الأردن، عام 2024، وفيه وثائق مصورة، وواجهات عمران مصورة لقلاع، وبيوت، ودور عبادة إسلامية (مساجد، وتكايا، وزوايا، وجمعيات خيرية، وخانات/ وجدت في الأصل، لتكون مدارس) وأخرى مسيحية (كنائس، وأندية، ومدارس، ومراكز لتعليم اللغات والمهارات، وقصور، وحمامات، وأسواق، وقناطر، وخانقاهات للإقامة، وخانات لتخزين البضائع، وخزانات مياه محفورة في الصخر تشبه خزانات المياه/ الصهاريج/ في القدس.

  الكتاب، ومنذ استهلاله الأول، أو قل عتبته الأولى، مهدى إلى والدَي الكاتب، وهما شهيدان، رحلا برصاص المحتل الإسرائيلي في غزة هاشم، في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، كما يشي الكتاب أيضاً بأهميته منذ استهلاله الثاني، أو عتبته الثانية، عبر التقديم له، بكلمة وافية من وزير الثقافة الفلسطينية عماد حمدان، عبّر عنها بجملة واحدة هي: هذا كتاب الذاكرة التاريخية لمدينة غزة، وبعد ذلك سيرى القارئ كلمة تقريظية للدكتور محمد الكحلاوي رئيس المجلس العربي للآثاريين العرب، تحدث فيها عن الجهد الكبير الذي بذله الكاتب حسام أبو النصر لكي يتقصى ويجمع كل هذه المعلومات القيّمة، وبعضها غير معروف من قبل المؤرخين السابقين، وهي معلومات موثقة بالبرهان، وتعدد الرواة والآراء، والصور، والوثائق.

  ولأن معلومات الكتاب كثيرة، ومتشعبة، وأمكنتها متعددة الطبقات، فإنني هنا، سأقصر الحديث على ما فعلته الأيدي الإسرائيلية الآثمة القذرة، من خراب، وتدمير، ونسف، وتجريف، وإزالة، ومحو لمعظم آثار قطاع غزة، ظناً منها بأنها ستمحو تاريخ غزة، وتبيد الشواهد العمرانية فيها، وأنها ستمحو معالم الذاكرة الغزية التي تؤرخ لعمران حضاري عمره أكثر من ثمانية آلاف سنة من العيش فوق أرض غزة، ومجاورة لبحرها، وزراعة أرضها، واستثمار موقعها الجغرافي المذهل لأنه واقع في مثلث جغرافي ذهبي يصل آسيا بأفريقيا وآسيا وأفريقيا ببلاد الغرب.

  يؤرخ كتاب حسام أبو النصر "آثار غزة..وحرب التاريخ" حقاً للحرب المفروضة على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023، وحتى آخر أيام عام 2024، وهو يتتبع تدمير الآثار الغزية وحرقها وتجريفها ومحو معالمها ودوسها بجنازير الدبابات والبلدوزرات، سواء أكانت معابد/ ساجد، مثل مسجد السيد هاشم (جد النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم)، والمسجد العمري، وكلاهما يعودان إلى بداية الفتح الإسلامي لبلاد الشام، ومساحتهما هائلة، وطراز عمرانهما إسلامي (قناطر، وأقواس، وبوابات، ومقرنصات، وأعمدة، وتيجان، ورسوم نباتية، وأدراج، وصحون، وباحات، ومخازن، ومآذن عملاقة، وكذلك مسجد المنطار الواقع شمال غزة، وجامع السيدة رقية بنت أحمد في منطقة الشجاعية، أحد أهم أحياء غزة، يضاف إلى ذلك المدارس الملحقة بالمساجد، وهي أمكنة تشبه أمكنة الجامعات في عصورنا الحديثة، وهي رحبة، تحيط بها أمكنة سكن الأساتذة والطلاب، والحدائق، وقاعات الدروس الخارجية المضاءة بالقناديل النحاسية، ولاسيما في أوقات الصيف حين تشتد درجات الحرارة، وكذلك الزوايا والتكايا الملحقة بالمساجد، والتي كانت مختصة بالتدريس، وإطعام الفقراء والمحتاجين وأبناء السبيل وإسكانهم، وهي ملحقة بمستودعات الغلال، ويقوم على العمل فيها متطوعون من مختلف بلدان العالم، وهذه المعالم الأثرية ناطقة بالأزمنة التاريخية التي مرّت بها الحياة الغزية، وناطقة ومعبّرة عن الثقافة الأخوية، والتعاطف البشري والتسامح بين الناس الذين جاؤوا إلى غزة عبر البحر الأبيض المتوسط، ومعظمهم غربيون، عاشوا حياة أهل غزة، وتطبعوا بطباعهم، وآمنوا بمعتقداتهم فاعتنقوها، وكذلك من جاؤوا عبر أفريقيا، فقرّ بهم المكان في غزة، وكل هذه الآثار دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية المتوحشة، هدمت أركانها وأسقطت سقوفها، ودمّرت أسوارها، وحرقت كتبها، وقتلت كل من كان قائماً على خدمتها، بل قتلت من لجأ إليها من النازحين الذين طردوا بالإرغام والإرهاب من الشمال؛ والحال الباطشة كانت كذلك مع دور العبادة المسيحية، والكنائس، وملحقاتها من أندية، ومدارس، ومشافٍ، ومراكز تعليم، مثل كنيسة القديس برفيريوس العريقة، وهي أقدم كنيسة في غزة، يعود تاريخ بنائها إلى عام 406 ميلادية، لقد دمرت هذه الكنيسة، ونهبت محتوياتها ومقتنياتها، وهي لا تقدر بثمن، وقتل الناس الذين لجؤوا إليها، وهم من المسيحيين والمسلمين معاً، وكذلك دمرت الكنيسة المعمدانية، وعمرها أكثر من ألف سنة، ودمر المشفى المعمداني الملحق بها.

  وعدا عن تدمير هذه المعابد الجليلة، دمرت الحرب الإسرائيلية الآثمة كل المكتبات الغزية الرسمية، والأهلية في آن، لقد أحرقت جميع مكتبات الجامعات الغزية، وفيها آلاف الكتب النادرة، مثلما أحرقت المكتبة الكبيرة جداً في مركز التخطيط، وقد جاءتها الكتب محمولة على البواخر من الهند والصين ومالي وقرطبة، وهي كتب احتواها برج غزي كبير متعدد الطبقات، ومنها كتب حجرية وفخارية وجلدية، وأخرى مكتوبة على ورق البردي، وبماء الفضة والذهب.

  ودمرت القوات الإسرائيلية ميناء (البلاخية) القديم الذي يعود إلى سنة1000 قبل الميلاد، وهو مدرج على لائحة التراث العالمي، مثلما دمرت مواقع أثرية كثيرة، كان علماء الآثار يتغنون بها وهم من بلدان عديدة، ومنها تل زعرب، وتل رفح، وتل أم عامر، أما العمران القديم لمدن قطاع غزة، وعمره يؤرخ لعصور عرفتها غزة طوال 1500 سنة ماضية، فقد دمرته الطائرات الإسرائيلية تدميراً كلياً أو جزئياً، ومثله أيضاً، البيوت القديمة، والقصور، والخانات، والأسواق، والمدارس، والحمامات، والأسوار، ولم تسلم من التدمير أيضاً، المقابر القديمة التي تعود إلى آلاف السنين، وكذلك لم تسلم من التدمير المقامات الدينية، والمزارات التي دفن فيها الصالحون مثل مقام الشيخ عطية في حي الزيتون في غزة، ومقام الشيخ علي المنطار على جبل المنطار، ومقام الشيخ بشير بن عبد الله، ومقام الشيخ عبد الرحمن الأوزاعي بجوار ضريح السيد هاشم بن عبد المطلب، والأخطر أيضاً يتمثل في تدمير متاحف غزة، متحف قصر الباشا، ومتحف العقاد، والمتاحف في دير البلح، وخان يونس، ومتحف الخضري، ومتحف المخطوطات الغزية، ومثل هذا التدمير حدث أيضاً حين دمرت القوات الإسرائيلية المحتلة الأبنية الفلسطينية التي تضم الأرشيف الفلسطيني، بكل صوره، ووجوهه، وموضوعاته، وعمره آلاف السنين، وبعض هذا الأرشيف كان موجوداً في المحاكم الشرعية، وقد دمرت المحاكم، واحترقت مخطوطات الأرشيف، والسجلات الرسمية التي تعود إلى مئات السنين، وفيها تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية التي عاشها أهل غزة، وبعض هذا الأرشيف أيضاً كان موجوداً في دور البلديات التي دمرت واحترق كل ما فيها.

  أما الأسواق القديمة، وأبنية غزة القديمة فقد دمرت تدميراً كاملاً، وفيها بيوت قديمة، وقصور، وقلاع، وأسواق، وقناطر، وأقواس، وأعمدة، وفسيفساء مذهلة.

  وبعد، كتاب المؤرخ حسام أبو نصر، كتاب صرخة موجعة لهول ما اقترفته الذهنية الإسرائيلية المتوحشة، وهو كتاب حق، ومعرفة، وعمران، وحضارة بناها الغزيون عشاق الأرض والتاريخ والبناء، وهو وثيقة ناطقة بالصور، والمعلومات القديمة والحديثة، وقد صارت كل معالم غزة اليوم رماداً أو ركاماً، فالكتب والمخطوطات، ووثائق الأرشيف التي حماها الفلسطينيون من حريق القنابل والصواريخ الإسرائيلية، والحاجة الملحّة إلى استخدامها كوقود.. أشعل الحقد الإسرائيلي النار فيها مرة تلو مرة.

  إنه كتاب، ينطق بالشهادة الحق على ممارسات البطش والوحشية الإسرائيلية التي دمرت الحجر والشجر والبشر من أجل أن تكون غزة بلا تاريخ، بلا هوية، بلا ذاكرة، لكن أهلها وما احتفظوا به في ذواكرهم، والكتب التي حرسوها كي لا تكون لقمة سائغة لنيران قنابل الإسرائيليين وصواريخهم، والحياة التي عاشوها تحت القصف والتشريد، وفي ظل الجوع والعطش والبرد والخوف، صموداً وصبراً، ودفاعاً عن تاريخهم وهويتهم ومستقبلهم.. هي الكتاب الأوفى الذي ستقرأ فيه الأجيال الطالعة من بين ألسنة النيران..معاني الوطنية، وقيم الحرية، وقصص البطولة، وكتابة التاريخ.. بماء القلب.

اخترنا لك